غرب البلقان: ساحة صراع تركي روسي أوروبي

05 مارس 2018
لعبت منظمة "تيكا" دوراً محورياً في مدّ جسور التواصل(الأناضول)
+ الخط -
لا يزال البلقان كما في معظم تاريخه مركزاً لصراعات السيطرة والنفوذ. وبعد أن كان ساحة مواجهة بين كل من الاتحاد السوفييتي والكتلة الغربية خلال الحرب الباردة، يبدو أنّ الأوضاع عادت إلى ما كانت عليه في القرن التاسع عشر عندما تمكّنت ألمانيا وإمبراطورية النمسا ــ المجر وبريطانيا من عرقلة النفوذ العثماني الروسي باللعب على الخلاف بينهما، لكن هذه المرة باختلاف الأسماء، إذ تتنافس وتتعاون الآن روسيا وتركيا ضمن استراتيجيات معقّدة ومتقاطعة، لاكتساب المزيد من النفوذ في المنطقة على حساب النفوذ الأوروبي.

النفوذ الأوروبي

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وما تلاه من ضعف روسي، تمكّن الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي من التوسّع في دول البلقان الشرقية أي بلغاريا ورومانيا، بينما لم ينضم إلى الأخير من جمهوريات يوغسلافيا السابقة (غرب البلقان)، إلا ذات الغالبية الكاثوليكية منها، أي كل من سلوفينيا وكرواتيا، في حين لا تزال كل من صربيا والبوسنة وألبانيا ومقدونيا والجبل الأسود وكوسوفو، مركزا للصراع على النفوذ بين كل من تركيا وروسيا من جهة، وألمانيا والنمسا ومن ورائهما الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، صراع تتداخل فيه العوامل القومية والدينية ولا يبدو أنه سيحسم في المدى القريب أو المتوسط.

وتبدو النمسا الأكثر توتراً من تمدّد النفوذ التركي في البلقان، الأمر الذي عبّر عنه كل من وزيري الدفاع والخارجية النمساويين في مناسبات عدة، العام الماضي، بينما يظهر القلق الألماني واضحاً من تمدد النفوذ الروسي في شرق البلقان وصربيا، وأيضاً عمل موسكو على زعزعة استقرار غرب البلقان وتحويله إلى شوكة في خاصرة المشروع الألماني الأهم، ممثلاً بالاتحاد الأوروبي.

ومع التوسّع الروسي بالسيطرة على شبه جزيرة القرم الأوكرانية وشرق أوكرانيا عام 2014، عاد غرب البلقان إلى رأس الأجندة الألمانية مرة أخرى، بوصفه ساحة مواجهة محتملة، لتبدأ برلين ما أطلق عليه "عملية برلين" الخاصة بدول غرب البلقان لتشجيعها على القيام بالإصلاحات والتعاون مع الاتحاد الأوروبي، ولكن التقدّم كان ضعيفاً، مما دفع وزير الخارجية الألماني، زيغمار غابربيل، إلى الدعوة لـ"عملية برين بلس" التي يجب أن تتضمّن المزيد من الأهداف المحددة والمساعدات لهذه الدول في سبيل المزيد من الدمج مع الاتحاد الأوروبي.

لم يمض الكثير من الوقت، حتى أعلن الاتحاد الأوروبي عن مبادرة جديدة لتشجيع غرب البلقان على مزيد من الاندماج في الاتحاد، تحت عنوان "منظور تنموي موثوق به لتعزيز مشاركة الاتحاد الأوروبي مع غرب البلقان"، أكّدت على رغبة الاتحاد بضم دول غرب البلقان إليه، وإن لم يكن ذلك في القريب العاجل، وكذلك رفع المعونات المالية لمساعدة هذه الدول. إلا أنها أشارت أيضاً إلى المشاكل الجوهرية في هذه الدول من قبيل ضعف حكم القانون والديمقراطية والاقتصاد وعدم القدرة على تجاوز المشاكل والصراعات الإثنية المعقدة في هذه الدول.

