ترامب وكيم ينهيان الحرب الباردة: سلام يُخشى شيطان تفاصيله

13 يونيو 2018
ترامب وكيم بعد توقيعهما اتفاقاً خلال القمة التاريخية بسنغافورة(Getty)
+ الخط -
سيبقى لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، يوم الثلاثاء 12 يونيو/ حزيران 2018، الحدث الدبلوماسي الأهم عالمياً لفترة طويلة على الأرجح. لقاء سنغافورة أحيط بكل ما يستحق من اهتمام إعلامي جعله أولاً في لائحة اهتمامات العالم من دون أي منافس، ودفع بالملايين إلى الاستفاقة فجراً لمشاهدة "المصافحة التاريخية" الأولى التي تجمع رئيساً أميركياً خلال ولايته الرئاسية وزعيم نظام ظل منذ خمسينيات القرن الماضي، ولا يزال حتى اليوم، مضرب مثل في الغموض والتسلط والغرائبية والانغلاق و"العيش خارج الزمن"، لدرجة أن أول مرة سمع العالم فيها كيم جونغ أون يتحدث مباشرة على الهواء، كانت فقط قبل بضعة أشهر من اليوم.


لم يعد كيم "رجل الصواريخ الصغير"، ولم يعد ترامب "عدوّ العالم"، مثلما ظلا يعايران بعضهما البعض منذ عام ونصف العام، قبل لقاء يوم أمس، الذي ظلت فكرته، قبل أشهر قليلة، أقرب إلى الاستحالة وإلى الخيال. خلوة الساعة، ثم اللقاء الموسع، خرج عنهما كلام يوحي، بحد ذاته، بأن الحرب الباردة قد انتهت بالفعل، في آخر بؤرها، ويشير إلى أن "عالماً جديداً" قد يولد بالفعل، مثلما قال كيم، بين "الشجعان"، مثلما وصف ترامب نفسه و"صديقه الجديد المحتمل" (أي كيم)، على حد تعبير سيد البيت الأبيض. صحيح أن "وثيقة شاملة" للسلام خرجت من اللقاء الذي برز فيه كيم متوتراً أمام عدوه اللدود وعدوّ سلالته من والده كيم جونغ إيل وجده كيم إيل سونغ، وصحيح أن كلام الرجلين يحيل إلى صفحة جديدة من السلام العالمي انطلاقاً من شمال شرق آسيا، إحدى أكثر البؤر النووية توتراً في العالم، إلا أن الكلام ذاك سيكون بحاجة لمفاوضات طويلة ومعقدة، على حد اعتراف دونالد ترامب نفسه، وتنازلات متبادلة، وبناء ثقة ربما لا تكون يسيرة، وآليات للتأكد من نزع السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية، وحلول عسيرة لملفات عمرها من عمر الحرب الكورية التي لم تنتهِ حتى الآن باتفاق سلام، بل بهدنة لا تزال سارية منذ عام 1953. ولا يبدو واضحاً المسار الذي سيسلكه السلام الموعود الذي تكرر ذكره في كلام ترامب وكيم، إلا أنه ربما يكون مبنياً على عمودين اثنين: نزع السلاح النووي بشكل متبادل من شبه الجزيرة، مقابل ضمانات أمنية أميركية بعدم تهديد نظام كيم جونغ أون، من خلال وقف المناورات الأميركية الكورية الجنوبية "الاستفزازية جداً" باعتراف دونالد ترامب نفسه، وتوظيف استثمارات أميركية كبيرة في تلك المنطقة "الخام" مالياً من العالم، بموازاة بناء سلام آخر مع الجار الكوري الجنوبي، ومع اليابان. وفي هذا الموضوع، سيكون الموقف الصيني أولاً، والروسي ثانياً، حاسماً في تسهيل المسار أو تعقيده، خصوصاً في حال تبيّن لبكين ولموسكو أنهما لن تجنيا شيئاً من فوائد هذا "العصر الجديد". هكذا، تعهد الزعيمان الأميركي والكوري الشمالي بنزع السلاح النووي من تلك المنطقة، ووقف المناورات الهجومية، والتحضير لمرحلة من السلام بين كوريا الشمالية وجيرانها وأميركا والعالم، ومواصلة المفاوضات الأميركية الكورية الشمالية على أعلى مستويات، من دون أن ينتج عن هذه التعهدات اتفاق على تعليق العقوبات المفروضة على بيونغ يانغ فوراً، ومن دون أن يظهر خرق مهم على صعيد حقوق الإنسان والحريات في كوريا الشمالية، وهي التي ربما تكون آخر هموم دونالد ترامب، رجل الأعمال الساعي على الأرجح إلى جني الأرباح المالية الوفيرة في تلك المنطقة الخارجة بالكامل عن كل ما يتعلق بالنظام الرأسمالي اقتصادياً ومالياً. 

