هذه المرحلة الجديدة، التي انتقل فيها الاشتباك من الساحل الغربي إلى الشرق السوري، تبلورت نتيجة ثلاثة تطورات متسارعة ومتزامنة: الأول هو اتفاق وقف إطلاق النار في أستانة الذي سمح للنظام بنقل تركيزه من إدلب إلى دير الزور والشرق السوري؛ الثاني إضعاف تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وانسحابه السريع من مساحات كبيرة من الأراضي استعداداً لمعارك الرقة ودير الزور؛ والثالث هو تقدّم القوات العراقية ضد "داعش"، ما جعل ضبط الحدود السورية أولوية لتفادي تدفق السلاح والمسلحين على طرفي الحدود المشتركة.
في صلب كل هذه التطورات، يأتي طريق دمشق - بغداد الذي يبدأ من أم قصر في محافظة البصرة حتى الرطبة في محافظة الأنبار حيث ينقسم إلى اتجاهين: جنوباً معبر طريبيل نحو الأردن، وشمالاً معبر الوليد نحو سورية. شركة أمنية أميركية تعاقدت مع الحكومة العراقية للمساعدة في تأمين الطريق نحو الأردن، فيما انتشر فوج من الحشد العشائري في طريبيل لتهدئة الهواجس الأردنية والأميركية. أما الطريق نحو سورية فلا يزال هناك تحدٍ أميركي لتأمينه، في وقت تسعى فيه طهران لاستعادة خط الإمدادات الذي يصل حتى بيروت. هدف واشنطن بناء قاعدة عسكرية تقطع هذا الخط وتُبعد إيران عن الجنوب السوري، وتكون هذه القاعدة محاصرة بمناطق كردية وسنّية تحميها.
في ظل كل تطورات الشرق السوري، لا يزال البنتاغون يلتزم الصمت حول مقاربته في المرحلة المقبلة، وما إذا سيكون مستعداً لدعم فصائل المعارضة ضد النظام السوري وحلفائه وليس فقط ضد "داعش". لكن هناك مؤشرات متزايدة على أن واشنطن تتحرك تدريجياً في هذا الاتجاه، لا سيما مع تسليمها أخيراً عربات مدرعة وصواريخ "تاو" المضادة للدروع لهذه الفصائل في الشرق السوري. هذا الدعم المحدود لن يغيّر على الأرجح ميزان القوى في الميدان، لكن قد يكون كافياً على الأقل لدفاع الجيش الحر عن مواقعه في هذه المناطق.
من جهته، يتقدّم النظام السوري وحلفاؤه نحو الحدود العراقية عبر ثلاثة محاور، هي ريف دمشق وتدمر وحماة. قصفُ القوات الأميركية لـ"كتائب سيد الشهداء" في 18 مايو/ أيار عند اقترابها من التنف، يُعد أول ضربة أميركية مباشرة لمليشيات إيرانية في الداخل السوري، في خطوة اعتبرتها واشنطن دفاعاً عن النفس وليس اتجاهاً للتورط في الحرب السورية. اللافت كان البيان الذي صدر عن "كتائب سيد الشهداء" وحذر فيه القوات الأميركية من أن "ضربة على وجودنا في سورية هي ضربة على وجودنا في العراق، وسنضرب عدونا وداعميه في كل مكان". كذلك فإن معلومات تحدثت عن نقل حزب الله اللبناني عدداً من مقاتليه من الحدود اللبنانية للمشاركة في معركة البادية، ما قد يترك فراغاً في القلمون قد يستفيد منه "داعش" و"جبهة النصرة".
التنسيق العراقي - السوري هو ضرورة إيرانية ملحّة لضبط الحدود المشتركة، لا سيما في ظل معركة الموصل ومحاولة "الحشد الشعبي" تطويق "داعش" من الخلف عبر التقدّم من سنجار جنوباً نحو القائم شمالاً لملاقاة الجيش العراقي. هذا الطريق الذي يسلكه "الحشد الشعبي" آمن لأنه على تماس مع "قوات سورية الديمقراطية" في الحسكة على الجانب السوري. ويُتوقع أن تنتهي مهمة "الحشد الشعبي" عند منطقة القائم، بعدها يتابع الجيش العراقي معركة الحدود مع سورية. هذا يعني أن هناك محاولة لتفادي مواجهة أميركية - إيرانية، وأنه يُستبعد اقتراب المليشيات المدعومة إيرانياً من التنف أو انتشارها قرب الحدود الأردنية، وذلك يبدو بتفاهم يتبلور مع موسكو.
السباق نحو دير الزور
المعركة الرئيسية في الشرق السوري ليست التنف بطبيعة الحال بل سباق السيطرة على دير الزور. النظام يسعى لحماية ريف دمشق وفرض حصار على قاعدة التنف العسكرية وقطع الطريق إلى دير الزور على الجيش السوري الحر الذي يسعى بدوره لإنهاء حصار النظام على شرقي القلمون. صحيفة "ذا غارديان" تحدثت عن تعديل إيران لممرها البري بين العراق وسورية لتفادي المواجهة مع القوات الأميركية. الممر الجديد بعيد 225 كيلومتراً عن قاعدة التنف العسكرية، ويعبر الميادين ودير الزور، قبل أن يصل إلى تلعفر على الجانب العراقي. يبدو أنه ليس هناك من مفر لتقاسم النفوذ في دير الزور التي وصفتها صحيفة "تايمز" البريطانية بأنها "برلين" النزاع السوري. بالإضافة إلى النظام الذي يتوغل في دير الزور، حليفان رئيسيان لواشنطن أيضاً يوسعان نفوذهما: "قوات سورية الديمقراطية" تتقدّم من الشمال الغربي عبر الرقة، فيما يتقدّم الجيش الحر من الجنوب الغربي.