لا تبدو هذه المبادرة الأوروبية إلا محاولة بائسة لإحياء آمال تلك الدول بإمكانية الانضمام إلى الاتحاد، وسط مشاكل معقدة تحول دون ذلك، فعلى سبيل المثال، تقف اليونان حاجزاً في وجه ضم مقدونيا للاتحاد ولحلف شمال الأطلسي أيضاً، لأن أثينا ترفض الاعتراف بالاسم الدستوري لهذه الدولة والمشابه لمقاطعات شمال اليونان المسماة مقدونيا، بينما تبدو آمال ألبانيا التي يشكّل المسلمون ما يقارب خمسين بالمائة من سكانها ضعيفة أيضاً، حيث يتداول الباحثون في شؤون البلقان المقولة التالية "ستنضم ألبانيا إلى الاتحاد الأوروبي في رئاسة تركيا للاتحاد أو ستنضم تركيا للاتحاد الأوروبي في ظل رئاسة ألبانيا للأخير"، في إشارة إلى استحالة انضمام أي من الدولتين للاتحاد. وفيما يخص إقليم كوسوفو، فإن أياً من الدول الأوروبية لا تعترف باستقلاله. أما في ما يخص البوسنة والهرسك، وإضافة إلى المشاكل المعقدة التي أفرزها اتفاق "دايتون" للسلام، فإن صربها بعلاقاتهم الوثيقة مع صربيا والروس يشكلون أيضاً حاجزاً صلباً في وجه انضمام الأخيرة الرسمي للاتحاد.

النفوذ الروسي
إضافة إلى العلاقة الروسية الوثيقة بصرب البوسنة، الذين لوّحوا العام الماضي، بتفجير اتفاق "دايتون" للسلام، تقف موسكو حاجزاً منيعاً في وجه انضمام صربيا للاتحاد الأوروبي، من خلال علاقاتها السياسية والثقافية الوثيقة مع بلغراد، والمبنية على الإرث السلافي الأرثوذكسي المشترك للجانبين. وأكد نائب رئيس الوزراء الروسي، ديميتري روغزين، خلال زيارته لبلغراد، في يوليو/تموز من العام الماضي، أن صربيا لن تنضم أبداً للاتحاد الأوروبي، الأمر الذي تدعمه مشاعر سلبية للغاية يحملها الصرب تجاه حلف شمال الأطلسي، بعد أن لعب الأخير دوراً محورياً في ضرب طموحات القوميين الصرب التوسعية، سواء في البوسنة أو خلال أزمة كوسوفو.

ولا يتوقّف النفوذ الروسي على صربيا، فقد حاولت موسكو إدارة انقلابات في عدد من دول غرب البلقان، حيث يحاكم 21 شخصاً بتهمة محاولة تنفيذ انقلاب عسكري موال للروس في الجبل الأسود. من جهة أخرى، تبدي مقدونيا رغبة كبيرة بإسراع انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، بسبب مخاوفها، مما وصفه وزير الدفاع المقدوني، رادميلا سيكيرينسكا، في وقت سابق من العام الماضي، بـ "المحاولات الروسية للحصول على نفوذ في سياستنا وأمننا"، الأمر الذي ردت عليه موسكو باتهامها المسؤولين المقدونيين بـ "الروسوفوبيا".



النفوذ التركي
منذ استلام حزب "العدالة والتنمية" للحكم في عام 2002، بدأ بحملة دبلوماسية لاستعادة النفوذ التركي في أراضي الإمبراطورية العثمانية والتي يأتي على رأسها البلقان، حيث لا تقتصر العلاقات بين الطرفين على الصلات الثقافية والتاريخية العميقة مع شعوبه المسلمة، ولكن أيضاً يعتبر مركزاً لوجود أقليات تركية وازنة في كل من بلغاريا (حوالي 14 في المائة من السكان أتراك)، واليونان (1 في المائة أتراك في منطقة سالونيكيا)، ومقدونيا (35 في المائة مسلمون 4 في المائة منهم أتراك)، كوسوفو (95 في المائة مسلمون ألبان و3 في المائة أتراك)، ألبانيا (58 في المائة مسلمون وأقلية صغيرة جداً أتراك)، والبوسنة (52 في المائة مسلمون وأقلية تركية صغيرة جداً).

