الاتفاق النووي بعامه الثالث: موت سريري بانتظار إنعاش أوروبي

14 يوليو 2018
مساعٍ أوروبية وإيرانية لإنقاذ الاتفاق (أوليفيه ماتيس/فرانس برس)
+ الخط -
شهد الاتفاق النووي بعد ثلاث سنوات من إقراره، تحوّلات كبيرة، جعلته في حالة "موت سريري"، خصوصاً بعد الانسحاب الأميركي منه في مايو/ أيار الماضي، ما أعاد طهران لطاولة الحوار مع الغرب مجدداً، في مسعى منها للحصول على "ضمانات أوروبية" ضرورية لحصد مكتسبات اقتصادية تنتظرها من الاتفاق. أمام هذا الواقع، حاولت طهران تحقيق معادلة توازن، فمع تأكيد تمسكها بالاتفاق، أعادت التلويح بقدرتها على العودة للنشاط النووي، مستغلة مكتسبات حققتها، مقابل مشاكل عديدة واجهتها داخلياً، لا سيما على المستوى الاقتصادي.

وكان الانسحاب الأميركي من الاتفاق في مايو الماضي، الخطوة التي غيّرت الكثير في الفترة التي سبقت الذكرى السنوية الثالثة للاتفاق والتي توافق 14 يوليو/ تموز، والذي لم يعد بين إيران والسداسية الدولية، بل أصبح يوصف بالاتفاق بينها وبين دول 4+1، لتعود طهران إلى الحوار مع الغرب، بعد خروج الولايات المتحدة الذي يعيد عقوباتها المجمّدة على إيران تلقائياً، ويهدد في الوقت نفسه الشركات المتعاونة معها بعقوبات جديدة.
هذا الأمر أدخل الاتفاق النووي في حالة موت سريري، كما يقول مسؤولو طهران، التي ما زالت ملتزمة بتطبيق ما عليها من بنود تقنية، وفق عدة تقارير رسمية صدرت عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية منذ الإعلان عن ولادة الاتفاق. فاستمرت إيران بتخصيب اليورانيوم وفق النسبة المحددة بموجبه ولم تتجاوز 3.67 في المائة، لكنها رفعت السقف نظرياً بعد الخطوة الأميركية، واتخذت إجراءات نووية جديدة لترسل رسالة للأطراف الباقية مفادها أنها لن تتوانى عن استئناف النشاط النووي في حال انهيار الاتفاق.

نووياً، كلّف المرشد الأعلى علي خامنئي مؤسسة الطاقة الذرية الإيرانية بالقيام بالخطوات اللازمة لتجهيز أرضية العودة للنشاط النووي، كما دعا الاتحاد الأوروبي لكسر صمته إزاء الخروقات الأميركية بإصدار قرار أممي يدينها، مطالباً بعدم خلط العناوين النووية بتلك الصاروخية والإقليمية. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد خرج من الاتفاق بعد مطالبات تطاول دور إيران الإقليمي وبرنامجها الصاروخي، معتبراً الاتفاق النووي معاهدة ناقصة لا تكبح طهران على هذين المستويين. فيما أكد خامنئي ضرورة الحصول على ضمانات اقتصادية حقيقية، على أن يكون كل ذلك في فترة زمنية محدودة.

وبناءً على ذلك، ما زالت طهران تفاوض الغرب لإتمام الحجة، كما يقول مسؤولوها، محاولة الحفاظ على المكسب الأول الذي حققته من الاتفاق النووي منذ ثلاث سنوات حتى اليوم، وهو تغيير صورتها أمام المجتمع الدولي ومد جسور العلاقات مع الدول الثانية، فلا تريد طهران أن تعطي الآخرين ذريعة لتُستخدم ضدها، لذا تحاول التمسك باتفاقها حتى النفس الأخير.

مقابل ذلك، تؤدي إيران دورها المعهود لتحقيق معادلة توازن، ففي الوقت الذي جلست فيه على طاولة الحوار مع الغرب، أعلنت مؤسسة الطاقة الذرية عن رفع قدرة إنتاج غاز اليورانيوم وتركيب وتجميع معامل دارات أجهزة الطرد التي توقفت عجلتها مع وقف التخصيب بنسب عالية. هذه الخطوة تسمح بعودة التخصيب إلى ما كان عليه خلال فترة وجيزة، وهي لا تخالف الاتفاق النووي، لكنها تعني أن طهران تستعد لمرحلة تمزيق الاتفاق. ومن هنا يبرز المكسب الثاني الذي حققته البلاد بعد ثلاث سنوات من عمر الاتفاق، ألا وهو حفاظها على قوة الردع، ومحاولة جر الآخرين لتقديم تنازلات.