في ظل هذا التقسيم المحتوم لمحافظة دير الزور، السؤال الرئيسي خلال الأسابيع المقبلة هو هل سيكون ترسيم الحدود بين هذه القوى نتيجة تفاهم أميركي - روسي أو بعد معارك ضارية؟ بغض النظر عما إذا قطع النظام طريق دير الزور على المعارضة أو العكس، على "المنتصر" أن يستعد مع خصمه فوراً للمعركة ضد "داعش".
حسابات أميركا وإيران وسورية
مع أن فصائل المعارضة والمليشيات المدعومة من إيران تتوق إلى مواجهة ميدانية، يبدو أن هناك تريثاً في واشنطن وطهران لأسباب عدة. أولاً في حال الولايات المتحدة، فإن تفوّق القوة الجوية لا يعوّض الخيارات الميدانية المحدودة في ظل عدد قوات لا يتجاوز الألف عنصر تجمعهم علاقة معقدة مع الجيش الحر. ثانياً، حليف واشنطن الرئيسي في سورية، "قوات سورية الديمقراطية"، في هدنة غير معلنة مع النظام ولن تخوض أي معركة مع المليشيات التي تدعمها إيران. ثالثاً، ملف التحقيق في تدخّل الحكومة الروسية في الانتخابات الأميركية سيقيّد قدرة إدارة دونالد ترامب على عقد صفقة مع موسكو في سورية، في وقت تبقى فيه علاقة واشنطن مع أنقرة متوترة، ما جعل القوات الأميركية تنتشر كقوة عازلة في الشمال بين القوات التركية و"قوات سورية الديمقراطية". أما في ما يخص العراق، السياسة الأميركية تعتمد إلى حد كبير على مدى قدرة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي على الحكم في حال بدأت الضغوط الأميركية عليه تتصاعد.
من جهتها، المليشيات المدعومة من إيران لديها نقص الغطاء الجوي في مواجهة القوات الأميركية، في وقت لن تغامر فيه طهران بشراكتها مع موسكو في سورية بفتح معركة مع واشنطن. حياد واشنطن في الحرب السورية على مدى ست سنوات حمل فائدة كبيرة لإيران وأي تحوّل في مقاربة واشنطن في هذا الإطار قد يعرّض المكاسب الإيرانية للخطر. أما موسكو، فستواصل بطبيعة الحال دعمها الجوي للنظام في تدمر لكنها لن تقترب من مناطق "تخفيف التصعيد" قرب التنف ولن تخوض مواجهة مباشرة مع الإدارة الأميركية، لا سيما أنها تحتاج إلى توقيعها على اتفاق أستانة.
تبدو الحكومة الروسية أكثر استعداداً للتسوية، فيما النظام الإيراني يركز جهوده على خط الإمداد بين سورية والعراق. واشنطن مستعدة لقبول دور روسي في الجنوب السوري شرط إبعاد المليشيات المدعومة من إيران، لكن أي خلاف روسي - إيراني في سورية مستبعد في المدى المنظور. حتى الآن، القصف الجوي الروسي - الأميركي لا يزال ضمن إطار الضوابط الميدانية، لكن أي تصعيد تدريجي قد يؤدي إلى "حرب باردة" جديدة بالوكالة على الأرض السورية. وإذا ما بادرت إيران إلى الهجوم على التنف فهذا يعني بكل بساطة أنها تستفز القوات الأميركية وتدفعها إلى التورط بشكل صريح في الحرب السورية. في محاولتها تأمين طريق دمشق بغداد، السؤال الآن هل أميركا مستعدة لمشاركة النفوذ مع إيران وتركها تفتح الممر البري عبر الحدود السورية العراقية من الميادين إلى تلعفر، أو ستقرر إحكام السيطرة على كل منافذ الحدود السورية - العراقية؟
الصيف الحار المقبل على البادية سيعرقل جهود تحرير دير الزور ويترك للقوات الأميركية خيار الاعتماد على القصف الجوي المكثف، في وقت تحدث فيه وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس عن تحوّل التكتيك ضد "داعش" من "الإنهاك إلى الإبادة". ومع تقلّص المساحات الجغرافية التي يسيطر عليها التنظيم، ستزداد قوته على الصمود في المرحلة المقبلة وقد يستغل المواجهات القائمة في الشرق السوري. إذا ما قررت واشنطن وطهران إنهاء التعايش بينهما لمحاربة "داعش" منذ عام 2014، سيكون لهذا الأمر تداعيات من العراق إلى لبنان. على إدارة ترامب أن تقرر في الأسابيع المقبلة ما إذا كانت حماية طريق دمشق - بغداد تستحق تورطاً أميركياً مباشراً في الحرب السورية.