واعتمدت تركيا في استعادة نفوذها في غرب البلقان على القوة الناعمة المتعددة الأبعاد التي تستهدف بشكل أساسي الأقليات المسلمة، وبالذات مع البوسنة التي تعتبر المرتكز الأهم للسياسات التركية في البلقان، وكذلك ألبانيا إلى حدٍّ ما. ولعبت "منظمة التعاون والتنسيق التركية" (تيكا) دوراً محورياً في مدّ جسور التواصل، من خلال إعادة ترميم التاريخ العثماني في المنطقة، حيث قامت "تيكا" بإعادة ترميم وإحياء مئات المساجد والتكيات والجسور والحمامات. وتخصّص "تيكا" 18.5 في المائة من عموم المساعدات التي تقدّمها إلى البلقان، وبالذات إلى كل من البوسنة وصربيا ومقدونيا، وكذلك تعمل إدارة الشؤون الدينية التابعة لرئاسة الوزراء على نشر النسخة التركية من الإسلام، من خلال منح التعليم للأئمة وتنظيم المؤتمرات وبناء المساجد. ويوجد فروع لمعهد "يونس إمرة" لنشر وتعليم اللغة التركية، في كل دول غرب البلقان، بينما يتم تعليم اللغة التركية في 80 مدرسة في البوسنة بموجب اتفاق موقّع بين الطرفين. كذلك توجد جامعتان تركيتان في البوسنة، وكذلك خصّصت وكالة "الأناضول" الحكومية التركية نسخة من أخبارها لتذاع باللغة البوسنية.

أما على المستوى الاقتصادي، ورغم أنّ دول غرب البلقان تعتبر من أهم المستفيدين من المساعدات التركية، إلا أنّها لا تعتبر أسواقا مهمة، بل شركاء ثانويين للاقتصاد التركي. فلا تشكّل الصادرات التركية للمنطقة أكثر من 1.32 في المائة من عموم الصادرات التركية، بينما تشكّل الواردات منها 0.32 في المائة فقط. ولدى تركيا اتفاقيات تجارة حرة تقريباً مع معظم دول البلقان بما في ذلك صربيا. كما يستثمر رجال الأعمال الأتراك، اليوم، في المشاريع الاقتصادية الكبرى في ألبانيا، حيث تشارك تركيا في جهود إنشاء شركة الطيران الألبانية الوطنية وتولت بناء مطار في مدينة فلورا، ثاني أكبر المدن الألبانية، بينما تقدّم دعماً قوياً للقوات المسلحة الألبانية في جهودها لتطوير ذاتها، كونهما شريكين في حلف شمال الأطلسي، إذ شاركت القوات الألبانية في مهام الناتو في كل من كوسوفو وأفغانستان تحت القيادة التركية.

وتستخدم أنقرة علاقاتها مع كل من بلغاريا ورومانيا وكرواتيا لضرب أيّ تحرّك ضدها في الاتحاد الأوروبي. وبينما تقدّم تركيا دعماً قوياً لمقدونيا في صراعها ضدّ رفض اليونان لانضمامها لكل من حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، كانت أنقرة من أبرز الداعمين لجهود الجبل الأسود للانضمام للناتو، رغم الرفض الروسي، في استراتيجية تركية واضحة تقوم على دعم انضمام دول البلقان إلى حلف شمال الأطلسي لضرب النفوذ الروسي، واستخدام قوة تركيا في الحلف لاكتساب المزيد من النفوذ في هذه الدول، بينما لا ترى أنقرة من انضمام هذه الدول للاتحاد الأوروبي خطراً كبيراً عليها، بل مزيداً من النفوذ ضمن الاتحاد، الذي ما زالت العضوية فيه، رغم الخلافات بين الجانبيين، هدفاً استراتيجياً لأنقرة.

مع هذا، تتقاطع المصالح التركية الروسية في الصراع الصربي البوسني، حيث استغلت أنقرة علاقاتها الجيدة مع موسكو للتقريب بين البوسنة وصربيا (الحليف الروسي)، وتجاوز الصراعات الدموية التاريخية وإعادة بناء العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء بين الجانبيين. وأكثر من ذلك، قدّمت تركيا نفسها وسيطاً مقبولاً في الخلافات بين البلدين، إذ استضاف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الشهر الماضي، اجتماعاً بين الرئيس الصربي، ألكسندر فوتيشتش، والزعيم البوسني، بكر عزت بيغوفيتش، اللذين ناقشا الخلاف بين الجانبيين على مسار الطريق الدولي السريع الذي ستموله أنقرة بين كل من بلغراد وسراييفو.

رغم ذلك، وعلى عكس النفوذ الأوروبي، يفتقد كل من الأتراك والروس لأي مشاريع سياسية أو اقتصادية حقيقية تمكنها مواجهة المشروع الأوروبي وقيمه التي يدافع عنها، إذ تبقى آمال وأنظار معظم شعوب البلقان معلّقة بالاتحاد الأوروبي، حيث الرفاه وفرص العمل والحريات ودولة القانون.