إدارة ماكرون لقضية الحريري: بدء رحلة العودة الفرنسية إلى لبنان

19 نوفمبر 2017
ماكرون محتضناً الحريري أمس في الإليزيه (برتران غواي/فرانس برس)
+ الخط -

"البحث عن دور فرنسي متقدّم في الشرق الأوسط"، يبدو أكثر من مجرّد عنوان سياسي أو شعار انتخابي للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بل خريطة طريق لسلوكيات سياسية فرنسية مختلفة عمّا ساد في العقود القليلة الماضية. بين لبنان وإيران والسعودية والإمارات، وكل إفرازاتها، بدت الدبلوماسية الفرنسية في حراك نشط في الأسابيع الأخيرة، من الملف النووي الإيراني، إلى مسألة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري. وإذا كان السجال الفرنسي ـ الإيراني متمحورا حول "دور طهران في أزمات الشرق الأوسط والصواريخ الباليستية"، فإن الوضع في لبنان مختلف، بسبب الدور الفرنسي التاريخي فيه، ولإمكانية تحقيق "العودة المظفّرة" التي طالت كثيراً.

فسّر مشهد احتضان ماكرون للحريري على أدراج قصر الإليزيه كل شيء، أمس السبت. ماكرون كان فاعلاً، سواء بشكل مباشر، بزيارته السعودية ولقائه ولي العهد محمد بن سلمان، أو عبر إيفاده وزير خارجيته جان إيف لودريان والرئيس السابق نيكولا ساركوزي، لبحث قضية الحريري في العاصمة السعودية الرياض، مع بن سلمان. بالنسبة للدبلوماسية الفرنسية، فإن ما فعلته هو "الانخراط الفعلي في تفاصيل المنطقة"، بعد سنوات طويلة من الغياب، ومن الاكتفاء بتوقيع عقود مالية مع عددٍ من الدول، من دون الولوج في الملفات السياسية، التي تُركت أوروبياً لصالح بريطانيا أولاً وألمانيا ثانياً، وأيضاً لصالح الولايات المتحدة وروسيا.

المتابع لخط سير ماكرون منذ عام 2014، ثم حملته الرئاسية الانتخابية في العامين الماضيين، يدرك أنه أمام رجل يرفض أن يكون فرانسوا ميتران آخر، قام بنجدة الرئيس اللبناني الحالي، ميشال عون، ونقله إلى منفى طوعي في فرنسا، أيام كان قائداً للجيش، بعد سقوطه في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1990، أمام زحف القوات السورية إلى قصر بعبدا. كما أن ماكرون ليس بوارد تكرار ثنائية جاك شيراك ـ رفيق الحريري، التي جعلت من الرئيس الفرنسي الأسبق شريكاً هاماً للحريري الأب، أدى في نهاية المطاف إلى مشاركة فرنسا بفاعلية في وقف "عدوان نيسان" الإسرائيلي على لبنان عام 1996. استند الحريري إلى شيراك في شرح الموقف اللبناني، وتضمينه في نصّ الاتفاق. وتصرّف شيراك بوحي من صداقته للحريري، لا بسبب العلاقات السياسية اللبنانية ـ الفرنسية. وأيضاً لن يكون ماكرون شبيهاً ببرنار كوشنير، الذي عمل على محاولة كسر الحصار البحري على ما كان يسمّى "المنطقة الشرقية" من بيروت الذي فرضته القوات السورية أيام حرب التحرير التي أعلنها عون ضدهم عام 1989، بإرساله سفناً محمّلة بالأدوية والمؤونة، باسم منظمة "أطباء العالم".

