منذ نشأته، لم يكن اليسار التونسي، منفصلاً عن التونسيين وعن همومهم. وليست التجربة اليسارية أيضاً غريبة على التونسيين، الذين عاصروا التجربة الاشتراكية في بلدان شقيقة، أو اختبروا فكرة التعاضد، وتحت ظلّ دولة وطنية تدعي انتهاجها لسياسة اجتماعية تناصر الفقراء والمهمشين. وحتى إن لم يكن شقٌّ واسعٌ من أبناء الشعب مواكباً لنشأة اليسار وتطوره وتحركاته إبان سنوات القمع، ولنقده اللاذع لسياسات نظام الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وما دفعه مقابل ذلك من سجن واعتقالات وتعذيب وتشويه، فإنه اكتشف هذا الجسم السياسي مع الثورة، متعرفاً أكثر على طروحاته عندما فتحت أمامه المنابر. وإن أبهر اليسار التونسي بطرحه الاجتماعي ورؤيته الاقتصادية، على غرار تأميم الثروات والتدقيق في المديونية، فإن تركيز خصومه على طرحه في ما يتعلق بدور الدين في السياسة، وبالحريات الفردية، ألبسه ثوباً نخبوياً، وأبعد عنه عموم الناخبين.
وعلى الرغم من أن الشعارات التي رفعها اليسار التونسي استخدمت خلال الحراك الثوري، ومنها مطالبته بالذهاب نحو مجلس وطني تأسيسي، إلا أن ذلك لم يؤثر على حاصله الانتخابي في العام 2011، فلم ينل حزب العمال إلا ثلاثة مقاعد، و"الوطنيون الديمقراطيون" نالوا مقعداً يتيماً، و"القطب الحداثي" (ضمّ المنتمين لليسار ومستقلين) خمسة مقاعد، فيما كانت حصّة الحزب الاشتراكي الديمقراطي مقعدين، إلى جانب مقعد واحد لحزب النضال التقدمي. آنذاك، حققت الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية نجاحاً نسبياً أهّل بعضها للدخول في ائتلاف الحكم مع حركة "النهضة"، فيما تزعّم بعضها الآخر المعارضة في الحوار الوطني، قبل أن تتفكك بولادة حزب "نداء تونس" الذي سطا على قواعدها وممثليها في البرلمان.
في ذلك العام، تلقى اليسار التونسي الإشارات الانتخابية، معلقاً شماعة الإخفاق على تشتته وشراسة حملات التكفير والترذيل التي طاولته. وخطا اليسار خطوة نحو التوحد في إطار الحزب اليساري الكبير "الجبهة الشعبية"، التي أدى اغتيال قياديين مؤسسيين فيها، هما شكري بلعيد ومحمد البراهمي، إلى جمعها قاعدةً واسعة من المتعاطفين. لكن بدل استغلال اللحظة وزخم التعاطف، فضلت قيادات "الجبهة" والمسار الدخول في "جبهة الإنقاذ" التي طغى عليها "النداء"، والذي عاد وفكّ ارتباطه بها ما إن انتفت حاجته الى وجودها سياسياً بدخوله الحوار الوطني وحصول بوادر توافق مع الحزب الأغلبي، "النهضة".
وعلى الرغم من تأثير "جبهة الإنقاذ" وما أثارته من نزاعات داخلية صلب "الجبهة"، فإن هذا الجزء الموحد من اليسار، نافس، على تناقضاته، الحزبين "اليمينيين"، "النهضة" و"النداء"، في الانتخابات التشريعية الثانية بعد الثورة (2014)، وفاز بـ15 مقعداً، وحصل مرشحه للانتخابات الرئاسية حمة الهمامي على المرتبة الثالثة.
لكن السقوط المدوي الذي أصاب اليسار التونسي في الانتخابات التشريعية الأخيرة، تعمقت أسبابه خلال الفترة الفاصلة بين الدورتين الانتخابيتين الأخيرتين (2015 -2019). ولا يمكن ألا يؤخذ بعين الاعتبار، حمى الزعامة التي اشتدت لدى بعض قياداته، وسوء إدارة "الجبهة الشعبية" وعزلها عن الجهات، والاختلافات الجذرية أحياناً في بعض المواقف بين الأحزاب المكونة لها، والتي لم تصمد كثيراً إلى أن أدت لانفجارها قبيل الانتخابات.
