كوريا الشمالية... الحرب التي لن تقع

11 مارس 2017
الزعيم الكوري الشمالي "سعيد" بالتجارب الصاروخية (فرانس برس)
+ الخط -

خلف التجارب الصاروخية في كوريا الشمالية والصورة الغريبة عن زعيم البلاد كيم جونغ أون، تبدو البلاد وكأنها دولة معزولة عن غيرها، ولا ترتبط بالعالم سوى عبر بوابتيها إليه، الصين وروسيا. كوريا الشمالية، التي صنّفها الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الابن، بأنها من "دول محور الشرّ"، إلى جانب إيران والعراق، ليست سوى دولة "جائعة"، تحكمها قوانين غريبة، وتريد الخروج من مأزقها.

قد تكون هناك هموم كبرى في العالم، من سورية واليمن والعراق وليبيا والملف النووي الإيراني وصولاً إلى أوكرانيا. وقد تتبدّل أولويات تلك الملفات وفقاً لحدث زمني محدد يطاول إحدى تلك البلدان. وحدها كوريا الشمالية تبدو خارج إطار كل أولوية، وكأنها "تتمتع" بخاصيّة وجودها في حيّز جغرافي "بعيد" عن قلب القرار بين أوروبا الغربية وبريطانيا والولايات المتحدة. فمنذ عام 2006، تاريخ إجرائها أول تجربة نووية، تحوّلت كوريا الشمالية إلى عملاق نووي، يُخشى أن يزعزع استقرار السلم العالمي انطلاقاً من الشرق الآسيوي، خصوصاً مع تتالي التجارب الصاروخية، النووية وغير النووية، وصولاً إلى إطلاق أربعة صواريخ يوم الاثنين، على بحر اليابان، وتحديداً على المنطقة الاقتصادية البحرية التابعة لطوكيو. ووسط الإدانات المتلاحقة من مختلف القوى الإقليمية والعالمية، اعتبرت بيونغ يانغ أن "عملية إطلاق الصواريخ كانت تدريباً على ضرب القواعد الأميركية في اليابان". وذكر بيان لوكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية، أن "الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون أشرف على العملية وأمر شخصياً ببدئها".

حددت بيونغ يانغ هدفها: "الولايات المتحدة أولاً". وعلى الرغم من أن العنوان "اعتيادي"، إلا أن الكشف عن هذه التهديدات يأتي هذه المرة في ظلّ غياب الوسيط الماليزي، الذي استقبل مفاوضات سرية بين شخصيات أميركية وكورية شمالية العام الماضي، لتهدئة الوضع بين البلدين، والخروج بحلول سلمية للملف النووي الكوري الشمالي. غياب الوسيط الماليزي لم يكن سوى بسبب عملية اغتيال كيم جونغ نام، الأخ غير الشقيق للرئيس الكوري الشمالي، في العاصمة الماليزية كوالالمبور، وما تلاها من طرد متبادل لسفيري البلدين.

كما أن النظام الحاكم في بيونغ يانغ يستعرض عضلاته أمام إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المتخبّطة في تعييناتها الأخيرة، على الرغم من تأكيدها على "دعم اليابان" من جهة، وبدء نشر منظومة "ثاد" في كوريا الجنوبية من جهة أخرى، في ظلّ استمرار المناورات العسكرية الأميركية ـ الكورية الجنوبية المشتركة.




حتى الآن، يتضح أن ما تريده كوريا الشمالية هو الاعتراف بحقها النووي، خصوصاً أنها لا تزال أسيرة تحالفاتها الروسية والصينية. وكان لافتاً في هذا الصدد أن الكرملين أبدى قلقه "البالغ من التطورات الخطيرة التي تشهدها شبه الجزيرة الكورية"، داعياً بيونغ يانغ إلى "التوقف عن استفزاز جيرانها". كما اعتبر رئيس لجنة شؤون الأمن والدفاع في مجلس الاتحاد الروسي، فيكتور أوزيوروف، أن "ما يعطل تسوية مشكلة بيونغ يانغ النووية، هو افتقاد المجتمع الدولي لموقف منهجي وموحد في التعامل معها، على غرار ما تم مع طهران". ولفت إلى أنه "يبدو لي أننا لا نتحدث عن مشكلة بيونغ يانغ إلا بعد اختباراتها الصاروخية وإعراب كوريا الجنوبية واليابان عن قلقهما حيال أمنهما جراء هذه الاختبارات، لنعود وننسى ما حدث في أعقاب ذلك". بدوره، ذكر المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، غينغ شوانغ، أن "الصين تعارض انتهاك كوريا الشمالية لقرارات مجلس الأمن الدولي"، داعية بيونغ يانغ وواشنطن إلى "التزام الهدوء".

