الجزائر: الغضب الشعبي يحاصر الحكومة

26 يناير 2018
من الاحتجاجات التي تشهدها العاصمة (العربي الجديد)
+ الخط -


تواجه الحكومة الجزائرية موجة جديدة من الاحتجاجات ذات المطالب المهنية والاجتماعية، ينفذها الأطباء والطلبة والأساتذة وعمال الملاحة الجوية، ليدخل على خط الاحتجاج أيضاً عناصر الشرطة البلدية وجنود الجيش المتقاعدين من ضحايا ومصابي عمليات مكافحة الإرهاب. وتبدو السلطات الجزائرية مرتبكة إزاء التعاطي مع هذه الاحتجاجات، بين استخدام الحل الأمني الذي قد يفاقم الأوضاع ويخلق توترات جديدة، وبين محاولة استدراج هذه الاحتجاجات إلى تفاهمات اجتماعية ظرفية، تُجنّب السلطة تأثيرات محتملة على ترتيباتها للانتخابات الرئاسية المقبلة في ربيع العام المقبل.

وأغلقت السلطات الجزائرية، لليوم الرابع على التوالي، أمس الخميس، مداخل العاصمة والطرق المؤدية إليها، وعززت عمليات مراقبة الحافلات والسيارات المتوجّهة إليها، لمنع دخول الأطباء وجنود الجيش المتقاعدين إلى العاصمة لتنفيذ اعتصامات ومسيرات غضب. وتنتشر وحدات من الدرك والشرطة على طول الطرق السريعة عند المداخل الرئيسية الثلاثة، الجنوبية والشرقية والغربية للعاصمة الجزائرية، لمنع دخول المحتجين، وتقيم حواجز لتفتيش حافلات النقل العام والتدقيق في هويات ومهن المسافرين وإعادة الأطباء والجنود من حيث أتوا. كما تنتشر قوات الشرطة في التقاطعات الكبرى للعاصمة، خصوصاً في منطقة البريد المركزي وقرب البرلمان وفي محيط مستشفى مصطفى باشا، وسط العاصمة، حيث يعتصم الأطباء المحتجون.

وأمضى الأطباء المقيمون ليلتهم الثالثة على التوالي، أمس، في اعتصام مفتوح داخل المستشفى، للمطالبة بتحسين ظروف عملهم ومرتباتهم وإلغاء قانون الخدمة المدنية والاستفادة من الإعفاء من الخدمة العسكرية، بعد تحوّل الجيش الجزائري إلى جيش احترافي. وأخفقت الحكومة في المفاوضات التي أجرتها مع الأطباء لإقناعهم بالعدول عن الحركة الاحتجاجية، ولجأت الحكومة بعد استخدامها القوة الأمنية قبل أسبوعين لمنع مسيرة الأطباء وسط العاصمة، إلى استخدام ورقة العدالة لوقف إضراب الأطباء وإجبارهم على إخلاء المكان وإنهاء الاعتصام.

ولم تكد الحكومة تبدأ مفاوضات جديدة لإنهاء أزمة الأطباء، حتى نفذ عمال الملاحة الجوية والمضيفون العاملون على الطائرات الجزائرية إضراباً شل مطار الجزائر الدولي، وكلّف الشركة والحكومة خسائر مالية كبيرة. ويضاف إلى ذلك احتجاج طلبة المدارس العليا للأساتذة، والذين يشلّون منذ أسابيع المدارس العليا، ناهيك عن حركة احتجاجية مشتركة للمرة الأولى بين طلبة الجامعات والأساتذة والموظفين، تزامناً مع تهديدات حكومية، يضاف إلى ذلك احتجاج لأعوان الحرس البلدي الذين يطالبون بحقوقهم المادية والمعنوية مقابل جهودهم في مرحلة مكافحة الإرهاب. ويهدد أعوان الحرس البلدي، وهم عبارة عن شرطة بلدية استعانت بهم السلطة لمكافحة الإرهاب ووضعتهم تحت تصرف قوات الجيش والدرك في البلديات، بالزحف إلى العاصمة، بسبب مماطلة الحكومة في تنفيذ الاتفاقات التي عقدتها معهم في مفاوضات سابقة، وتتعلق بتحسين رواتبهم ومِنح التقاعد واحتساب سنوات خدمتهم في مكافحة الإرهاب والتكفل بعلاج المصابين منهم بعاهات في عمليات مكافحة الإرهاب وإعادة الاعتبار المعنوي لهم.

لكن أخطر حراك احتجاجي تواجهه الحكومة في الوقت الحالي، يتعلق باحتجاج جنود الجيش المتقاعدين والمصابين في عمليات مكافحة الإرهاب، والذين يحاولون منذ أيام دخول العاصمة لتنظيم مسيرة فيها أمام مقر وزارة الدفاع، وعدد منهم مصابون اضطروا إلى تركيب أرجل اصطناعية بعد فقدانهم لأرجلهم في عمليات مكافحة الإرهاب في التسعينيات. ويتهم الجنود السلطة بالتخلي عنهم بعد تأديتهم واجبهم في الحفاظ على الدولة والنظام الجمهوري، وردع الجماعات الإرهابية في التسعينيات. واستنفرت السلطات قوات أمنية كبيرة لمنع وصول الجنود المتقاعدين إلى العاصمة، وشهدت منطقة سطيف مواجهات بين قوات الدرك والجنود المحتجين، عندما كانوا يحاولون التوجه إلى العاصمة. كما نظموا مسيرة احتجاجية في مدينة البويرة، قرب العاصمة.


