تونس والصراعات العربية... هل تنجح سياسة "النأي بالنفس"؟

25 نوفمبر 2017
يؤكّد الجهيناوي أن لبلاده علاقات متقدمة مع كل الدول(الأناضول)
+ الخط -

تواجه الدبلوماسية التونسية اختبارات متلاحقة وضغوط كبيرة لإخراجها عن مسار تاريخي وتقاليد راسخة تقوم على الحياد وعدم التدخل في الدول الأخرى، ولا شك أن الحياد أصبح أمراً صعباً في ظلّ الانقسام العربي العمودي بين محورين. ولا يتعلّق الأمر بالضغوط الخارجية فقط، وإنّما أيضاً برقابة داخلية شديدة، خصوصاً إزاء القضايا التي يعتبرها التونسيون خطاً أحمر، على رأسها القضية الفلسطينية ومقاومة التطبيع.

وأصدر 41 نائباً من كتل برلمانية مختلفة، أوّل أمس الخميس، عريضة تطالب وزارة الخارجية بالتنصّل من البيان الصادر عن اجتماع وزراء الخارجية العرب، واصفين إياه بـ"وصمة عار على تونس الثورة وخيانة لدماء شهدائها"، لأنه "كان صادماً للجماهير العربية وتجاهل الأزمات والحروب التي تعيشها المنطقة وسعي بعض الأنظمة لتصفية القضايا العربية العادلة وفرض التطبيع مع العدو الصهيوني كخيار رسمي جديد". وطالب النواب وزارة الخارجية التونسية بـ"التنصل من البيان"، ورفض "تجريم المقاومة الوطنية في لبنان وإشعال حرب جديدة في المنطقة".


وسبق اجتماع وزراء الخارجية العرب لقاء مع السفير السعودي في تونس، وكذلك مع مبعوث إيراني والسفير الإيراني في تونس، بما برز كمحاولة تونسية لتهدئة الأوضاع الملتهبة بين البلدين ومعسكريهما، برغم صعوبة ذلك في الوقت الراهن. وأمس الجمعة، تلقّى وزير الخارجية، خميّس الجهيناوي، في البرلمان، سيلاً من انتقادات المعارضة حول التزام تونس بثوابت الانتصار للقضايا العربية، ودعم المقاومة ورفض التطبيع، وكذلك لمواقف بعض السفراء الأجانب في تونس وما اعتبروه "تحرّكات في غير محلها"، داعين تونس إلى "الانتصار دائماً للحق، أو على الأقل عدم الانتصار للباطل". وذهبت النائبة المعارضة مباركة البراهمي، أبعد من ذلك، معتبرة أن "السفير السعودي أصبح هو من يحدد السياسة الخارجية التونسية ويملي عليها مواقفها".


وبرغم أن تونس وقعت في هذا الجدل من قبل، عندما رفض الرئيس الباجي قائد السبسي تصنيف "حزب الله" اللبناني منظمة إرهابية رداً على التزام وزارة الداخلية ببيان يتبنّى ذلك، تحت ضغط منظمة وزراء الداخلية العرب، يعود هذا الجدل من جديد مع تبني وزارة الخارجية التونسية بيان وزراء الخارجية العرب.

وبصرف النظر عن بعض المواقف المتشنجة التي قد تمثّل خطّ بعض الأحزاب القومية التقليدية، يعكس هذا الموقف صورة عن حجم الضغوطات التي ترزح تحتها الدبلوماسية التونسية في هذه المرحلة، من الداخل والخارج. وأشار نائب تونسي في الجلسة، مخاطباً الجهيناوي، إلى أنّ "الظروف الاقتصادية ليست بالضرورة مبرراً لتوريط تونس في بعض الالتزامات العربية التي تفرضها الجامعة العربية أو غيرها من القوى العربية"، مضيفاً "الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها".


ويعبّر النائب بشكل غير مباشر عن جوهر هذه الضغوط، وحقيقة هذه المعادلة الصعبة، لأن تونس تحاول النأي بنفسها عن الصراع العربي - العربي، والمحافظة على استقلال قرارها وعدم التورط في الانتصار لجهة على أخرى، ولكنه أمر في غاية الصعوبة حالياً. فكيف يمكن الحياد مثلاً في الأزمة الخليجية وعدم إغضاب المعسكر السعودي الإماراتي المصري، بينما يعود وفد تونسي، بينه أكثر من مائة رجل أعمال، قبل أيام من الدوحة، حيث أبرموا هناك عشرات العقود لتصدير مواد تونسية، في ظلّ وضع اقتصادي تونسي يعاني من تراجع الصادرات وتدني المخزون من العملة الصعبة؟ وهل يمكن فعلاً للدبلوماسية التونسية أن تكون محايدة وتختار بين من يمنحها مليار دولار وبين من يفرض عليها خياراتها السياسية الداخلية مقابل دعمها، ويطالبها لذلك بإقصاء حزب سياسي منتخب ودفع البلاد إلى حالة من الانقسام؟