ولم ينس الناخبون حجم التناحر بين قيادات "الجبهة"، وتراشقهم بالتهم والتخوين وخلافهم على منصب رئيس الجمهورية على الرغم من أن كل المؤشرات كانت تظهر عدم وجود أي حظوظ لهم. كما لم يغفر التونسيون حدة الصدام بين حزب "العمال" و"الوطنيين الديمقراطيين"، وإن كان بعضها صائباً في ما تعلق بطريقة إدارة "الجبهة". كما لم ينسوا طمع بعض القيادات بالسلطة، أو خطاباتها المكررة، فجاءت كلمتهم فصلاً لتًسحب من "الجبهة الشعبية" قيادة المعارضة البرلمانية.
وفيما منعت الصدمة قياديين في اليسار من أن ينبروا لتقييم الهزيمة الانتخابية، وجعلت كثراً منهم يفضلون العزوف عن الظهور الإعلامي، أعلن الأمين العام لحزب "رابطة العمل" اليساري نزار عمامي استقالته من رئاسة الحزب تحملاً للمسؤولية. وسارعت قيادات يسارية أخرى الى التشكيك في العملية الانتخابية وفي شرعية البرلمان الجديد، على غرار القيادي في حزب "العمال" جيلاني الهمامي.
في المقابل، لم تبد بعض القيادات اليسارية خشية من تقييم الوضع بطريقة موضوعية. وفي هذا الإطار، رأى القيادي في ائتلاف "الجبهة" زهير حمدي، في حديث لـ"العربي الجديد"،
أن "الجبهة فقدت الزخم الذي حققته عام 2014 لأسباب داخلية عدة، ومتعلقة بإدارة خلافاتها". واعتبر أن "الخلاف الأخير بين قيادات الجبهة، والذي فشلت الأطر الداخلية في استيعابه وإدارته، كان له الأثر الفادح على الأداء العام والنتائج المحققة، حيث أدى إلى تشتت الأصوات وانخفاض ثقة الناخبين".
من بين أسباب الإخفاق أيضاً، وفق حمدي، فشل اليسار في استغلال المساحة الشاغرة في المجتمع، وفي الولوج إلى العمق الشعبي، ما فتح المجال أمام قوى أخرى "يمينية" تتمثل أساساً في "الجيوش الخلفية لحزب النهضة"، لأن "ترفع شعارات اليسار وتتاجر بها وتصعد إلى البرلمان".
إلى ذلك، أضاف القيادي في ائتلاف "الجبهة" أن الأحزاب اليسارية واجهت أيضاً موجة من الترذيل وتركيزاً لضرب صورة قياداتها طيلة السنوات الماضية، ترافق مع توجه دولي لتغذية اليمين الشعبوي وتقويته لم تنج منه تونس، فواجهت قوى اليسار حملات تشويه وترهيب وتكفير أثرّت على الرأي العام، على حد قوله.
وأكد حمدي أن "الجبهة" مطالبة اليوم بتقديم نقد ذاتي ومراجعات عميقة وموضوعية لمسارها السابق، وخاصة الاعتراف بالخطأ وتقييم الأداء ونظرة الجماهير لقيادييها وأسلوبهم.
من جهته، يعتبر الكاتب والصحافي سمير بوعزيز، أن التيارات اليسارية في تونس لم يكن لديها عمق جماهيري كبير باستثناء وجودها في نقابات عمالية أو في المنظمة الطلابية. في ما عدا ذلك، فهي بحسب رأيه تمارس العمل السياسي بما يشبه مجموعات الضغط لا أحزاباً فاعلة تراهن على الوصول إلى السلطة.
ورأى بوعزيز، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن الأحزاب والتشكيلات اليسارية لم تتمكن من اقتناص لحظة الثورة من أجل تغيير ومراجعة منظومتها الفكرية، فحافظت على هيكلتها التقليدية غير القادرة على احتضان أكبر عدد ممكن من المشاركين في الحياة السياسية لاسيما من فئة الشباب. واعتبر أن هذه الأحزاب والائتلافات لم تحدد أهدافاً واضحة لها، وسجلت ارتباكاً في تعاملها مع مسألة السلطة وسعيها نحو المشاركة فيها أو بقائها في إطار المعارضة، حتى أنها لم تتمكن من الحفاظ على وحدة صفها ومناضليها أو بناء قيادات جديدة قادرة على الاقتراب من الشباب واستقطابه.