ويتخوف مراقبون من تصاعد الحراك الاحتجاجي وانتقاله إلى قطاعات مهنية أخرى، في ظل حالة ارتباك حكومي واضح، خصوصاً أن الحكومة لم تعد تملك الموارد المالية الكافية للاستجابة لكل هذه المطالب وشراء السلم الاجتماعي، بفعل تقلص الموارد وعائدات النفط التي استخدمتها للغرض ذاته خلال العقدين الماضيين. وتتخوّف الحكومة من التأثيرات السياسية لتصاعد الحراك الاحتجاجي في الفترة الأخيرة، خصوصاً أنها تحاول الإبقاء على مناخ الاستقرار الاجتماعي والسلم المدني تمهيداً للانتخابات الرئاسية المقررة في ربيع عام 2019، وهو ما يفسر لجوءها إلى المواجهة القمعية للاحتجاجات الأخيرة، وسط حالة من الارتباك اللافت. وفي هذا السياق، يعتقد الكاتب والمحلل السياسي محمد شراق، أن "هناك خوفاً سياسياً من قبل الأحزاب وخوفاً سلطوياً ممزوجاً بتحدٍ حكومي لمواجهة كل حركة في الشارع"، مضيفاً: "السلطة ألغت كل الحسابات في تعاملها مع الاحتجاجات، وليس لديها أي هاجس عدا الحفاظ على تواجدها".

لكن ثمة تقديراً مغايراً، إذ على الرغم من تصاعد الحراك الاحتجاجي، إلا أن الباحث الجامعي المختص في الحركات الاحتجاجية، نور الدين بكيس، يعتبر أنها لم تبلغ مستوى التهديد الذي يخيف السلطة، ناهيك عن أنها احتجاجات متشتتة. ويقول رداً على سؤال لـ"العربي الجديد" حول الموضوع: "أعتقد أن سقف الاحتجاجات تحت السقف الذي تحدده السلطة، وهذا النوع من الحراك بعيد جداً عن تهديدها أو خلق واقع جديد، فلم نصل بعد إلى درجة الألم المنتج لهزات قوية تؤشر لتغيير الأوضاع". ويشير إلى أن "السلطة التي تتعاطى بمنطق أمني مع هذه الاحتجاجات، تبادر في الوقت نفسه إلى الإبقاء على هوامش أخرى للتنفيس"، مضيفاً: "السلطة سوف تستمر في السماح بإنتاج هوامش للتنفس ولديها الإمكانيات الكافية لذلك، إذ تستفيد فئات من المجتمع من الفساد والتسيّب اللذين ترعاهما السلطة، وهذا هو الضامن لعدم تصعيد الاحتقان، وقد نجحت في تعطيل أي تأثير للحراك الاجتماعي بقدر فشلها في الإنجاز، لتبقى فئة قليلة تطالب وتغالب من دون قدرة على التعبئة، كما هو حاصل في المشهد السياسي".

وأدى لجوء الحكومة إلى محاولة استخدام الحل الأمني لمواجهة الحراك الاحتجاجي والاجتماعي الجديد، إلى انتقادات حادة من قبل الهيئات الحقوقية، خصوصاً بعد الصدام الدامي بين الشرطة والأطباء وسط العاصمة، ومع جنود الجيش المتقاعدين في الطرقات المؤدية إلى العاصمة. وحمّل رئيس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، هواري قدور، الحكومة مسؤولية توتر وانسداد الوضع الاجتماعي، بسبب ما اعتبره "سد باب الحوار مع النقابات المستقلة والمنظمات الطالبية ومواجهة مطالب الأطباء والطلبة والعمال والجنود السابقين بالعصي عوضاً عن إيجاد حلول واقعية".

ونددت الرابطة الجزائرية بما وصفته استهداف الحقوق الأساسية المكتسبة للجزائريين، والتعسف في استخدام السلطة، والتضييق المتصاعد على فضاءات حرية التعبير والممارسة النقابية والحق في الإضراب والتقييد لكل حراك اجتماعي. وطالبت الحكومة بعدم تجاهل الطبقة العاملة، والتعامل مع أي احتجاج بحكمة من دون جره نحو أي انزلاق عنيف، وامتصاص غضب المحتجين عن طريق اتخاذ قرارات شجاعة مع مطالب العمال، وفتح حوار جدي ومسؤول. وأشارت الرابطة إلى أنه سبق لها "التحذير من احتجاجات متوقعة بعد ملاحظة تشدد الحكومة في التعاطي مع المطالب الاجتماعية، وصدور قوانين مجحفة بحق عالم الشغل لا تنسجم مع تطلعات العمال، ولا سيما انهيار القدرة الشرائية للمواطن، مع الزيادة المتواصلة في الأسعار التي تستهدف الطبقة الفقيرة والمتوسطة من خلال إثقال كاهل العمال والموظفين بالضرائب".
وأمام هذا الواقع، وفي ظل توترات سياسية داخلية وشكوك في مؤسسات إدارة الدولة والحكم، تبدو الحكومة الجزائرية في حالة ارتباك كبير، خصوصاً أنها تتطلع إلى ترتيب مناخ سياسي واجتماعي مستقر، يتيح لها الخوض في التحضير للاستحقاق الرئاسي المقبل من دون مفاجآت.