وبالفعل قدّم الأوروبيون حزمة مقترحات لم تعلن طهران عن تفاصيلها، وحصل عليها الرئيس الإيراني حسن روحاني في جولته الأوروبية التي زار خلالها سويسرا والنمسا أخيراً، ووصفها بأنها غير مرضية وغير كافية. فطهران تشيد بالمسعى الأوروبي المتعلق بالرغبة في الحفاظ على العلاقات التجارية والاقتصادية معها بغية الحفاظ على الاتفاق، لكنها تريد حلولاً عملية لضمان تصدير نفطها أولاً، ولحل مشاكلها المالية والمصرفية مع الآخرين ثانياً، ولمنع ترهيب الشركات المتعاونة معها من قبل الولايات المتحدة ثالثاً.

دولياً وإقليمياً، استطاعت طهران بخوضها هذه المعركة الدبلوماسية أن تحقق مكتسبات تتعدى حدودها أيضاً، فحاولت خلال الفترة الأخيرة أن تستفيد من الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي ومن اتفاقيات دولية ثانية، وأن تستغل سياسات ترامب لصالحها، فأصرت على أن تستمر باتفاقها ولم تتخذ قراراً انفعالياً استفزازياً للرد على ضربه بعرض الحائط.
هذا الأمر يؤكده المحلل والكاتب السياسي عماد آبشناس، الذي يرى أن أبرز وأهم ما جنته طهران من الاتفاق النووي في ظل كل العراقيل التي واجهته والتي لم تسمح بحصد المكتسبات الاقتصادية بالصورة الأمثل، يتعلق بقدرتها على هز تركيبة التحالف الدولي المعادي لها سياسياً. ويضيف آبشناس لـ"العربي الجديد"، أن إيران استطاعت أن تواجه الولايات المتحدة بطريقة مختلفة هذه المرة، فحصلت على تأييد الأطراف الأوروبية كونها تريد استمرار الاتفاق أيضاً، ولم تخالف بنوده وقبلت باستمراره حتى من دون أميركا.


وخلال الفترة الأخيرة، تأكدت طهران من أن الغرب مصرّ على عدم التخلي عن الاتفاق لينال حصة من الكعكة الإيرانية اقتصادياً، وهذا ما جعلها تتجه أكثر نحو الاتحاد الأوروبي، فوعدت دوله بالمزيد من التعاون إذا ما بقي الاتفاق حيّاً. هذا الأمر منحها مشروعية لتعزيز دورها الإقليمي، فعلى الرغم من الانتقادات الأميركية ومعها الإسرائيلية والسعودية، ما زالت إيران تؤدي دوراً في سورية والعراق، وحتى في اليمن التي أكدت أن أزمته وُضعت على طاولة حوار بينها وبين أطراف أوروبية، فقدّمت طهران تنازلاً في ما يتعلق بالتفاوض حول الدور الإقليمي، مع أنها أعطته طابع وعنوان الحوار لحلحلة مشاكل المنطقة وعلى رأسها الإرهاب. في المقابل لم تتنازل في ملف الصواريخ الباليستية، وهذا أيضاً حقق معادلة التوازن، وكل ذلك لتحافظ على الاتفاق الذي سيحفظ لها كل هذه المكتسبات.

