انتخابات رئاسية في فنلندا اليوم: روسيا الحاضر الغائب

28 يناير 2018
يبقى الرئيس الحالي ساولي نينستو المفضّل بحسب الاستطلاعات(فرانس برس)
+ الخط -
يتّجه اليوم الأحد، نحو 4.4 ملايين من ناخبي فنلندا لاختيار رئيس، وسط توترات متزايدة في منطقة البلطيق عنوانها الرئيسي روسيا. توترات تطلّبت السير الحذر في العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى التمعّن بالتقدّم الملحوظ لليمين القومي منذ 4 أعوام، والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي وبعض التراجع الاقتصادي في هذا البلد. إلى جانب ذلك، تبرز تحديات أخرى في المجتمع الفنلندي، ومنها بشكل أساسي ما لا يُحلّ بانتخابات رئاسية في بلد برلماني، كالأمن والمخاوف من "الإرهاب"، الذي ضرب البلد في عملية طعن شهدها العام المنصرم، إلى جانب تعقيدات اللجوء وتقدّم اليمين القومي، في حزب "الفنلنديين الحقيقيين"، ومشاركته في السياسة، مع تسجيل نسب من البطالة، وصراع قوى حول العلاقة بالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وخصوصاً العلاقة العسكرية الوثيقة مع أميركا منذ 2016، والتعاون الدفاعي مع الدول الاسكندنافية والتقارب مع دول البلطيق.

ويبدو الرئيس الحالي المحافظ، والمرشح أيضاً لدورة ثانية، ساولي نينستو، الأوفر حظاً من بين 9 مرشحين، من اليسار إلى أقصى اليمين. وإذا ما أخذنا بنتائج التصويت التي جرت خلال ندوة تلفزيونية بثها التلفزيون الفنلندي مساء الخميس الماضي، بمشاركة آلاف المشاهدين، فقد جاء نينستو في المرتبة الأولى بتفضيل المشاهدين له على بقية المرشحين، فيما حلّ زعيم اتحاد الخضر، بيكا هافيستو، ثانياً. المثير في آراء الجمهور الفنلندي اختيار اليمينية القومية، من حزب "الفنلنديين الحقيقيين"، لورا هوهتساري، في المرتبة الثالثة قبل أن تتراجع إلى الرابعة، وهي التي تفضّل تقديم نفسها على أنها المنافس الأقوى للرئيس الحالي، في وقت توجّه انتقادات كثيرة لهذه المرشحة اليمينية، خصوصاً أنها اختارت الترشح في منطقة مزدوجة، سويدية-فنلندية، من دون أن تتحدّث سوى الفنلندية، مصرّةً على أن "اللغة تعبير عن الهوية"، ما عدّه ناخبون ومراقبون "تشدداً قومياً"، ولا سيما أنّ فنلندا تعتبر دولة ثنائية اللغة. وتبدو المشاكل المرتبطة بأزمات الاقتصاد واللاجئين والعلاقة الأوروبية وسلطات الرئيس، هي ما اختارت مرشحة اليمين التركيز عليه. ومن بين المرشحين أيضاً، تبرز الشخصية اليسارية، ماريا كيولنن، وإن لم تحقّق الشعبية ذاتها التي حققها الرئيس الحالي ومنافسته القوية هوهتساري.

ويهتم المراقبون في دول الشمال بهذه الانتخابات، خصوصاً مع تنامي أدوار اليمين القومي في ظل أزمة "هوية" في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، واعتباره، شأنهم شأن بقية القوى المنتشرة في أوروبا، أنه "اتحاد يسلب السيادة ويفرض سياساته على الدول الوطنية".

ففنلندا، بجغرافيتها في أقصى شمال زاوية البطليق، تتمتّع بعلاقات مع جاراتها الشمالية، وبحدود معقدة مع روسيا منذ استقلالها في ديسمبر/كانون الأول 1917 بعد 600 سنة من الخضوع للسيطرة السويدية، ثمّ وضعها تحت سيطرة روسيا مع بداية 1809، قبل أن تصبح جمهورية مستقلة. وتوجّهت هلسنكي في سنوات ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي نحو الغرب أكثر، وشكّل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي عام 1995 أوج العلاقة التي أُتبعت بانضمامها إلى منطقة اليورو عام 1999. وبالرغم من أن الاقتصاد الفنلندي يعتبر متماسكاً، بإجمالي ناتج محلي وصل في 2016 إلى 221 مليار دولار أميركي، إلا أنّ البطالة تظلّ مؤرقةً بنسبة لا تقلّ عن 10 في المائة منذ 2015، وهي أكبر زيادة منذ 15 سنة. ويحاول اليمين الفنلندي بشكل دائم رمي هذا التردي الاقتصادي على علاقة هلسنكي بالاتحاد الأوروبي من ناحية، وعلى سياسة الهجرة واللجوء في ناحية أخرى، شأنه شأن بقية أحزاب اليمين القومي في الشمال. وشهدت فنلندا بالفعل تراجعاً في موقعها المتقدّم في الصناعات الإلكترونية وتصدير الأخشاب، كأحد أهم الصناعات، إلى جانب ما تواجهه من تحديات جراء معاناة شريكيها في روسيا ومنطقة اليورو، في حين تبقى بالتأكيد في المقدمة في ما يتعلق بالتعليم.