ماكرون كان جلياً في خطواته، ففرنسا التي غادرت لبنان "فعلياً" بعد اغتيال سفيرها، لوي دولامار في سبتمبر/أيلول 1981، أيام حرب لبنان (1975 ـ 1990)، على يد "أجهزة تابعة للنظام السوري"، وفقاً لبيان باريس في حينه، باتت على مشارف العودة إليه. يدرك الإليزيه، أن البريطانيين سبقوهم إلى الحدود اللبنانية ـ السورية، زارعين عشرات الأبراج العسكرية على الحدود، من منطقة عكار شمالاً إلى البقاع شرقاً، في مسعى لترسيخ التعاون العسكري بين البلدين. يعلم الإليزيه، أن الأميركيين يوسّعون سفارتهم في عوكر (شرقي بيروت)، لتكون أكبر سفارة لهم، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يعلم ماكرون، أن الخطوة الأساسية للعودة إلى الداخل اللبناني، تبدأ بصورة "قضية كبرى"، ولا أفضل من قضية إعلان الحريري استقالته من الرياض، واعتبار الدولة اللبنانية بأنه "مُحتجز"، لمباشرة رحلة العودة إلى وطن الأرز، الذي كان من حصة الفرنسيين، إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، وتقسيم تركة الأراضي التي كانت تسيطر عليها السلطنة العثمانية. فرنسا حكمت لبنان بين عامي 1920 و1943، قبل إعلان استقلال البلاد.



مع العلم أن فرنسا سعت في يوليو/تموز عام 2007، عبر اجتماعات سان كلو، إلى إنقاذ الانتخابات الرئاسية اللبنانية، التي كانت مقررة في نوفمبر/تشرين الثاني من العام عينه، لتأمين خلف للرئيس السابق إميل لحود، وعدم الدخول للفراغ. فشلت المساعي الفرنسية في حينه، ودام الفراغ الرئاسي اللبناني نحو 6 أشهر، قبل انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً في مايو/أيار 2008.

الاهتمام الفرنسي، المدعوم ألمانياً في لبنان، واستطراداً على امتداد الشرق الأوسط، يأتي في سياق مرتبط بملفي العراق وسورية. في بغداد ودمشق، تراجع الفرنسيون خطوات كبرى، وسط اهتمامات روسية وأميركية وإيرانية وتركية. بالتالي فإن وجودهم في لبنان، سيُفسح المجال لهم للمشاركة أوسع في ملفين: إعادة إعمار سورية انطلاقاً من الموانئ اللبنانية، والمشاركة في التنقيب عن النفط في البحر اللبناني. في الحالتين، تبدو فرنسا رابحة، على اعتبار أنها خسرت الكثير من وجوديتها في لبنان والجوار أخيراً. حتى أن التفوّق البريطاني لم يعد مقتصراً على السياسة والعسكري، بل امتد إلى العنصر اللغوي، في بلدٍ لطالما تفاخر بفرانكوفونيته. الطلاب يدرسون الإنكليزية في المناهج التعليمية بالدرجة الأولى، لا الفرنسية، واللغة الألمانية تتقدّم بثبات كالإسبانية. وهي كلها معايير، تستوجب، وفقاً لفرنسا، عدم الاكتفاء بمعارض المركز الثقافي الفرنسي أو بضعة دورات ومسابقات تنظمها السفارة الفرنسية.

وإذا كان الفرنسيون يسعون بجدّية للعودة إلى شرق المتوسط، فإنهم في شمال أفريقيا، باتوا أقرب إلى الميادين، خصوصاً في ليبيا، مع اندفاعهم لعقد لقاءٍ بين رئيس حكومة الوفاق الوطني، فائز السرّاج، والضابط المتقاعد خليفة حفتر. ودلّت خطواتهم على أن المرحلة السالفة، خصوصاً تلك التي تلت انتهاء الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، ليست معياراً لماكرون، الطامح لتأدية دور أقرب إلى أدوار نابوليون بونابرت، في التوسّع الفرنسي، ولكن بصورة اقتصادية لا عسكرية، مع الاعتماد على حليفٍ ألماني قوي، طالما كان خصماً تاريخياً في الماضي. وإذا استمرت الخطوات التصاعدية لساكن الإليزيه، كما هي عليه، فمن المرجّح تدشين العودة الفرنسية في تأمين الاستقرار اللبناني، قبل الانتخابات النيابية، المقررة في مايو/أيار المقبل، وفي معالجة أي توتر في العلاقات اللبنانية ـ السعودية.



المساهمون