وبعدما بدت واشنطن على شفير حرب عالمية مع بيونغ يانغ، وبينما كان زعيما البلدين يتبادلان الاتهامات والشتائم والتهديدات، تحوّل المشهد، أمس الثلاثاء، في سنغافورة إلى ابتسامات ومجاملات لم تخفِ التوتر في لغة الجسد عند الرجلين، وخصوصاً بالنسبة لكيم جونغ أون، فاكتست القمة التاريخية الكورية الشمالية ـ الأميركية بطابع الإيجابية اللفظية على الأقل. ومع انشغال العالم بكيفية تلقي الأسواق المالية والمنتديات السياسية تداعيات اللقاء، كان لافتاً حرص ترامب على إنجاح القمة التي وصفها بـ"لقاء الشجعان"، مع المحافظة على العقوبات على كوريا الشمالية حتى إشعار آخر. كسب ترامب جولته الأولى في المحادثات مع الكوريين الشماليين، ووصل إلى المدى الذي لم يصل إليه أي رئيس أميركي سابق منذ الحرب العالمية الثانية، في وقتٍ كان كيم منتصراً في عيون مواطنيه أيضاً، مع كسره جدار العداء للغرب ولأميركا تحديداً. ومع أن ترامب تحدّث بلهجة واثقة عن "صفقة مرضية وشاملة"، إلا أنّ خطوات عدة ينتظر تطبيقها في المستقبل القريب لا تزال غير واضحة المعالم.

وأشاد ترامب وكيم بقمتهما التاريخية، باعتبارها اختراقاً في العلاقات بين البلدين، لكن الاتفاق الذي توصلا إليه لم يعط الكثير من التفاصيل حول المسألة الأساسية المتعلّقة بترسانة بيونغ يانغ النووية. وأتاحت هذه القمة الاستثنائية مصافحة تاريخية بين الرجلين اللذين وقفاً جنباً إلى جنب أمام أعلام بلديهما، عند الرابعة من فجر يوم أمس بتوقيت القدس المحتلة، والتاسعة صباحاً بتوقيت سنغافورة. ووافق كيم على "نزع كامل للأسلحة النووية في شبه الجزيرة الكورية"، وهي الصيغة المفضلة لبيونغ يانغ، لكنها لا تلبي المطلب الأميركي الثابت بتخلّي كوريا الشمالية عن ترسانتها النووية بشكل "قابل للتحقّق ولا عودة عنه".



وامتد اللقاء الثنائي بين ترامب وكيم لنحو ساعة كاملة بحضور المترجمين فقط، ومن دون حضور أي مسؤول من البلدين، قبل أن ينضم إلى ترامب في المحادثات الموسعة وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون وكبير موظفي البيت الأبيض جون كيلي، بينما شمل فريق كيم مدير الاستخبارات العسكرية السابق كيم يونغ تشول، ووزير الخارجية ري يونغ هو، ونائب رئيس حزب العمال الحاكم ري سو يونغ.

