إقرار جزائري بهدر المال: توجّه لمحاربة الفساد أم صراع سياسي؟

03 يوليو 2017
تحدّث تبون عن هدر بنحو مليار دولار (Getty)
+ الخط -


كشفت تصريحات رئيس الحكومة الجزائري عبد المجيد تبون، حول إهدار الحكومات السابقة ما يقارب مليار دولار أميركي في مشاريع صناعية فاشلة بسبب سوء التخطيط والإدارة، عن مؤشر باتجاه إقرار حكومي جديد حول انتشار الفساد وسوء الإدارة وإهدار المال العام، لكنها أطلقت في الوقت نفسه مرحلة اتهامات متبادلة داخل منظومة الحكم، مع اقتراب موعد أبرز الاستحقاقات السياسية التي تنتظر الجزائر عام 2019 وهي الانتخابات الرئاسية.
وأضاف تبون، في تصريحه حول إهدار الحكومات السابقة أكثر من 70 مليار دينار جزائري، (ما يعادل مليار دولار)، في مشاريع فاشلة لم يتم التخطيط لها بالقدر الكافي، صدمة أخرى للرأي العام في الجزائر، وصبّ رصيداً إضافياً في سلسلة جديدة من فضائح الفساد التي تشهدها الجزائر في العقد الأخير. لكنه أثار أيضاً تساؤلات عن الجرأة السياسية لرئيس الحكومة الجديد، وعما إذا كان التصريح يُمثّل إرادة سياسية في محاربة الفساد الحكومي وضبط الإنفاق العام والتشديد في حماية الموارد والمشاريع، أم أن الأمر يتعلق بخطوة تستهدف كسباً مسبقاً لشعبية وتحسين صورة الحكومة الجديدة إعلامياً، تمهيداً للاستحقاقات السياسية المقبلة، خصوصاً الانتخابات البلدية المقررة نهاية السنة الحالية، والانتخابات الرئاسية المقررة بعد أقل من 18 شهراً، في ربيع 2019.

وإذا كان رئيس الحكومة السابق عبد المالك سلال، أحد أبرز رجالات الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الذي ترأس الحكومة لمدة خمس سنوات من يونيو/ حزيران 2012 حتى يونيو/ حزيران الماضي، هو المعني الأول بتصريحات تبون، فإن رئيس ديوان الرئاسة والأمين العام لـ"التجمع الوطني الديمقراطي" أحمد أويحيى، وهو ترأس الحكومة قبل عام 2012، وجد نفسه معنياً بقضية إهدار مليار دولار في مشاريع صناعية فاشلة، لكنه لم يبدِ مع ذلك دهشة إزاء قضية الفساد الجديدة، بل أكدها ولم يجد حرجاً في اعتبارها ضمن سياق مناخ الفساد السياسي والمالي العام في الجزائر. وقال: "عندما نتجوّل في الجزائر نجد جسوراً ومشاريع لم تنته، تلك أيضاً مشاريع نُهبت أموالها، وعلينا التساؤل إلى أين ذهبت الأموال المرصودة المخصصة لها".

غير أن الجزء الأكبر من المراقبين يعتبرون أنه ليس من حق أويحيى التساؤل بقدر ما من واجبه التوضيح وتحمّل مسؤولياته في هذه القضية، باعتباره جزءاً من منظومة الحكم، ومشاركاً في كل الحكومات التي أدارت شؤون البلاد منذ نشأة حزبه عام 1997، وبصفته رئيس حكومة سابق تشمله تصريحات تبون. كذلك تُنسب لأويحيى نفسه الذي كان رئيساً للحكومة حتى عام 2012، قضايا سوء إدارة وخصخصة المؤسسات العامة وبيعها للمستثمرين بالدينار الرمزي وإغراق الجزائر في شروط صندوق النقد الدولي. وقال المحلل السياسي محمد حديبي: "أعتقد أن آخر من يجب أن يصمت في مثل هذه الملفات هو أويحيى لما له من مسؤولية تاريخية وسياسية مع مختلف الأنظمة ومشاركته في كل المحطات بصناعة القرارات".

من جهته، اعتبر النائب نصر الدين حمدادوش أن "ما وصلنا إليه هي نتيجة حتمية لأزمة الشرعية، ولتمييع المسؤولية السياسية، ولتعدّد مصادر القرار فيها، ولحالة صراع الأجنحة الذي يشكّل خطراً حقيقياً على البلاد ومستقبلها"، محذراً من "خطورة هذا الإخفاق السياسي والمالي والاقتصادي للحكومة، وهو ما يتطلّب توفير شروط الممارسة الديمقراطية الحقيقية لتحقيق التنمية".

