رحلة إلى أميركا العميقة: مشاهدات بين العنصرية والتاريخ والموسيقى(1-2)

26 اغسطس 2018
ميدان الكونغو مهد الموسيقى في نيو أورليانز (العربي الجديد)
+ الخط -
للجنوب الأميركي المسمى "أميركا العميقة"، حكاياته، الإيجابية منها والسلبية، خصوصاً في ولاية لويزيانا ومدينتها الأشهر نيو أورليانز، التي يعبرها نهر الميسيسيبي قبل تمازجه مع مياه خليج المكسيك، مدينة متماهية مع بحيرتي بونتشارتراين وبورني. تدرك منذ اللحظة الأولى لوصولك إلى مطار مدينة نيو أورليانز أنك أمام مدينة وولاية مختلفتين. فقد أطلق على المطار اسم مغني الجاز الأسطوري لويس أرمسترونغ، الذي ولد في المدينة لأسرة من أصول أفريقية فقيرة في بدايات القرن الماضي، وتعلّم عزف الموسيقى في شوارع المدينة، وصعد نجمه ليصبح ملك موسيقى الجاز، وهو الذي نجح في نقل هذا النوع من الموسيقى والغناء لما وراء مجتمع الأميركيين الأفارقة ليصبح لوناً موسيقياً أميركياً خالصاً. وعلى الرغم من عدم كون أرمسترونغ ناشطاً حقوقياً أو داعية سياسياً، إلا أن موسيقاه دعمت النظرة الإيجابية تجاه الأميركيين الأفارقة، وأثّرت إيجابياً على دحض مقولات العنصرية والاستعلاء الأبيض التي لا تزال تسيطر على عقول الكثيرين في ولايته الأم.

ويرجع اسم ولاية لويزيانا إلى ملك فرنسا لويس الرابع عشر. وكانت الولاية لعقود طويلة إحدى أهم المستعمرات الفرنسية في أميركا الشمالية. لكن بدايات لويزيانا الحديثة جاءت عام 1528 عندما اكتشفها الإسبان وأصبحت جزءاً من المستعمرات الإسبانية في أميركا الشمالية قبل أن تقع في يد الفرنسيين عام 1682. ثم خسرها الفرنسيون لصالح بريطانيا عقب الهزيمة في حرب السنوات السبع عام 1763، وذلك قبل أن يستعيدها نابوليون بونابرت لفرنسا عام 1800.

وبعد تأسيس الدولة الأميركية المستقلة وحصولها على استقلالها رسمياً عام 1783، فاوض الرئيس توماس جيفرسون، نابليون بونابرت واشترى منه الأقاليم الواقعة غرب نهر الميسيسيبي وصولا لجبال الروكي في الغرب الأميركي مقابل 3 ملايين دولار، في ما عرف بعملية "شراء لويزيانا". وحصلت لويزيانا عام 1812 على وضعية "ولاية عامة" لتصبح الولاية الثامنة عشرة ضمن الاتحاد الأميركي، ثم انضمت إلى ولايات الجنوب التي استقلت مكوّنة اتحاداً كونفيدرالياً بسبب تمسكها بالعبودية، وهو ما أدى لنشوب الحرب الأهلية الأميركية (1861 ـ 1865). وعملياً كانت عملية شراء لويزيانا تتعدى شراء الولاية بحدودها الحالية، لتشمل أقاليم 13 ولاية من خريطة اليوم تمتد من الحدود الشمالية مع كندا وصولاً لخليج المكسيك جنوباً ومن نهر الميسيسيبي شرقاً لحدود جبال الروكي في الغرب الأميركي. ويحتضن نهر الميسيسيبي مدينة نيو أورليانز على شكل هلال، وهي المدينة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في الولاية، إذ تسكنها أكثر من 390 ألف نسمة، وتحتفل هذا العام بالذكرى الـ300 لتأسيسها.