وفي مؤتمر صحافي بعد القمة، قال ترامب رداً على سؤال عن مسألة النووي الكوري الشمالي، وهي الأبرز في القمة: "لقد باشرنا العملية التي ستبدأ سريعاً جداً"، وأشار إلى أنه ستكون هناك عملية تحقّق تشمل "العديد من الأشخاص"، لكن من دون إعطاء تفاصيل ملموسة. وتعهّد كيم بموجب "وثيقة شاملة" بأن "يلتزم بشكل ثابت وحاسم بنزع السلاح النووي بالكامل من شبه الجزيرة الكورية"، والتزم المسؤولان تطبيق الوثيقة "بالكامل" و"قريباً جداً". ويتوجه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، اليوم الأربعاء، إلى سيول بمهمة صعبة تقضي بتفسير النص الموقع بين ترامب وكيم، علماً أن بومبيو سيتولى تمثيل بلده في المفاوضات المقبلة مع الشماليين.

وقال ترامب في مؤتمره الصحافي بعد القمة، إنه سيوقف المناورات الحربية السنوية مع سيول والتي تندّد بها بيونغ يانغ وتعتبرها محاكاة لاجتياحها. وأضاف "سنوقف المناورات، ما سيوفر علينا مبالغ طائلة"، مضيفاً أنه يريد سحب قواته من الجنوب "في مرحلة ما". ومضى ترامب يقول "بما أننا في طور التفاوض حول اتفاق شامل إلى حد كبير، أظنّ أنه من غير المناسب أن نواصل المناورات"، ما أثار ردود فعل على الفور من قبل محللين، خصوصاً أنّ المناورات لم تكن مشمولة في الوثيقة المشتركة.

وكتب روبرت كيلي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بوسان في سيول: "تنازلان إضافيان من ترامب في المؤتمر الصحافي؛ وقف المناورات العسكرية مع الجنوب والأمل بسحب القوات الأميركية من كوريا الجنوبية"، مضيفاً "وماذا حصلنا من كوريا الشمالية؟ لقد توقفوا عن التنازل من دون مقابل".

وفي أعقاب يوم من الابتسامات والمجاملات داخل فندق فاخر في سنغافورة تحت أنظار العالم، تعهّدت الولايات المتحدة بـ"تقديم ضمانات أمنية" لكوريا الشمالية. وقبل القمة أبدى خبراء شكوكاً بأنّ الأمر يمكن أن يتحوّل إلى استعراض إعلامي أكثر منه التركيز على تحقيق تقدّم ملموس. وقالت ميليسا هانهام، من مركز منع انتشار الأسلحة ومقره الولايات المتحدة، على "تويتر"، إن الشمال "وعد بالقيام بذلك مراراً من قبل"، مضيفةً أنّ الجانبين "لا يزالان غير متفقين على ما يعنيه تعبير نزع السلاح النووي".


كما أشاد ترامب بـ"العلاقة الخاصة" التي يبنيها مع كيم ودعاه للاستعداد لدعوته إلى البيت الأبيض من دون تحديد موعد محدد. وامتدح كيم "الموهوب جداً" و"المفاوض الجيد جداً" الذي "قام بأول خطوة شجاعة نحو مستقبل أفضل لشعبه"، على حد تعبير ترامب، الذي أعرب عن استعداده وكيم "لكتابة فصل جديد بين بلدينا". وأعلن ترامب استعداده للتوجه "في الوقت المناسب" إلى بيونغ يانغ، ودعوة كيم إلى البيت الأبيض. وقال ترامب بعد مراسم التوقيع "سنلتقي مجدداً"، بينما كان يقف مع كيم على الشرفة حيث التقيا للمرة الأولى، مضيفاً "سنلتقي مراراً". من جهته، تعهّد كيم بـ"طي صفحة الماضي" وبأنّ العالم "سيشهد تغييراً كبيراً".

