عودة السفير الإيطالي لمصر: المصالح في ليبيا أهم من "حقيقة ريجيني"

16 اغسطس 2017
إيطاليون يطالبون بحقيقة مقتل ريجيني (ماتيو ناردوني/Getty)
+ الخط -
جاء قرار الحكومة الإيطالية بإعادة سفيرها إلى مصر بعد أكثر من عام من سحبه، مفاجئاً للرأي العام في كلا الدولتين، لا سيما في إيطاليا التي عبرت العديد من وسائل إعلامها عن إحباطها من هذه الخطوة، التي وصفتها صحيفة "لا ريبوبليكا"، اليسارية التوجه، بأنها "تبدو كتنازل عن أقوى وسيلة ضغط على نظام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لكشف حقيقة ما حدث للطالب الإيطالي جوليو ريجيني"، قبل أن يتم العثور على جثته في طريق صحراوي بالعاصمة المصرية قبل حوالي عام ونصف العام من الآن.

تم الإعلان عن القرار مساء الاثنين، بعد دقائق من صدور بيان مقتضب ومن دون أية معلومات، عن النيابة العامة المصرية، تحدّث عن اتصال هاتفي جرى بين النائب العام المصري، نبيل صادق، والمدعي العام في روما، جوزيب بنياتونه، والاتفاق بينهما على لقاء قريب لتبادل المعلومات والتحقيقات في قضية ريجيني. وفي التوقيت ذاته، أصدر الجانب الإيطالي بياناً ذكر فيه أن القاهرة سلمتهم وثائق جديدة للتحقيقات التي أجريت مع ضباط الشرطة الذين ارتكبوا جريمة تصفية 5 أشخاص من ذوي السوابق الجنائية واتهموهم بأنهم من قتلوا ريجيني بنيّة سرقته، وزعموا أنهم وجدوا أغراضه المسروقة في منزل أسرتهم.

وكانت هذه الرواية الأمنية لم تلق قبول الجانب الإيطالي على الإطلاق، فضلاً عن نفيها تماماً من قبل أسرة المقتولين، مع إقرار ذويهم بأن لهم سوابق جنائية عديدة ولكن من دون أن يكون لهم صلة بحادث ريجيني. وعلى الرغم من حالة عدم التصديق العامة والتهكم الإعلامي والشعبي على الرواية الأمنية، قرر النائب العام المصري سجن عدد من أفراد أسرة المقتولين، وحظر النشر في القضية، إلاّ أنه اضطر تحت الضغط الإيطالي إلى إخضاع بعض أفراد جهازي الأمن الوطني والأمن العام للتحقيق في تلك الواقعة ومدى ارتباطها بالقضية الأصلية.

ووصفت مصادر واسعة الإطلاع في وزارة الخارجية والنيابة العامة المصريتين، في حديث لـ"العربي الجديد" عقب الإعلان عن القرار، الخطوة الإيطالية بأنها "سياسية بحتة، تتعلق بالأوضاع في ليبيا والقلق الذي يداهم الحكومة الإيطالية الحالية من تنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية، فضلاً عن تفاقم مشكلاتها مع قائد ما يعرف بالجيش الليبي، خليفة حفتر، المدعوم بقوة من مصر وفرنسا"، وفق المصادر. وقال مصدر دبلوماسي بديوان الخارجية إن "القرار الإيطالي حصيلة مفاوضات واتصالات سرية بين القاهرة وروما، بدأت منذ مايو/أيار الماضي وبلغت ذروتها في لقاء السيسي بشخصين يمكن اعتبارهما عرابي عودة السفير الإيطالي، هما نائب رئيس مجلس الشيوخ، الوزير السابق ماوريتسيو غاسباري، ورئيس لجنة الدفاع بمجلس الشيوخ، نائب رئيس مجلس الشيوخ، اللذان زارا مصر في 11 يوليو/تموز الماضي، واتفقا مع السيسي على خطوات محددة يجب أن يتخذها النظام المصري ليتمكنا هما في إيطاليا من إقناع أغلبية الحكومة بإعادة السفير والمضي قدماً في التعاون السياسي والأمني بشأن ليبيا"، بحسب المصدر. وعودة سفير إيطاليا إلى مصر ستأتي عملياً من خلال تعيين السفير الجديد، جيامباولو كانتيني، الذي من المفترض أن تصدر مصر، كدولة مضيفة، موافقة رسمية على تعيينه. وكانت روما قد سحبت سفيرها السابق في القاهرة، ماوريتسيو مساري، على خليفة قضية ريجيني.