وتتميز الولاية اليوم بتزاوج فريد بين حقب تاريخية مختلفة ذات مزيج إسباني فرنسي بريطاني أُضيف إليه استقدام مئات الآلاف من الأفارقة، ممن كانوا عبيداً في الماضي. وشكّل هذا الأمر نكهة وطبيعة خاصة لا يوجد لها مثيل في بقية الولايات المتحدة، سواء كان ذلك في نوعية المأكولات المحلية المتوافرة أو الطبيعة الموسيقية، ناهيك عن طريقة ونوعية وطراز البناء والمعمار.

قبل 13 عاماً كشف إعصار كاترينا الذي ضرب جنوب الولايات المتحدة في صيف عام 2005 أن التفرقة والعنصرية تجاه الأميركيين الأفارقة لم تنته بعد في الجنوب الأميركي. وتسببت الفيضانات في إغراق 80 في المائة من ولاية لويزيانا، وارتفع منسوب المياه عن مستوى سطح البحر نتيجة لغزارة هطول الأمطار بلا توقف لأيام، إضافة لوقوع مدينة نيو أورليانز تحت سطح البحر بمقدار يراوح بين 30 سنتيمتراً وصولاً لأكثر من مترين في بعض المناطق. واختفت الدولة الأميركية أياماً عدة، في مثال كبير على سوء إدارة الأزمات. وهو ما أدى لموجة غير متوقعة من الأنشطة الغوغائية والفوضى العارمة، ووقوع حالات واسعة من أعمال السرقة والنهب قلما تشهدها الولايات المتحدة. وقُدرت الخسائر الأولية بما يفوق المائة مليار دولار، إضافة إلى مقتل نحو عشرة آلاف شخص معظمهم من الأفارقة الأميركيين الفقراء ممن لم يمتلكوا ما يكفي من المال للتحرك أو الهروب وترك منازلهم. وتسببت الصور المريعة التي بثتها شاشات التلفزيون عن الدمار الذي أحدثه إعصار كاترينا بنقاش شائك حول مسألة اللون في الولايات المتحدة بعدما اتضح أن معظم الضحايا من الأميركيين الأفارقة. ورغم أن اقتصاد المدينة استعاد قوته تدريجياً، إلا أن تأثيرات الكارثة لا تزال ملحوظة في بعض أنحاء المدينة التي خسرت أكثر من 10 في المائة من سكانها منذ إعصار كاترينا، سواء بالنزوح الداخلي أو الهجرة إلى بلدان أخرى.

ويبلغ عدد الأفارقة الأميركيين اليوم ما لا يقل عن ثلث عدد سكان الولاية البالغ 4.6 ملايين شخص. من هنا يظهر بوضوح تراث العبودية الذي لم تشهد ولاية أخرى مثيلاً له في القسوة والتطرف. ويدل ذلك على أن التفرقة العنصرية ما زالت حاضرة بقوّة في لويزيانا، كما يشير التاريخ الحي للعبيد الأفارقة في لويزيانا في "مزرعة - عزبة ويتني". وتقع المزرعة على الضفة الشرقة لنهر الميسيسيبي في منطقة والاس بمقاطعة سان جورج في جنوب غربي ولاية لويزيانا. وهي مزرعة احتفظت بها الولاية شاهداً على ما تعرّض له العبيد في هذه البقعة من الأرض قبل 150 عاماً. وعلى مساحة ألفي فدان، عاش لعقود من الزمان مئات العبيد من الرجال والنساء والأطفال وعملوا في حقول قصب السكر، وهو المحصول الرأسمالي الذي نتجت عن توريده للقارة الأوروبية الكثير من الأرباح، وتطلبت زراعته وحصده الكثير من الأيدي العاملة.

وتملكت عائلة هايدل، الألمانية الأصل، هذه المزرعة من خلال ثلاثة أجيال متتابعة. وعلى الرغم من انتهاء العبودية في هذه المزرعة رسمياً عام 1867، إلا أنها استمرت في صور أخرى، وإن كانت أقل وحشية. وسكنت العائلة البيت الكبير بالمزرعة، والذي تم بناؤه في نهايات القرن الثامن عشر، وتحيط به أشجار جميلة، ويشمل سبع غرف، إضافة لمطبخ كبير ومخزن.