وفي السياق ذاته، أوضح بوعزيز أن رصد أداء هذه الأحزاب كشف عجزاً في تقديم طرح جديد في ما يتعلق بالدولة ومؤسساتها أو بمشاريع تشريعية، إذ اكتفت بمعارضة خيارات الأغلبية الحاكمة. وبرأيه، كان من الأجدى لليسار التونسي أن يفكك المعادلة المقلوبة لشارع تونسي يتبنى مقولاته المتعلقة بالمطلبية الاجتماعية لكنه يصوت لأطراف يمينية، وأن يراهن على مراكمة تاريخية عبر أدوات تقربه من التونسيين لا سيما من القواعد التي لم تلتفت إليها الدولة، ولم تلج إليها الأحزاب المنافسة. ولفت إلى أن محاولة الأحزاب اليسارية التشبه ببقية الأحزاب في الهيكلة والبنية، دون مراعاة الخصوصية التي سمحت لفاعلين آخرين بالتماسك والديمومة، أضر أيضاً بها.
وذكر بوعزيز أن الجناح النقابي واليسار داخل منظمات المجتمع المدني فشل بدوره في توجيه الرأي العام نحو انتخاب القوائم التي يدعمها.
إلى ذلك، رأى مراقبون أنه من المنطقي وضع خسارة اليسار التونسي في إطار أوسع وسياق دولي، يقود نحو انحسار هذا التيار عالمياً، لقاء صعود التيارات اليمينية المحافظة. هذا الإطار، بحسب هؤلاء، له انعكاساته على المشهد التونسي، ففي الوقت الذي تحظى فيه أحزاب يمينية أو وسطية بدعم دولي وبتمويلات ضخمة واهتمام إعلامي، وجد اليسار التونسي نفسه خارج دائرة الضوء والدعم، وفي إطار الحسابات التي تدفع جلّها نحو تحجيم دوره، من دون أن يحظى حتى بتمويل عمومي يسمح له بتكثيف نشاطه والتواجد في الميدان. ولم يسلم أيضاً اليسار التونسي طيلة السنوات الماضية من خطاب التقزيم في الإعلام المحلي الذي لم يمنحه مساحة للنقاش إلا في إطار وحيد، وهو المتعلق بانقساماته والخلافات بين قياداته.
ويتفق القيادي في حزب "المسار الاجتماعي الديمقراطي"، الجنيدي عبد الجواد، في حديث لـ"العربي الجديد" مع هذا الرأي، معتبراً أن هذه الأحزاب التي كونها طلاب وعمال وأجراء تونسيون، والتي لا تتمتع بتمويل عمومي، لا تقوى على مجاراة نسق أحزاب أخرى تتحصل على تمويلات ضخمة. كذلك، رأى عبد الجواد أن عامل التشتت أدى دوره في مسألة الإخفاق. ففي ظل انقسام هذا التيار لعدد واسع من الأحزاب الصغيرة الرافضة للالتقاء على أرضية مبدئية على الرغم من تقارب مرجعياتها، تشبثت مكوناته بقوالبها الجاهزة، لتبقى مرتبطة بطرح أيديولوجي تجاوزه الزمن. وقال عبد الجواد إن اليسار التونسي لم يفهم بعد أنه ينبغي عليه تجاوز المصالح والحسابات الضيقة، والانصراف إلى المعارك المهمة التي تعني مباشرة الطبقات الكادحة، فالوضع لم يعد يحتمل هذا التشتت.
في المحصلة، لم تغط رقعة الفشل "الجبهة الشعبية" في تونس فقط، وإنما شملت دائرة أوسع لليسار، طاولت كل التيارات المتحدرة من المرجعية الفكرية ذاتها. على الرغم من ذلك، هذا اليسار لم يضمحل بفقدانه تمثيليته الانتخابية، فهو لا يزال متغلغلاً في النقابات العمالية والمنظمات الطلابية، ويبدو أنه مصمم على مواصلة مساره، بالإضافة إلى انطلاق يسار احتجاجي معارض للحكم وأقلي، بانتظار التقييم الشامل.