وأضاف المصدر الدبلوماسي أن "غاسباري ولاتوري من النواب المعروفين بتشددهما إزاء التيارات الإسلامية السلفية والجهادية، على الرغم من انتمائهما للحزب الديمقراطي الممثل لقوى يسار الوسط، وهو الأمر الذي أوجد مساحات لتفاهمهما مع السيسي، في ظل القلق المشترك من نشاط مليشيات داعش والقاعدة في ليبيا". وتابع المصدر أن "الاثنين أديا دوراً كبيراً في إقناع أهم ثلاثة وزراء في الحكومة وهم: وزير الداخلية ماركو مينيتي، ووزير الخارجية أنجلينو ألفانو، ووزيرة الدفاع روبرتا بينوتي، بضرورة إعادة السفير لمصر، تحت حجة أن زيادة نفوذ حفتر في ليبيا بدعم إماراتي ومصري وروسي وفرنسي، سيؤدي لمحاصرة وتقليص مركز إيطاليا في الملف الليبي وسيهدد مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية جنوب البحر المتوسط، وأن رهان روما على قوة حكومة الوفاق ورئيسها فائز السراج، ليس في محله طالما استمر العداء مع حفتر وبرود العلاقات مع القوى الداعمة له"، وفق ما كشف المصدر لـ"العربي الجديد".

وأوضح المصدر المصري أن "الخطوات التي طلبها الوسيطان جاسباري ولاتوري كانت تتضمن، أولاً، أن يلتزم السيسي الحياد في الأزمة المتصاعدة بين إيطاليا وحفتر وأن يسعى لتقريب وجهات النظر بين الطرفين ويكبح جماح حفتر إعلامياً وسياسياً، وهو ما فعله السيسي بالفعل في الأزمة الأخيرة بوقف التصعيد الإعلامي لحفتر ضد إيطاليا ومحاولة التقريب بين وجهتي النظر الفرنسية والإيطالية بشأن حكومة الوفاق". وذكر المصدر أن "صهر السيسي، الفريق محمود حجازي، المكلف منه بإدارة الملف الليبي، أبلغ حفتر بأن إيطاليا في حاجة لمزيد من الطمأنة بأن مركزها الإقليمي لن يتأثر، على الرغم من عدم ارتياح القاهرة لتحركاتها الأخيرة في المياه الإقليمية الليبية، وهو شعور لم تعلن عنه القاهرة رسمياً أيضاً"، كما ذكر المصدر نفسه.

وهناك خطوة أخرى أصر عليها الجانب الإيطالي، تتمثل في إرسال وفود إعلامية ورسمية إلى روما لتسويق ضرورة اتخاذ قرار بعودة السفير الإيطالي إلى القاهرة، كعامل أساسي لتطوير العلاقات بين البلدين اقتصادياً واستراتيجياً وأمنياً، وكذلك ليكون السفير العائد عيناً للحكومة الإيطالية على مجريات التحقيق في قضية ريجيني. وهذا ما فعله السيسي أيضاً بإرسال نقيب الصحافيين المصريين، عبد المحسن سلامة، ورئيس مجلس إدارة وتحرير مؤسسة "الأهرام" الصحافية، هشام لطفي سلام، على رأس وفد "سرّي" لمقابلة عدد من النواب والإعلاميين الإيطاليين والترويج لتلك الرؤية. ولم يتم الكشف عن ذلك إلاّ في مقال كتبه سلامة بعد عودته إلى مصر ونشره في 7 أغسطس/آب الحالي.

والخطوة الثالثة التي أرادها الإيطاليون، هي دعم الموقف الاقتصادي للشركات الإيطالية العاملة في مصر، لا سيما شركة الطاقة العملاقة "إيني"، والتعاقد مع شركات إيطالية لتولي بعض الأنشطة الحكومية الكبرى في مجالات الكهرباء والنقل والنظافة العامة، وهو ما تعهد السيسي به واعتبره أمراً متحققاً بالفعل.

