إدلب محور الصراع المقبل في سورية... ومساعٍ إقليمية لتفادي المعركة

27 ابريل 2018
تتعرض إدلب لقصف من النظام وروسيا (محمد السيد/الأناضول)
+ الخط -
تتسارع المشاورات السياسية الإقليمية والدولية بشأن الملف السوري، ليتجاوز الأمر مجرد الحديث المكرر حول ضرورة دعم العملية السياسية، وسط محاولات الأطراف الأساسية الفاعلة في المشهد السوري ضمان تحقيق أجنداتها. وبينما كانت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، إلى جانب الأردن والسعودية تجتمع، أمس الخميس، على هامش مؤتمر مكافحة تمويل الإرهاب في فرنسا، كان وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس يؤكد أن بلاده لن تسحب قواتها الآن لكن "ربما يأسف" لعدم الاحتفاظ بقوة أميركية في سورية، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن فرنسا أرسلت مجموعة من القوات الخاصة إلى سورية من أسبوعين لتعزيز المهمة الأميركية، مضيفاً "ستشهدون جهدا جديدا في وادي الفرات في الأيام المقبلة"، في إشارة إلى العمليات ضد تنظيم "داعش". من جهتها، كانت الخارجية الروسية تشدد على أهمية الاجتماع الثلاثي، الذي يُعقد غداً السبت، بين وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا، والذي يسبق لقاء بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأردني أيمن الصفدي في 3 مايو/أيار المقبل لبحث الوضع جنوبي سورية. في موازاة ذلك، كان لافتاً نعي المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، عملية أستانة حول سورية، بقوله إنها استنفدت طاقاتها بالكامل، نظراً للعدد المحدود من الأطراف المنخرطة فيها. وقال دي ميستورا في حديث لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، إن المفاوضات بهذا الشكل كانت مبادرة جيدة، لكنه أضاف: "الحقيقة تكمن في أن المبادرة الروسية بلغت حدودها، وكانت أستانة ولا تزال مبادرة جيدة للغاية، لكن دعونا ننظر إليها من منظور آخر. ثلاثة بلدان فقط منخرطة فيها وليس 15. لم تشارك جميع الأطراف في هذا المحفل". وتابع: "كان من المفترض أن تؤدي العملية إلى وقف تصعيد النزاع ولكن التصعيد وقع". وأشار إلى أن سوتشي كانت ستعتبر مبادرة ممتازة للحوار السوري، لو تم تنظيم اللجنة الدستورية، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن.
وفيما تعكس تصريحات دي ميستورا رغبة منه في إعادة إحياء مسار مفاوضات جنيف، لا يبدو أن روسيا ستكون في وارد التخلي عن مسار أستانة، وهو ما يفسر وصف الخارجية الروسية للاجتماع الثلاثي بالاستثنائي، إذ يُنتظر أن يبحث قضايا عدة يتقدّمها مصير محافظة إدلب.

وتشير معطيات عدة إلى أن مصير إدلب بات على الطاولة في المرحلة القريبة المقبلة، إذ سيكون لتركيا دور رئيسي في تحديد ملامح مستقبل المحافظة، وما تضمه من فصائل عسكرية كثيرة، ومهجري المناطق الأخرى، فضلاً عن أكثر من مليوني نسمة من سكان المحافظة. وإلى جانب الاستراتيجية التركية التي سوف تسعى على الأرجح إلى التخفيف من حدة التوترات بين القوى المتصادمة في إدلب ومحاولة دمجها تحت قيادة واحدة على غرار ما فعلت في مناطق "درع الفرات"، فإن هناك استراتيجية مقابلة للنظام السوري ومن خلفه روسيا وإيران، وسيعمل هذا الطرف على إخضاع إدلب له، ومحاولة ضم المحافظة إلى سيطرة النظام، كما حصل ويحصل مع المناطق الأخرى في محيط دمشق وآخرها منطقتي القلمون والغوطة الشرقية والآن في جنوب دمشق.

وتقوم الاستراتيجية التركية لاحتواء الوضع في إدلب على مرتكزات عدة، بدأت عملياً بنشر نقاط مراقبة تركية في المحافظة بموجب اتفاقية "خفض التصعيد" التي وقّعتها مع روسيا وإيران، ثم وقف الاقتتال في المحافظة بين "هيئة تحرير الشام" (النصرة سابقاً) و"جبهة تحرير سورية"، والذي حصد خلال الشهرين الماضيين أرواح نحو ألف قتيل من الطرفين فضلاً عن آلاف الجرحى، وساعد دعاية النظام وروسيا بأن المحافظة باتت معقلاً لـ"الإرهاب"، ولا يمكن إنهاء الفوضى فيها إلا بعودتها إلى "حضن الوطن" على غرار المناطق الأخرى.

