بذلت مراكز حقوقية سورية وجهات وشخصيات في المعارضة السورية جهوداً كبيرة طوال السنوات التي أعقبت اندلاع الثورة السورية عام 2011 لتقديم مسؤولين من النظام السوري متهمين بارتكاب جرائم حرب إلى محاكم دولية أو حتى ملاحقتهم في دول أجنبية، تحديداً الأوروبية، إلا أن أغلب هذه الجهود لم تنجح لأسباب كثيرة، أولها سياسي، من دون أن يمنع ذلك من تحقيق اختراقات يعوّل عليها الحقوقيون للمرحلة المقبلة.
ضمن هذا السياق، جاء قرار القضاء الفرنسي بإصداره يوم الإثنين الماضي، وانسجاماً مع طلب النيابة العامة، مذكرات توقيف دولية بحق ثلاثة مسؤولين رفيعين في النظام السوري، بتهم "التواطؤ مع أعمال تعذيب، التواطؤ في الاختفاءات القسرية، التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، وجنح حرب". وحرّك هذا القرار، الملف من جديد، خصوصاً أن القرائن والأدلة على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سورية متوفرة وموثقة من قبل ناشطين حقوقيين ومراكز أبحاث معروفة بصدقيتها، إضافة إلى وجود معتقلين ومعتقلات سابقين يبدون استعداداً للإدلاء بشهاداتهم في أي تحقيق دولي يمكن أن يفتح.
ويمثّل القرار الفرنسي اختراقاً مهماً في ملف تقديم رموز نظام الأسد إلى محاكم دولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات جسيمة خلال سنوات الثورة السورية التي أدت إلى مقتل وتشريد ملايين السوريين. ويُعتبر هذا التطور خطوة مهمة في تحريك ملف ظل سنوات خاضعاً لمزاج ومصالح الدول الكبرى، ما سمح للنظام باستباحة دماء السوريين.
وفي السياق، قال عبيدة دباغ، صاحب الدعوى التي قُدّمت للقضاء الفرنسي ضدّ ضباط النظام السوري، وهو شقيق مازن دباغ الذي قتله النظام هو وابنه في معتقلاته، خلال حديثٍ مع تلفزيون "سوريا": "كانت هناك فرصة لرفع دعوى، كون شقيقي مازن وابنه عبد القادر (باتريك) يحملان الجنسية الفرنسية، لذلك رفعنا الدعوى بمساعدة الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، والرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان، واستطعنا إثبات الانتهاكات التي تعرّض لها شقيقي وابنه".
وأوضح دباغ أن العمل على الدعوى بدأ منذ عامين إلى أن صدرت مذكّرات التوقيف ضد ضباط النظام يوم الإثنين، لافتاً إلى أن هذا انتصار مبدئي لكل السوريين الذين قُتلوا تحت التعذيب في الفروع الأمنية للنظام، مشيراً إلى أن "النصر ليس نهائياً، لأن الأمور لا تزال في بدايتها، وأنه سيكون يوماً سورياً بامتياز عندما يُقدّم كل المجرمين إلى المحاكم لينالوا العقاب على جرائمهم". ولفت إلى أنه لاقى تعاوناً مستمرّاً من الجهات الحقوقية والقضاء الفرنسي، قائلاً "كانوا دائماً يشجّعوننا للمضي بالدعوى، ونشعر أن هناك أشخاصاً يساندوننا بهذه المهمة، وأنّنا لم نكن وحدنا فقط".
من جهته، قال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الدول الأوروبية بدأت بالتفكير باستخدام ولايتها القضائية بما يخص الملف السوري في عام 2015، مشيراً إلى أن الدعوى التي بتّ بها القضاء الفرنسي الإثنين "يجري العمل عليها منذ عامين". ولفت إلى أن "التحقيقات الجنائية مختلفة عن التحقيقات الحقوقية والاستقصائية ومن ثم تستغرق وقتاً طويلاً، لأن المدعي يستدعي أطرافاً ويجمع أدلة، كما أن التواصل بين المنظمات السورية والضحايا من جهة، وبين المنظمات الأوروبية التي تملك خبرة في هذا المجال أيضاً، يحتاج إلى وقت". وأوضح أن "قرار القضاء الفرنسي ليس أول نتيجة نحصل عليها، إذ صدرت قبل أشهر عدة مذكرة اعتقال بحق جميل حسن من المدعي العام الألماني، وبالتالي هناك مذكرتا اعتقال بحق حسن".
ولطالما سعى قانونيون سوريون مستقلون أو يعملون ضمن مؤسسات تابعة للمعارضة إلى لفت أنظار المجتمع الدولي إلى الجرائم التي يرتكبها النظام بحق السوريين ومنها بأسلحة محرمة دولياً، لكن من دون جدوى، إذ إن مصالح الدول الكبرى أبقت هذا الملف طي الإهمال وبعيداً عن المحاكم الدولية.
أما المختص بالقانون الدولي، أيمن أبو هاشم، فرأى في حديث مع "العربي الجديد"، أن مذكرات التوقيف التي أصدرها القضاء الفرنسي "خطوة مهمة جداً"، مضيفاً: "عملياً بات رموز النظام السوري أمام تهديد حقيقي بالملاحقة بعد سنوات من الارتياح". وأشار إلى أن فرنسا من بين الدول التي "تعتمد مبدأ اختصاص القضاء العالمي"، داعياً إلى تفعيل الدعاوى والشكاوى من ذوي ضحايا نظام بشار الأسد كمدعين شخصيين، خصوصاً ضد الأخير. وأوضح أن نظام المسؤولية الجنائية الفردية يفترض أن الرئيس يتحمّل المسؤولية عن أعمال تابعيه، كما يفترض أنه هو من أعطاهم الأوامر للقيام بالانتهاكات. كما دعا أبو هاشم مؤسسات المعارضة للتنسيق مع منظمات دولية مختصة بهدف تطوير قاعدة بيانات بالانتهاكات من أجل طرق أبواب المحاكم الأوروبية بعيداً عن الارتجالية في العمل القانوني. وأضاف "لو تم تفعيل المسارات القضائية منذ البداية لما تجرأ النظام على استباحة دماء السوريين طيلة أكثر من سبع سنوات متواصلة".
وكانت منظمة العفو الدولية قد أصدرت تقريراً في فبراير/شباط العام الماضي، تضمّن حديث المنظمة عن قيام النظام السوري بتنفيذ إعدامات جماعية سرية شنقاً بحق 13 ألف معتقل، غالبيتهم من المدنيين المعارضين، في سجن صيدنايا، خلال خمس سنوات منذ بداية الثورة في سورية. وقالت المنظمة الحقوقية في تقريرها تحت عنوان "مسلخ بشري: شنق جماعي وإبادة في سجن صيدنايا"، إنه "بين 2011 و2015، كل أسبوع، وغالباً مرتين أسبوعياً، كان يتم اقتياد مجموعات تصل أحياناً إلى خمسين شخصاً إلى خارج زنزاناتهم في السجن، وشنقهم حتى الموت". وأشارت المنظمة إلى أنه "خلال هذه السنوات الخمس شنق في صيدنايا سراً 13 ألف شخص، غالبيتهم من المدنيين الذين يعتقد أنهم معارضون للنظام".
وكان من المتوقع أن تتحرك المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة المتهمين بارتكاب هذه الجرائم، لكن مصالح إقليمية ودولية وتعقيدات الملف السوري لا تسمح حتى اللحظة بتحرك قضائي جدي من أجل تقديم أركان النظام إلى محاكمات دولية.