لكن موسكو كانت واضحة باعتبار أن "نشر الولايات المتحدة نظام دفاع صاروخياً في كوريا الجنوبية يوصل الوضع في شبه الجزيرة الكورية إلى طريق مسدود". كما شدّد نائب رئيس لجنة مجلس الدوما لشؤون الدفاع، يوري شفيتكين، على أنه "بالتأكيد لا نستطيع أن نكون طرفاً مراقباً في هذا الصدد، من جانبنا تم وضع التدابير لضمان أمن حدودنا". وهو ما أعلنته بكين أيضاً بأنها "ستدافع بحزم عن مصالحها الأمنية في مسألة منظومة ثاد، وستتحمّل الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية جميع العواقب التي ستنطوي على ذلك".

ومع إعلان مندوب كوريا الشمالية لدى الأمم المتحدة، جا سونغ نام، أن "التدريبات العسكرية الأميركية ـ الكورية الجنوبية قد تدفع بشبه الجزيرة الكورية وشمال شرق آسيا نحو كارثة نووية، وأنها ربما تشعل حرباً حقيقية"، يبدو أن الحرب باتت أقرب من أي وقتٍ مضى، لكنها لن تقع.

الأسباب الأساسية لعدم وقوع أي حرب في الشرق الآسيوي، تنبع من حاجة كوريا الشمالية إلى إلغاء العقوبات عليها، التي تزايدت في الآونة الأخيرة، مهددة بتهاوي اقتصاد البلاد. وتدرك بيونغ يانغ أن أي حربٍ على القواعد الأميركية في الجزر اليابانية، لن تؤدي إلى هزيمة الولايات المتحدة، بل إلى هزيمتها هي بالذات، مع سقوط كل مكاسب النظام الحاكم. وقد تستخدم واشنطن أي اعتداء عليها، لاحتلال كوريا الشمالية، تماماً كما حصل في 7 كانون الأول 1941، حين اعتدت القوات اليابانية على بيرل هاربر في جزر هاواي الأميركية، التي أدت فيما بعد إلى قصف مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين بقنبلتين نوويتين، واستسلام الامبراطور هيروهيتو للجيش الأميركي. ومن تداعيات الاستسلام هو بقاء الأميركيين عسكرياً في اليابان. تدرك كوريا الشمالية أن للصين حسابات أخرى مرتبطة بملف بحر الصين الجنوبي، وأي عمل عسكري في شبه الجزيرة الكورية، سيُضعف موقف الصين في البحر الجنوبي. أما روسيا، فإن تواجهها السياسي مع اليابان على خلفية جزر الكوريل، تحوّل إلى اتفاق مشترك على استغلال المنطقة الاقتصادية في تلك الجزر بين موسكو وطوكيو. الصين وروسيا لا ترغبان بحدود مباشرة مع الأميركيين في كامل شبه الجزيرة الكورية، مع ما يعنيه ذلك من اختراق أميركي واسع للمنظومة الاقتصادية ـ الاجتماعية هناك.

بناء عليه، تبقى التجارب الكورية الشمالية وكأنها "نداء استغاثة" خفي، أكثر منه محاولة فعلية لجرّ تلك المنطقة إلى حربٍ مدمّرة. وقد تكون بيونغ يانغ على دراية بالاهتزاز الداخلي في واشنطن، ساعية إلى استغلال ذلك من أجل رفع العقوبات عنها، بصورة شبيهة بإيران. تبدو الأوضاع أقرب إلى سياسة "عضّ الأصابع"، ووفقاً لكل الحالات التاريخية السابقة، فإن كوريا الشمالية هي من ستتألم أولاً.