وبخصوص هذه الثنائية، الإمارات/ قطر، أوضح وزير الخارجية في حوار مع صحيفة "الشروق" التونسية، أن لبلاده علاقات متقدمة مع كل الدول، وقال "لدينا علاقات متقدمة مع الكل في الوقت نفسه. قطر دولة مهمة جداً بالنسبة إلينا، ولدينا علاقات مهمة جداً معها... ونحن لا نريد تصدعاً آخر على الساحة العربية، وأي تصدّع في منظومة الخليج ستكون له انعكاسات كبرى على كل دول المنطقة... وبالتالي نحن نتمنى أن يتجاوز الأشقاء هذا الخلاف. ولكن يبقى السؤال، هل هذا سيتم في أجل قريب؟.. هذا لا يمكن لي الجزم بشأنه".

رغم ذلك، يحاول المسؤولون التونسيون احترام أولوياتهم الداخلية ومصالحهم العليا، وعدم الإذعان لشروط من هذا المحور أو ذاك، وإقناع الأطراف كلها بأن وضع تونس وخيارها الاستراتيجي يمنعها من الدخول في صراعات لا تهمها، بل هي مقتنعة بأنها ستنتهي بطريقة أو بأخرى، وهو ما حاولت شرحه لكل الأطراف، وتبقي في الوقت نفسه على علاقاتها مع بعض هذه الدول، وإن كانت شكلية لتجنّب الجمود والقطيعة.

وعاد وزير الدفاع التونسي عبد الكريم الزبيدي، أول من أمس الخميس، من زيارة إلى الإمارات، من دون الكشف عن تفاصيلها. ولكن اتضح أنها للمشاركة في معرض دبي للطيران، التقى خلالها وزير الدولة الإماراتي لشؤون الدفاع محمد بن أحمد البواردي. وهو ما يعني أن تونس تحاول الإبقاء على خيوط الاتصال، لأن الموقف الإماراتي من تونس واضح ومعروف ولن يتغيّر وهو إبعاد حزب النهضة، وهو ما ترفضه تونس أيضاً بكل وضوح لأنها ترفض التدخل في شؤونها الداخلية وفرض إملاءات عليها.

وتلتقي تونس مع مصر في قضايا مصيرية، لعل أبرزها الملف الليبي، ولكن الخلاف بينهما كبير على أكثر من صعيد. فمصر تعسكرت بوضوح في المحور السعودي الإماراتي ضد قطر، ولا تزال تعتقد أنّ الحلّ العسكري ممكن في ليبيا، وتنتصر للواء المتقاعد خليفة حفتر بوضوح تام، في حين أن تونس ترفض الحلّ العسكري في ليبيا وتدرك أنه سيزيد من عمق الأزمة وتريد جمع كل الفرقاء على طاولة واحدة، ما يعكس تبايناً جوهرياً بينهما في هذا الملف وفي غيره. ويبدو أن السبسي فشل في إقناع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي في هذا الخصوص خلال لقائهما في القاهرة، وهو دعاه مرتين إلى زيارة تونس، ولكن عدداً من الأحزاب والناشطين يرفضون مجيئه.


ولا تنتهي الضغوط عند هذا الحد، فتونس تسيّر علاقاتها المغاربية بحذر أيضاً، بين الصراع الجزائري المغربي الذي يخفت حيناً ويحتدّ أحياناً كثيرة، مع علاقات مصيرية مع الجزائر الواقعة على حدودها، وعلاقات تاريخية مع المغرب ومصلحية أيضاً، خصوصاً بشأن الوضع مع الاتحاد الأوروبي. ويمكن تلخيص حالة السياسة الخارجية التونسية بأنها دبلوماسية تمشي على أطراف الأصابع، فوق رمال متحرّكة قابلة لأن تسقطها مع أول خطوة خاطئة في غير محلها… ترفض ضرب السعودية بصاروخ، ترفض إدخال لبنان في حالة فوضى، ترفض محاصرة قطر، ترفض الإقصاء والحل العسكري في ليبيا، ترفض تصنيف "حزب الله" إرهابياً، تصادق على بيانات عربية في هذا الشأن، تمدّ يدها إلى المغرب والجزائر والإمارات والبحرين، وتدعم علاقاتها مع قطر… والخلاصة أن تونس تحاول أن تفرض خياراتها على وضع عربي وإقليمي معقد ومتناقض وفي مرحلة داخلية حساسة للغاية، سعياً لتحصين نفسها من هذه العواصف العاتية.