والخطوة الرابعة والأكثر أهمية، والتي اعتبرت، حسب مفاوضات الطرفين، ساعة الصفر لإعلان قرار عودة السفير، فتتمثل في إرسال جميع أوراق التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة، مفرغة ومترجمة إلى الإيطالية، إلى المدعي العام بروما، وعلى رأس تلك الأوراق التحقيقات التي أجرتها النيابة مع ضباط الشرطة الذين قتلوا العصابة المزعوم اتهامها بقتل ريجيني، ووضعها بالكامل تحت تصرف إيطاليا لتكوين صورة كاملة عن مجريات التحقيق في مصر، بحسب تأكيد المصدر المصري.

وقال المصدر إن "رئيس الحكومة الإيطالية باولو جينتيلوني، ووزراء الداخلية والخارجية والدفاع، عادوا وضغطوا على الحكومة لاتخاذ قرار إعادة السفير للأهداف السياسية السابق ذكرها، على الرغم من وجود معارضة واضحة، مدعومة باعتراضات أيضاً من قبل لجان العدالة وحقوق الإنسان والعلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، التي كانت تدفع في اتجاه ممارسة مزيد من الضغوط على مصر لكشف حقيقة ما جرى لريجيني".

وشدد المصدر على "هزلية" محاولة وسائل الإعلام المصرية الموالية للسيسي تصوير ما حدث بأنه إبراء لذمة النظام من قتل ريجيني وأن إيطاليا اقتنعت بإغلاق ملف القضية. وأشار إلى أن المفاوضات السرية بين الجانبين أجري القسم الأخير منها بمشاركة وزارتي خارجية البلدين، وأن موضوع "مساهمة السفير الإيطالي (الجديد) في تقريب المسافات بين السلطات القضائية في الدولتين، وضمان اطلاعه على مستجدات التحقيق" كانا من الشروط التي أكد عليها الجانب الإيطالي أكثر من مرة.

وعلى المستوى القانوني، قال مصدر قضائي كان على صلة بقضية ريجيني خلال العام الماضي، إن القضية لم تشهد حتى الآن تغيرات بارزة، لافتاً إلى أن التعاون الأخير بين القاهرة وروما يمكن وصفه بـ"الإجرائي فقط"، لاقتصاره على تسليم أوراق التحقيقات والوثائق التي توصلت لها النيابة، مترجمة ومفرّغة إلى الجانب الإيطالي، خصوصاً أنه سبق للمدعي العام لروما أن انتقد الأوراق المصرية المرسلة إليه من ملف القضية ووصفها بالغموض وعدم القابلية للقراءة. وأضاف المصدر أن "النيابة العامة حققت مع نحو 15 مسؤولاً أمنياً، لكنها لم توجه الاتهام حتى الآن لأي منهم بقتل ريجيني، كما لم تبلغ ذوي أفراد العصابة المقتولين باتهام أي مسؤول أمني بقتلهم، وكل ما هنالك أنها وضعت أقوال المسؤولين الأمنيين في يد الجانب الإيطالي". وأشار إلى أن النيابة لا تزال تحقق في شبهة صلة العصابة بقتل ريجيني لحساب جهاز أو مسؤول أمني بعد إخضاعه للمراقبة بناء على بلاغ نقيب البائعين الجوالين، وتعذيبه احترافياً لأيام، بهدف إبعاد الشبهة عن الشرطة.

ووفقاً للمعلومات المتداولة في النيابة العامة المصرية فإن النائب العام المصري سوف يزور روما في سبتمبر/أيلول المقبل لاستئناف دراسة أوراق القضية مع الجانب الإيطالي، وكذلك الاطلاع على ما عهد للإيطاليين من المشاركة في استرجاع وتفريغ بيانات كاميرا المراقبة بمحطة مترو أنفاق الدقي التي شوهد فيها ريجيني لآخر مرة قبل اختفائه ثم إيجاده ميتاً.
المساهمون