ويرى محللون أنّ مجرّد اللقاء معناه أنّ ترامب يضفي صفة شرعية على كيم الذي تفيد الأرقام بأنه الأسوأ على الإطلاق عالمياً في معايير التنمية والرفاه وحقوق الإنسان والديمقراطية والحريات الجماعية والخاصة والسياسية. وقال ترامب إنه تباحث في موضوع حقوق الإنسان مع كيم، مضيفاً "سنعمل على المسألة وهي صعبة من نواح عدة". وإذا نجح الطرفان في تحقيق انفراجة دبلوماسية، فقد يغيّر هذا بشكل دائم الأفق الأمني في منطقة شمال شرق آسيا، على غرار زيارة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون للصين عام 1972، والتي أدّت إلى تحوّل في بكين. 

ردود الفعل

وتفاوتت طبيعة ردود الفعل العالمية بين متحمس وسعيد لما أنجز، مثلما يوحي التعليق الكوري الجنوبي والأوروبي عموماً من جهة، والترحيب الحذر وغير المرتاح، إن جاز التعبير، مثلما يظهر التحذير الروسي من "شيطان التفاصيل". أما التحذير الإيراني، فيبدو مفهوماً انطلاقاً من أجواء ما بعد إلغاء الاتفاق النووي. وسارعت كوريا الجنوبية إلى الترحيب بها والثناء على نجاحها. وقال الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي-إن، إن اتفاق سنغافورة "حدث تاريخي ينهي الحرب الباردة"، مضيفاً أن "اتفاق سانتوسا في 12 يونيو/ حزيران سيبقى في التاريخ العالمي كحدث أنهى الحرب الباردة". بدورها، اعتبرت الصين حليفة الشمال، أنّ القمة هي بداية "تاريخ جديد"، ودعت إلى "نزع الأسلحة الكيميائية" بشكل تام من شبه الجزيرة الكورية، فيما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية قنغ شوانغ، إنه "بات من الممكن الآن بحث تخفيف العقوبات على كوريا الشمالية".

من جهته، أشاد رئيس وزراء اليابان شينزو آبي بالوثيقة المشتركة، معتبراً أنها "خطوة أولى" نحو نزع السلاح النووي. وقال آبي إن "كيم أكّد خطياً في هذه القمة نيته في نزع السلاح النووي بالكامل. أدعم ذلك كخطوة أولى نحو الحل الشامل للمسائل المتعلقة بكوريا الشمالية". وأشادت الوزيرة الفرنسية للشؤون الأوروبية ناتالي لوازو بتوقيع الوثيقة المشتركة، معتبرة أنها "خطوة ذات دلالة".

أمّا روسيا، فحاولت ألا تكون بعيدة عما يجري، وعبّرت عن استعدادها للمساعدة في تنفيذ الاتفاق مع كوريا الشمالية. وقال سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية، إن روسيا "تنظر بإيجابية" للقمة بين ترامب وكيم، لكن "الشيطان يكمن في التفاصيل". وأضاف ريابكوف أن بلاده "مستعدة للمساعدة في تنفيذ ما اتفق عليه الجانبان من العمل على نزع السلاح النووي بالكامل من شبه الجزيرة الكورية وتأمل أن تفتح تسوية الأزمة النووية الباب أمام التعاون الاقتصادي الطبيعي".

وفي الإطار نفسه، أعربت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن استعدادها للمساعدة في التحقق من تطبيق أي اتفاقات مستقبلية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية بشأن برنامج أسلحة بيونغ يانغ النووية، في موازاة ترحيبها بنتائج قمة سنغافورة. وفي مقابل كل هذا الترحيب والثناء على القمة، وحدها إيران كانت تحذّر من هذا الاتفاق، متوجهةً إلى كوريا الشمالية بالقول إن "ترامب يمكن أن يلغي اتفاقه قبل أن يعود لبلاده". وقال المتحدث باسم الحكومة الإيرانية محمد باقر نوبخت، وفق ما نقلت عنه وكالة "إرنا": "لا نعلم مع من يتفاوض زعيم كوريا الشمالية. من الواضح أنه يمكن أن يلغي الاتفاق قبل أن يعود لبلاده".

(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)