 

توازن العلاقة بين الشرق والغرب

ظلّت فنلندا تقدّم نفسها، شأنها في ذلك شأن جارتها السويد، كبلد محايد في توتر العلاقة بين الشرق والغرب، أيام الحرب الباردة وبعدها. لكن التحديات التي فرضتها سنوات التدخل الروسي في القرم، والاستمرار في سياسة "الاستفزاز"، كما يطلق عليها اسكندنافياً، في البلطيق منذ 2014، حرّرت فيما يبدو هلسنكي من حذرها. ففنلندا تشترك بنحو 1300 كيلومتر من الحدود مع روسيا، واندفعت بفعل قلقها نحو توثيق علاقات أكبر مع الولايات المتحدة الأميركية، من خلال عدد من المعاهدات، رغم أن البلد يظلّ رسمياً خارج نطاق الأحلاف. هذا بالإضافة إلى تعاون أوسع أيضاً مع دول الشمال المتشكّكة بروسيا. وبالرغم من ذلك ساهم الرئيس الحالي، ساولي نينستو، خلال السنوات الماضية في تخفيف التوتر مع روسيا بلقاء مع رئيسها فلاديمير بوتين، الذي حذّر في أكثر من مناسبة من أن تنضم فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي.

ويعرف السياسيون في فنلندا "الخيط الرفيع" الذي يسيرون عليه في العلاقة بين الجانبين الغربي والروسي. فمن ناحية، تلزم هلسنكي نفسها بالسير جنباً إلى جنب مع الشركاء في الشمال، بدون أن تدخل في علاقات دفاعية واضحة مع حلف شمال الأطلسي، وفي الوقت نفسه، تأخذ تحذير روسيا "عدم السماح للحلف التوسع نحو بوابة روسيا" على حدودها مع فنلندا، بعين الاعتبار.

وبالرغم من الأزمات التي عاناها الاقتصاد الفنلندي، فإن التوتر المستمر في البلطيق، ولغة التهديد المتزايدة من موسكو، لم تثنِ ساسة هلسنكي، وعلى رأسهم الرئيس الحالي، الذي يعد، وفق الدستور، القائد العام للقوات المسلحة، من تخصيص المزيد من الأموال للموازنة الدفاعية للفترة من العام الحالي 2018 وحتى 2020، ومضاعفة تصل إلى 150 مليون يورو في 2021.



تقدم يمين قومي

تبدو حظوظ الرئيس الحالي المحافظ، والذي اختار أن يكون بعيداً عن الحزبية وحصل على أكبر شعبية لرئيس فنلندي منذ الثمانينيات، عالية، بنسبة وصلت إلى 75 في المائة مع بداية العام الحالي، إلا أن الأسبوع الأخير من الحملات أنتج واقعاً آخر بانخفاض شعبيته إلى نحو 58 في المائة. وبالرغم من ذلك، يبقى نينستو المفضّل، بحسب الاستطلاعات وآراء المراقبين للعملية الانتخابية. لكن ذلك لا يعني بأن منافسته، هوهتساري، لن تحصل على نسبة أصوات تعكس أيضاً تقدّم اليمين القومي في الشارع الفنلندي، وخصوصاً بالتطرق إلى قضايا الهجرة والإرهاب والأمن والبطالة والضريبة. وقدرت الاستطلاعات، قبل يوم واحد من الانتخابات المنطلقة اليوم، أن مرشح الخضر، بيكا هافيستو، يمكن أن يحصل على نحو 13 في المائة من الأصوات.

ورغم أنّ التوقعات تقول بإمكانية بقاء الرئيس الحالي في منصبه، إلا أن توقعات حصول مرشحة "الفنلنديين الحقيقيين Perussuomalaiset" على نسبة تتجاوز العشرين في المائة، ستشكّل تحدياً حقيقياً في فنلندا. فإذا كان هذا الحزب اليوم يشكّل صداعاً، كما هو الحال بالنسبة لبقية الأحزاب اليمينية القومية في جارات فنلندا الشمالية، "الشعب الدنماركي" و"التقدمي النرويجي" و"ديمقراطيي السويد"، فإن وجود مرشحة رئاسية لهذا اليمين القومي، يعتبر سابقة أولى ومفارقة في دول الشمال كلها، في ظلّ استفادته من تقدمه في الانتخابات البرلمانية وحلوله في المرتبة الثانية بين الأحزاب السياسية، كما هو أيضاً الحال في الدنمارك.

إذاً، أياً يكن الرئيس الفائز، بعد أن تصدر النتائج لهذه الانتخابات المباشرة، فإن تحديات فنلندا في الموازنة بعلاقتها بين أشقائها الشماليين، وجارتها الكبرى، روسيا، والتي دخلت معها بحرب كبيرة ومكلفة، ستظل قائمة ما بقي التوتر سيّد الموقف بين الغرب وموسكو. ولا يستبعد أن تتجه هلسنكي، بعيد الانتخابات الرئاسية في روسيا، لعقد المزيد من الصفقات مع موسكو لتخفيف هذا التوتر. وربما، وفقا للمتابعين الاسكندنافيين، يلعب نينستو، دوراً ما "في الوساطة وتخفيف التشنّج في البلطيق"، مع الحفاظ على التعاون العسكري ضمن إطار دول الشمال.

وتبقى أيضاً التحديات الداخلية، بشأن معظم القضايا المطروحة، سواء من مرشحي اليمين أو اليسار، هي نفسها القائمة اليوم، إذ إن الحلول والتوافقات هي برلمانية أكثر، رغم أن منصب الرئاسة يمنح الرئيس بعضاً من صلاحيات متقاسمة مع الحكومة للتوصل إلى تسويات.

والمفارقة التي يشير إليها المراقبون الاسكندنافيون، الأكثر قرباً ومعرفة بفنلندا وثقافتها، أن تجري انتخابات رئاسية فيها، بمشاركة ما لا يقل عن 8 متنافسين، في الوقت ذاته الذي يخوض فيه جارهم الروسي أيضاً حملة رئاسية، وهو ما "يزيد من عزم الفنلنديين والاسكندنافيين على التمسك بديمقراطيتهم وتعدديتهم أكثر".