ويقضي اتفاق وقف إطلاق النار، الذي جرى التوصل إليه مساء الثلاثاء الماضي، بإنهاء الاقتتال بشكل دائم وكامل مع تثبيت الوضع الراهن على ما هو عليه، إضافة إلى توقف الاعتقالات بين الطرفين وفتح الطرقات ورفع الحواجز، لتسهيل عودة المهجرين إلى منازلهم. كما ألزم الاتفاق الطرفين بإنهاء "التحريش الإعلامي"، وأكد العمل على إطلاق سراح المعتقلين من الطرفين وفق جدول زمني، وتشكيل لجنة لمتابعة التنفيذ، على أن يعقب هذا الاتفاق "بدء مشاورات موسّعة للوصول إلى حل شامل على الصعد العسكرية والسياسية والإدارية والقضائية".

وتشير العبارة الأخيرة إلى أن وقف إطلاق النار هذه المرة قد يكون مختلفاً عن اتفاقات سابقة مشابهة كانت عبارة عن تهدئة مؤقتة سرعان ما تتبدد، إذ حصل الاتفاق بما يشبه الإملاء الحازم على الطرفين من قِبل تركيا. وأفادت مصادر لـ"العربي الجديد"، بأن السلطات التركية استدعت إلى إسطنبول أغلب قيادات "هيئة تحرير الشام"، وعرضت عليهم حلين لا ثالث لهما: إما تحل الهيئة نفسها وينضم من يشاء من عناصرها بشكل فردي إلى الفصائل الأخرى من أجل قتال بعض الفصائل المتطرفة، مثل "حراس الدين" المنشقة عن الهيئة، أو أن تركيا ستدعم بقوة قتال الهيئة من جانب بقية الفصائل، خصوصاً بعد أن أصابها بعض الضعف بسبب الانشقاقات والقتال مع فصائل أخرى.
وأوضحت المصادر أن تركيا تمارس ضغطاً كبيراً على الهيئة لحل نفسها، لأن أنقرة نفسها تتعرض لضغط كبير من قِبل روسيا وإيران لتطبيق بند في اتفاق أستانة ينص على أن محافظة إدلب يجب أن تكون "خالية من الإرهاب"، وإذا لم تقم تركيا بتطهيرها، فإن روسيا وإيران هما بحل من هذا الاتفاق، وسيدعمان هجوم النظام على إدلب.


وتستند روسيا وإيران إلى التصنيف الدولي لـ"هيئة تحرير الشام" (النصرة سابقاً) كمنظمة إرهابية ويحق قتالها لأي طرف محلي أو خارجي. ومن هنا أوجبت اتفاقية "خفض التصعيد" على الفصائل محاربة "هيئة تحرير الشام" وأعدت العدة لذلك قبل عملية "غصن الزيتون" في عفرين. غير أن تركيا فضّلت، بحسب هذه المصادر، التريث في ذلك خشية أن تفقد حاضنتها الشعبية في سورية باعتبار أنها ستقاتل فصيلاً يقاتل النظام، لذلك اتّبعت الخطة (ب) والتي قضت بالدخول إلى إدلب بدعم من الهيئة والعمل على ضعضعتها وتفكيكها من الداخل، وهو ما تمخّض بالفعل عن حركة انشقاقات داخل الهيئة، منها "الزنكي" و"حراس الدين".

وبما ينسجم مع هذه التوجّهات، أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ومسؤولون أتراك آخرون، سلسلة تصريحات في الآونة الأخيرة بأن إدلب ستكون الهدف التالي للقوات التركية وقوات "غصن الزيتون" التي تدعمها بعد عفرين مباشرة إلى جانب تل رفعت ومنبج. وتقول مصادر إن الهيئة تطرح في المقابل أن تنضم إلى فصيل "فيلق الشام" الذي لا يُصنّف كتنظيم "إرهابي" في المعايير الخارجية، وقد بدأت فعلاً في تسليم بعض حواجزها للفيلق.

من جهته، قال رئيس المجلس الأعلى لقيادة الثورة السورية سابقاً، المحامي حسين السيد، لـ"العربي الجديد"، إنه لا يستطيع تأكيد حصول الاجتماع بين قادة في "هيئة تحرير الشام" ومسؤولين أتراك، لكنه لا يستبعده، ذلك أن "الهيئة تسيطر على أجزاء من محافظة إدلب وبحكم الجغرافيا وحدودية المنطقة مع تركيا فالتعاطي التركي معها كأمر واقع موجود على الأرض، وكان ضرورياً لتفادي الصدام العسكري معهم ولو بشكل مؤقت، وهذا ما حصل عندما نُشرت نقاط المراقبة التركية في المحافظة".
ورأى السيد أن تركيا هي "اللاعب الإقليمي الأكثر قدرة على تفكيك الهيئة والسعي لحلها، لسحب ذرائع الروس والإيرانيين وبقايا النظام لقصف وتدمير المحافظة وقتل المدنيين فيها، وقيامها بهذا الدور هو إيجابي إذا كانت هناك استراتيجية تركية بعيدة المدى تعمل على حماية المدنيين ومنع نظام الأسد وعصاباته من إعادة السيطرة عليها مجدداً"، مضيفاً: "لذلك ليس مستغرباً أن يحصل اجتماع بين قيادات تمثّل الجانب السياسي للهيئة مع السلطات التركية لبحث المخارج المناسبة للحيلولة دون تنفيذ التهديدات الإيرانية الأخيرة لتلك المحافظة".

