رسالتان أساسيتان خرجتا من خطاب الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، أول من أمس: أولى لحركة النهضة، وثانية لرئيس الحكومة التونسية، يوسف الشاهد، إذ أكد أنه "تحالف مع حركة النهضة لمدة خمس سنوات، ولكن علاقته اليوم بها انقطعت، بسبب النهضة أو بسعي منها، وهم غيروا حلفهم مع الباجي قائد السبسي من أجل خيارات أخرى، وقد يفهمون ربما بعد فترة أن بعض خياراتهم كانت خاطئة"، مؤكداً أن "لا شيء ثابتاً في السياسة وأن المعادلات تتغير باستمرار".
وقال السبسي، من جهة أخرى، إن رئيس الحكومة الذي جاء به هو إلى الحكم "أصبح فاقداً للشرعية"، وأن لا مشكلة شخصية لديه مع الشاهد ويتمنى نجاحه ولكن لا سلطة له عليه، وأن دور البرلمان هو مراقبته وأن يجدد شرعيته أو لا يفعل. وأعلن السبسي أنه لن يلجأ، اليوم، إلى الفصل 99 (الذي يتيح للرئيس طلب إقالة رئيس الحكومة من البرلمان) و"لكن في السياسة تتغير المواقف"، مضيفاً أن للشاهد اليوم أغلبية (كتلة الائتلاف الوطني وحركة النهضة) ولا شيء يمنعه من التوجه للبرلمان ليجدد شرعيته وينهي هذا الجدل. كثيرون اعتبروا أن خطاب السبسي كان خطاباً انهزامياً، وأنه أصبح وحيداً ومعزولاً، ولكن الذين يعرفونه جيداً يدركون أن هذا الكلام مبالغ فيه وقد يكون مجانباً للحقيقة، إذ جاءت رسائله المبطنة حاملة تهديدات للجميع، وخصوصاً لحركة النهضة وللشاهد. ويعتبر آخرون أنه قد يؤشر إلى مرحلة صراع جديدة يمتلك فيها السبسي أسلحة مهمة، إذ إن "مستقبله السياسي وراءه" على حد تعبيره، ولا شيء يخسره في هذه المعركة، على عكس الآخرين، بعد أن أصبح حراً من ثقل نجله حافظ وحزب نداء تونس والتزامه الأخلاقي بالتوافق مع رئيس "النهضة" راشد الغنوشي، وليس مع حركة النهضة.
وسارعت حركة النهضة، أمس الثلاثاء، إلى تأكيد التزامها بمسار التوافق مع رئيس الجمهورية، وتقديرها "لدوره الوطني منذ انطلاق الثورة في إرساء ثقافة التشاور والحوار بين الفرقاء السياسيين في مواجهة خيارات التفرد والإقصاء والمغالبة، وهو ما تفاعلت معه الحركة بإيجابية منذ لقاء باريس، وجسدته كل المحطات التي لم يجد فيها رئيس الدولة من جهتها إلا الدعم والمساندة"، حسب تعبيرها. وأشادت الحركة بحرص السبسي على تطمين التونسيين بخصوص إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في موعدها المحدد، بما يعزز مسار الانتقال الديمقراطي ويعزز الثقة الداخلية والخارجية في التجربة التونسية. لكن السبسي، الذي أكد أنه دفع ثمناً باهظاً عندما دافع عن "النهضة"، قال بوضوح، الإثنين الماضي، إن هذه الحركة غيرت رهانها من السبسي إلى الشاهد، ملمحاً إلى أنها ستكتشف أنها كانت على خطأ وأن المتغيرات في السياسة كثيرة ولا تبقى على وضع بعينه. ويشير السبسي إلى ما تذهب إليه تحليلات عديدة، من أن دوائر في "النهضة" اعتبرت أن الرئيس ضعُف في الفترة الأخيرة، وأن سلطة نجله حافظ على "نداء تونس" تراجعت كثيراً، وكان عليها أن تبحث عن شريك مستقبلي يمكن البناء معه لاستمرار الشراكة مع قوة وسطية ليبرالية تشمل جزءاً من العائلة الدستورية، وهي مواصفات تتوفر في الشاهد، الذي يثبت حتى الآن أنه الرجل القوي الذي يمكن الاعتماد عليه، وهنا يكمن أصل الخلاف بين قراءتي السبسي والغنوشي في تقدير الموقف.
وسيكون على الرئيس التونسي أن يثبت لحليفه القديم، راشد الغنوشي، أن اختياره لم يكن في محله، وسيبدأ العمل على فك هذا الارتباط بتوجيه كل المدافع الثقيلة نحو أحد أضلاعه، الشاهد، ولذلك يرجح كثيرون بداية فصل جديد من المعركة بين قصري الحكومة والرئاسة، أولى محطاتها ترميم "نداء تونس" بإقناع المستقيلين بالعودة بعد إبعاد نجل السبسي إلى الخطوط الخلفية وتكثيف العقبات الاقتصادية والاجتماعية أمام الشاهد وإحراجه أمام الرأي العام ودفعه إلى الاستقالة. ويخشى مراقبون من تدني مستوى الصراع إلى ما يسمى بحرب الملفات وتصفية الحسابات بأسلوب لا يراعي هشاشة الوضع العام في تونس، ويهدد السلم الاجتماعي، بعد أن دخلت المعركة مرحلة صراع البقاء. ويتمنى كثيرون أن يُدار الصراع تحت العنوان الدستوري وليس غيره، وفي هذا يحتفظ السبسي أيضاً بورقة أخيرة ومهمة، أي الفصل 99 من الدستور، لكنها ستكون آخر الأوراق إذا فشلت بقية التكتيكات، وهو لم ينف استعمالها حين يأتي وقتها، ولكن في الأثناء لا تزال الطريق طويلة، وهو لم يفقد بعد كل أصدقائه وحلفائه، وعلى رأسهم اتحاد الشغل.
ويتساءل كثيرون عما إذا كانت العلاقة قد انتهت تماماً بين السبسي و"النهضة"، وفي هذا كلام كثير حول هذه العلاقة وتطوراتها في السنوات الاخيرة. ويعود أحد القياديين المقربين من الغنوشي، رفيق عبد السلام، إلى بعض تفاصيلها. ويقول، في نص نشره على صفحته الرسمية في "فيسبوك" تفاعلاً مع الخطاب، إنه لا يفهم من كلام السبسي، في حواره التلفزيوني، "أي دعوة للقطيعة مع النهضة". ويكتب عبد السلام أن "الرئيس قال إن النهضة اختارت أن تنفض يدها منه، ونحن نقول لسيادته هذا الكلام غير صحيح. فهو محل تبجيل واحترام في شخصه وموقعه ودوره التاريخي، وإذا كان هناك اختلاف يتعلق بمسألة تغيير الحكومة في هذا الظرف السياسي والاقتصادي الحساس الذي تمر به تونس، فهو لا يفسد للود قضية. النهضة لم تكن مقتنعة بالإطاحة بالحبيب الصيد، لكنها تنازلت من أجل الرئيس وحزب الرئيس، والنتيجة أنها وجدت نفسها مجبرة مرة أخرى على الموافقة على تغيير الشاهد دون سبب مقنع، بل لأسباب لا علاقة لها بأداء الحكومة. وفي الانتخابات الجزئية في ألمانيا تنازلت عن حقها في الترشح، بل ودعمت مرشح النداء، والنتيجة أنها باتت مسؤولة عن فشله في تعبئة 50 أو مائة ناخب إضافي".