ولا ترتاح أحزاب المعارضة لإقرار رئيس الحكومة بوجود فساد وإهدار للمال العام. وشكك رئيس حركة "مجتمع السلم" عبد الرزاق مقري، في أن يكون المبلغ المهدور هو الرقم الذي تحدّث عنه تبون، وقال: "إقرار رئيس الحكومة بأن الدولة دفعت أكثر من 70 مليار دينار في مشاريع استثمارية عديدة من دون رؤية حول مردودية ذلك، والحقيقة أن المبالغ التي أُنفقت من دون فائدة للاقتصاد الوطني أكثر بكثير من هذا الرقم الذي قدّمه تبون". وتساءل مقري: "هل هناك شخص يجب مساءلته عن هذا التبذير وهذا الضياع المعترف به رسمياً للثروة الوطنية؟ هل يُحاسب سلال أم يُحاسب الرئيس بوتفليقة أم يُحاسب النظام السياسي بكامله؟"، مضيفاً: "تبون يسير في توجّهات اقتصادية عكس سلفه سلال، والأخير كان يقول إنه يطبّق برنامج بوتفليقة، وتبون يقول الآن إنه يطبّق برنامج الرئيس، وأمام التناقض الكبير في التوجّه الاقتصادي أيهما برنامج الرئيس؟".
وأشار مقري إلى أن "هذا التغيير في الخطاب الذي اتجه إليه تبون يبقى مجرد خطاب، لأن ما يسيّر الاقتصاد الوطني هي القوانين وليس التصريحات، والحديث الذي يتجه إليه رئيس حكومة جديد في حق سابقه نابع من فكرة تدوير السلطة داخل منظومة الحكم الواحدة بواسطة السيطرة والهيمنة والتزوير الانتخابي وليس بواسطة التداول بين الأحزاب عن طريق الديمقراطية والانتخابات الحرة والنزيهة". وحذر من استمرار السلطة في لعبتها السياسية، قائلاً: "طريقة التدوير هذه لن تُجدي نفعاً، فهي مجرد كسب الوقت لمواجهة الأزمات، الهدف منها إنقاذ السلطة وليس إنقاذ البلد".


ما تحدث عنه مقري بشأن وجود صراع داخل النظام تتحلل منه السلطة بواسطة تدوير الوجوه والسياسات من دون إصلاح جدي، اعتبره المحلل السياسي محمد حديبي جزءاً من تقاليد النظام الذي أسس لمنظومة فساد كاملة، قائلاً: "الفساد هو جزء لا يتجزأ من المنظومة المهيكلة للحكم، وتغلغل داخل مؤسسات الدولة أفقياً وعمودياً بسبب غياب معايير الحكم الراشد في الإدارة، خصوصاً حينما تم تغييب معايير شفافية الانتخابات عن قصد من أجل تعطيل آليات رقابة المال العام والأداء الحكومي". ورأى أن "هذا الفساد يُوظَّف في إعادة موازين الحكم بين أجنحة السلطة، والصراع بين أجنحة السلطة جعل من الحكومة تشن الحرب على الفساد على رواق واحد من دون غيره من الأروقة، فيما المنطق يقول إن تطبيق القانون يتم على الجميع".

ويتوافق تقدير حديبي مع بعض التقارير التي أشارت إلى أن تصريحات تبون تستهدف رئيس الديوان الرئاسي أحمد أويحيى الذي يُعدّ أبرز المرشحين المحتملين للانتخابات الرئاسية، والذي يتنازع في ذلك مع جزء من داخل السلطة يمثّله سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس الحالي، خصوصاً أن تصريحات تبون ركزت على الفساد في مشاريع صناعية كانت تشرف عليها وزارة الصناعة، والتي كان على رأسها الرجل الثاني في حزب أويحيى، الوزير السابق عبد السلام بوشوارب، المشتبه به أيضاً في قضية "بنما بايبرز". وتزامنت تصريحات تبون مع شائعات عن تفتيش عناصر من جهاز الاستخبارات لمكتب أويحيى ومنع بوشوارب من السفر.
وأعطى حديبي لتصريحات تبون بُعداً دعائياً آخر، معتبراً أن "تبون كان في حاجة إلى تصريحات كهذه ضد الفساد بما يُعتبر لدى الرأي العام جرأة سياسية مع جرعة إضافية عن باقي رؤساء الحكومات الذين سبقوه، لفرض وجوده داخل الجهاز التنفيذي للدولة، وكذلك أمام الرأي العام نظراً لعدم وجود عوامل ذاتية في قوة الضبط والإداري أو العمق السياسي أو الجانب الشعبي".

وستكون الأيام المقبلة كفيلة بإثبات ما إذا كانت تصريحات تبون تمثّل تحوّلاً جدياً في سياسات الحكومة إزاء إدارة المال العام والإنفاق المالي، أم مجرد خطاب سياسي عابر يدخل في سياق الصراع السياسي المبكر حول الانتخابات الرئاسية المقبلة. وتميل التقديرات إلى الطرح الثاني، خصوصاً أن عمر حكومة تبون نظرياً لن يتعدى 18 شهراً وينتهي مع الانتخابات الرئاسية في ربيع 2019، كما أن السلطة في الجزائر لم تُبدِ في أي مرحلة سياسي إرادة جدية في مكافحة الفساد، وظلت تعتمده كأسلوب تخويف سياسي.