أما المحلل الاستراتيجي العميد أحمد رحال، فأكد لـ"العربي الجديد"، عقد اجتماعات في أنقرة خلال اليومين الماضيين بين قيادات من "هيئة تحرير الشام" ومسؤولين أتراك غلب عليهم الطابع الاستخباراتي، لإيجاد مخرج للوضع في إدلب. وأوضح رحال أن المصالحات الأخيرة التي جرت في إدلب كانت عبارة عن هدن لالتقاط الأنفاس، سرعان ما تفشل طالما أنها محلية وتفتقر للرعاية الخارجية، وهذا ما يجعل الهدنة الحالية مختلفة عما سبق. وأضاف أن "هيئة تحرير الشام" تدرك أنها على قائمة الاستهداف، وأن الولايات المتحدة تركتها خلال الفترة الماضية بهدف استنزاف روسيا وتوريطها بقصف المدنيين.

وحول الفرص المتاحة لإيجاد حلول نهائية للوضع في إدلب، أعرب رحال عن تشاؤمه حيال ذلك، لأن مجمل الحلول المطروحة تبدو صعبة التحقق، مشيراً إلى أن من بين الحلول كان حل "هيئة تحرير الشام" وترك السوريين فيها ليختاروا طريقهم، بينما يُعزل الأجانب في مكان ما ليواجهوا مصيرهم مع المجتمع الدولي. ورأى أن هذا الحل سيكون صعب التطبيق، لأن الأجانب المهيمنين على الهيئة لن يوافقوا عليه، مشيراً إلى أن من بين الخيارات التي كانت مطروحة لإبعاد الأجانب إليها هي منطقة الساحل السوري، وهو خيار لن تقبل به روسيا، لأنه يعني توجيه هؤلاء المقاتلين نحو مناطق النظام.

وبشأن إمكانية دمج الهيئة مع "فيلق الشام"، رأى رحال أن الفيلق قد لا يوافق على ذلك لأنه سيضع نفسه في قائمة الاستهداف الدولي، إلا إذا تلقى ضمانات غربية وروسية بأنه لن يتم استهدافه، وهذا صعب التحقق، كما أن هذا الخيار يعني تخلّي الهيئة عن معتقداتها التي تكفّر معظم الآخرين ولا تقبل الذوبان فيهم، ما يفقدها قاعدتها الشعبية، وفق قوله.
وأشار رحال إلى أن الوضع الحالي في إدلب معقّد بشكل كبير، ويقوم على توازنات دقيقة بين روسيا وتركيا باعتبار إدلب منطقة حدودية، وسيخضع الحل فيها للتوازنات الإقليمية والدولية خلافاً للمناطق الداخلية التي عادت في مجملها للنظام السوري، وهذا ينطبق على الجنوب السوري وعلى التنف والجزيرة في الحدود مع العراق حيث الهيمنة الأميركية، كما هو ريف حلب وإدلب حيث الحدود مع تركيا. وأضاف أن الصراع في سورية وصل إلى الحرب بالأصالة وليس بالوكالة بين الدول الفاعلة في الأزمة، وهو ما ينذر بمخاطر كبيرة إذا ما حدث انفجار أو خلل في التوازنات القائمة.

وتأتي هذه التطورات في ظل حراك دولي لا يغيب عنه البحث في مصير إدلب والتي تردد ذكرها أكثر من مرة في التصريحات الأخيرة لمسؤولين دوليين، مثل وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الذي حذر في مقابلة صحافية من خطر حدوث كارثة إنسانية جديدة في إدلب، داعياً إلى تقرير مصيرها خلال عملية سياسية تتضمّن نزع سلاح المليشيات، حسب تعبيره. أما روسيا، فقد أعلنت عقب الإعلان عن التوصل إلى اتفاق لوقف النار في إدلب أنها "لن تسمح بتحقيق اندماج كامل للمجموعات المسلحة غير الشرعية في محافظة إدلب". وقال تعليق لقاعدة حميميم الروسية في سورية "نعتقد أن التوجّه نحو هذا الخيار سيكون بالاتجاه السلبي".
يُذكر أن فصائل المعارضة سيطرت على محافظة إدلب عام 2105، وشهدت لاحقاً صراعات في ما بينها. وتسيطر "هيئة تحرير الشام" حالياً على نحو 60 في المائة من إدلب، فيما تنتشر فصائل أخرى منافسة لها في مناطق أخرى. وتمكنت قوات النظام من استعادة السيطرة على مطار أبو الضهور العسكري وبعض البلدات في ريف إدلب الجنوبي الغربي.