وتشمل المزرعة كذلك حقلاً يسمى "حائط الشرف" ويتضمن 216 حائطاً غرانيتياً تم عليها تدوين أسماء العبيد ممن خدموا أو أقاموا واستعبدوا في المزرعة، وأصولهم وأعمارهم ومهاراتهم الأساسية. وعلى الحيطان أيضاً أسماء وصور 107 آلاف عبد وعبدة ممن شملتهم وثائق بيانات العبيد الخاصة بولاية لويزيانا. أما حقل الملائكة فهو عبارة عن نصب تذكاري لأكثر من 2200 طفل من العبيد ممن قُتلوا في مقاطعة سان جورج. ويتضمن النصب ملخصاً لحياة كل طفل والمهام والأعمال التي كانوا يقومون بها.

وتعرض المزرعة خبرة مرحلة العبودية من وجهة نظر العبيد أنفسهم من خلال الاحتفاظ بنماذج حقيقية لمساكنهم ومطابخهم وملابسهم، وسجون اعتقالهم وأدوات عقابهم. كذلك يعرض بالمزرعة بيت العائلة المالكة للعبيد، والمساكن المخصصة لسكن ومبيت العبيد. ويظهر الفارق الكبير بينهم أن العبيد لم يكونوا إلا ممتلكات أو حيوانات بشرية تدر ربحاً لملاكها في أحسن الحالات، وذلك مقابل الملبس والمأكل، مثلهم مثل قطعان الماشية. وبما أنهم ممتلكات، كان يحق للملاك المتاجرة بالعبيد كما يتاجرون بأي محصول أو أدوات أخرى. وتعرض المزرعة تفاصيل عمليات البيع العلنية للعبد أو العبدة في مزادات مفتوحة يرتفع فيها سعر "العبدة" ليتخطى ألف دولار إذا كانت في سن الانجاب، وسبق لها أن أنجبت ويمكنها ذلك. والسبب وراء ذلك أن الطفل الذي يولد لعبد كان يعتبر عبداً أيضاً. في حين بلغ متوسط سعر "العبد" 400 دولار، أما العبدة التي تخطت الخمسين من العمر فسعرها أقل من 300 دولار.

وتحتفظ المزرعة بسجلات وأسماء العبيد ممن خدموا وعاشوا بين أركانها، وتدل هذه الوثائق على تنّوع العبيد من حيث الخلفية الدينية والجغرافية، وإنْ غلبت عليهم الديانة الوثنية التي سيطرت على أقاليم غرب أفريقيا.
وبسبب طبيعة نيو أورليانز، كانت المدينة واحدة من أهم مراكز استقبال العبيد عند وصولهم لأميركا الشمالية، وكانت فيها لسنوات أكبر صالة مزادات بيع وشراء العبيد في شمال أميركا.

وشهدت لويزيانا ولا تزال جدلاً كبيراً حول النصب التذكارية لرموز الجنوبيين في الحرب الأهلية التي شهدتها الولايات المتحدة، بين الولايات الشمالية بقيادة الرئيس أبراهام لينكولن والولايات الكونفيدرالية الجنوبية. وبالفعل أزالت الولاية عدداً من التماثيل الكبيرة لقادة جنوبيين من أنصار استمرار العبودية أو من أنصار "سمو الجنس الأبيض"، مثل الجنرال روبرت لي، أو السياسي الجنوبي الشهير، رئيس الكونفيدرالية الجنوبية جيفرسون ديفيز، أو الجنرال بي جي بيرغراد. وتم تحريم العبودية بموجب التعديل الـ13 للدستور الأميركي، وهو ما لم يكن له صدى إيجابي ضمن سكان ولاية لويزيانا من البيض. لكن تبقى هناك عشرات المدارس والمؤسسات الحكومية التي تتخذ من أسماء قادة الحرب الأهلية الجنوبيين أسماء لها. ويدور الجدل حول أهمية الاحتفاظ بالتاريخ، لكن من الناحية الأخرى يكون من الصعب على التلاميذ الأميركيين الأفارقة الجلوس في مدارس تحمل أسماء دعاة استمرار العبودية والمتاجرة بهم.