مقابل ذلك، فإن طهران واجهت على المستوى الداخلي في العام الماضي مشاكل عدة، على رأسها الاقتصادية، وهو ما نغّص عليها مسألة المكتسبات السياسية، فخلال ثلاث سنوات من عمر الاتفاق لم تحصل طهران إلا على القليل مما كانت تأمل به وتريده اقتصادياً. وحتى قبل الإعلان عن خطوة ترامب الانسحاب من الاتفاق، لم تعط الخزانة الأميركية التراخيص اللازمة لتطبيق صفقات عدة، واشتكت طهران من عدم قدرتها على الاتصال بالنظام المالي الدولي. تزامن ذلك مع مشاكل داخلية، مثل الفساد وسوء إدارة المشاكل وحتى الاعتماد على عائدات النفط بشكل كبير، فخرجت احتجاجات منتقدة للحكومة مرات عديدة، تحوّلت في بعضها إلى اعتراضات على سياسات النظام.
شكّل ذلك تحدياً للسلطة برمتها، فتسبّبت انتقادات المحافظين لـ"حكومة الاعتدال"، ومحاولة الإصلاحيين الانسلاخ عنها، بشرخ جديد، وتحوّل الاتفاق النووي الذي كان في ذكراه الثانية ورقة قوة بيد روحاني، إلى عبء عليه في الذكرى الثالثة، فيما يحاول بشتى السبل إبقاءه تحت مسمى الإنجاز الدبلوماسي.

تفتح التحديات والعراقيل التي تقف بوجه الاتفاق تساؤلاً حول مصيره المستقبلي، ويبرز في هذا السياق التعويل الإيراني على أوروبا. ويرى الصحافي الإيراني سياوش فلاحبور، أن المستقبل يعتمد على خطوات الأطراف الأوروبية في الاتفاق (ألمانيا، بريطانيا، فرنسا)، فإذا ما أعطت حلولاً تضمن بيع إيران لنفطها وتحلّ مشاكلها المالية والمصرفية، ستبقى طهران في الاتفاق النووي، أما إذا لم يحصل ذلك فستصبح البلاد مضطرة لمراجعة سلوكها والتزاماتها، متوقعاً أن يشمل ذلك البنود التي تخص النشاط في المنشآت والمفاعلات النووية، وفتح بابها أمام المفتشين الدوليين. ولا يتوقع فلاحبور انسحاب أوروبا مثلما فعلت الولايات المتحدة الأميركية، "فلدى هذه الأطراف مصالح اقتصادية وسياسية كما طهران تماماً، والواضح أنهم لا يريدون العودة لنقطة الصفر بالتخلي عن الإنجاز الذي ضبط سلوك إيران النووي".

لكن السؤال المطروح يتعلق بمدى قدرة الاتحاد الأوروبي على مواجهة التهديدات الأميركية، ويرى فلاحبور أن حالة الصدام بين الطرفين غير مطلوبة وغير متوقعة، إلا أن المقترحات المسماة بحزمة الضمانات هي التي ستحدد مستوى مقاومة الخزانة الأميركية وعقوباتها، وهذا يتطلب سيناريو أوروبياً دقيقاً لحماية الشركات التي ترغب في الاستمرار بالتعاون مع طهران.

في سياق آخر، فإن انسحاب عدد كبير من الشركات الأوروبية من إيران وإعلانها تعليق صفقات ولا سيما تلك المرتبطة بقطاع النقل، دفع طهران للاتجاه نحو الشرق أيضاً، فمن الواضح أنها لا تريد خسارة الغرب، لكنها لا تستطيع الاعتماد عليه بالكامل. وتتطلع إيران لعلاقات أقوى مع روسيا والصين، وتستند لعلاقات تجارية استراتيجية مع تركيا، وتراهن على علاقاتها الحالية مع قطر في ظل الحصار. هذه الأطراف قد تخلق متنفساً لطهران إذا ما ضاق عليها الخناق، لكنها لن تكون كافية في حال اشتدت العقوبات، فاقتصاد إيران سيتضرر كثيراً في حال موت الاتفاق، لكنها على الأقل ستجهز لبدائل كما كانت تفعل في زمن الحظر قبل سنوات.

ينتظر الاتفاق النووي اليوم إنعاشه بحزمة مقترحات أوروبية قد تكفل بقاءه على قيد الحياة، على الرغم من العراقيل والتحديات الكثيرة، كما ينتظر وضع آليات واضحة لتنفيذ المقترحات ذاتها التي ما زالت طهران تراها غير كافية، وتتخوف أيضاً من مسألة الوقت، فلا تريد البلاد أن توضع تحت ضغط عامل التوقيت، لتقبل المطروح عليها ولتتمسك بالحد الأدنى من المكتسبات السياسية والاقتصادية، بالتزامن مع اقتراب موعد دخول العقوبات الأميركية حيز التنفيذ العملي في أغسطس/ آب ونوفمبر/ تشرين الثاني المقبلين.

المساهمون