وتقع الولاية ضمن الحزام الإنجيلي الجنوبي، من هنا لم يكن مفاجئاً فوز الرئيس دونالد ترامب بها في انتخابات 2016. وحصل المرشح الجمهوري على مقاعد الولاية الثمانية في المجمع الانتخابي بعدما صوت له ما يقرب من 1.2 مليون شخص مقابل 780 ألفاً لهيلاري كلينتون.

ويمثل الولاية سيناتوران جمهوريان في مجلس الشيوخ، بيل كاسيدي وجون كينيدي، في انعكاس لهوية الولاية المحافظة. أما ممثلو الولاية في مجلس النواب، فمن بين الأعضاء الستة لا يوجد إلا عضو ديمقراطي واحد. ويدل ذلك على سيطرة الحزب الجمهوري على الشأن السياسي في الولاية.

في عام 1724 صدر قانون عرف باسم "كود نوار"، ونظّم علاقة فرنسا بمستعمراتها وعلاقة مستعمراتها بالعبيد، وفرض فيه تخصيص يوم الأحد من كل أسبوع كعطلة من العمل للعبيد، إضافة لذلك طالب القانون ملّاك العبيد بتوفير ساحة أو مكان واسع ليلتقي فيه العبيد بعضهم البعض. وبالفعل خُصصت ساحة واسعة تجاور الحي الفرنسي بالمدنية، وسمي هذه المكان بميدان الكونغو، وهو اليوم جزء هام ومزار تاريخي داخل حديقة لويس أرمسترونغ بقلب مدينة نيو أورليانز. ولعقود طويلة تجمّع الأفارقة صباح يوم الأحد للصلاة وللرقص والغناء الحزين والشكوى لبعضهم البعض مما يعانونه من ويلات استعبادهم.

يرى بعض المؤرخين أن ميدان الكونغو هو مهد موسيقى الجاز والبلوز والتي تعكس الموسيقى التقليدية التي جلبها العبيد معهم من غرب أفريقيا. واستمر تجمّع الأفارقة السود حتى بعد انتهاء العبودية، وأصبحت مكاناً جذاباً لمن يريد ممارسة الغناء أو العزف على الآلات الموسيقية الأفريقية، خاصة آلات النفخ والطبول.

ولن تفوت الزائر للمدينة سيطرة نمط الحياة البطيء الذي يتميز به جنوب الولايات المتحدة بصفة عامة مقارنة بولايات الشمال. وتشتهر نيو أورليانز أيضاً بوجود حانات عديدة في حيها الأقدم "الحي الفرنسي" الذي يقع قبالة حديقة أرمسترونغ. وتعد السياحة من أعمدة اقتصاد المدينة لدرجة كبيرة، خاصة مع تنوع الحي الفرنسي بنوع وطراز مباني فرنسي تماماً، وتزدحم شوارع الحي بالحانات التي لا تغلق أبوابها إلا مع سطوع شمس اليوم التالي، وتعج بالفنادق والمطاعم. ويتوسط الحي الفرنسي جاكسون سكوير، الذي سُمّي على اسم الرئيس السابق أندرو جاكسون الذي قاد بلاده للانتصار في معركة نيو أورليانز ضد القوات البريطانية إبان حرب الاستقلال. ويعد شارع بوبون القلب النابض للحي الفرنسي، حيث تكثر فيه المطاعم والبارات، وهو شارع الاحتفالات الرئيسية في المدينة، لكن يحذر من زيارته ليلاً لكثرة المشرّدين والسكارى. لذا تفضل زيارته قبل ساعات الليل الأخيرة، ولا يفوتكم تناول الحلوى الشهيرة بالمدينة والتي يطلق عليها "البينيه".