داريا... تهجير أيقونة الثورة السورية

27 اغسطس 2016
صمدت داريا بوجه حصار النظام 4 سنوات(حسام عياش/فرانس برس)
+ الخط -
بعد أربع سنوات من الصمود بوجه الحصار الذي فرضه النظام السوري عام 2012، تعرّضت خلاله مدينة داريا، بشكل شبه يومي، لكل أنواع القصف الجوي والمدفعي والصاروخي، وشتى القذائف، بما فيها المحرّمة دولياً، من نابالم، وحارقة، فضلاً عن أكثر من سبعة آلاف برميل متفجر، تعود قصة هذه المدينة إلى الواجهة عبر ما قيل إنه "اتفاق"، جاء نتيجة الحصار الخانق، ويقضي بتهجير من تبقى من سكانها إلى مناطق مجاورة.
وأطبق النظام حصاره عليها في يونيو/ حزيران الماضي، ما زاد من معاناة أهلها، إثر فصل المدينة عن بلدة المعضمية المجاورة، ومكّن قوات النظام من إخضاع داريا وتهجير أهلها من مدنيين وعسكريين.

ويقضي "الاتفاق" الذي جرى بين النظام وفصائل المعارضة، الأربعاء الماضي، عبر وفد من النظام دخل إلى المدينة، بترحيل من تبقى من أهلها، وعددهم أكثر من 5 آلاف شخص، على دفعات إلى بلدة صحنايا المجاورة، الواقعة تحت سيطرة قوات النظام. ويشمل هذا الاتفاق نقل العسكريين وعددهم نحو الألف، على دفعات إلى مدينة إدلب في الشمال السوري، الخاضعة لسيطرة قوات المعارضة، على أن تستمر العملية أربعة أيام، تحت إشراف الصليب الأحمر الدولي.

ودخلت اللجنة الخاصة بتنسيق خروج الأهالي، أمس الجمعة، إلى داخل داريا، في حين توجّهت عشرات المركبات المجهّزة لنقلهم إلى تخوم المدينة مع سيارات وفرق للهلال الأحمر السوري والأمم المتحدة. ووفقاً لأحد أعضاء المجلس المحلي لداريا، "سيتم بدءاً من اليوم (أمس الجمعة)، وعلى مدى أربعة أيام، إخراج نحو 5 آلاف مدني باتجاه ضواحي ومدن ريف دمشق، فيما تبدأ اليوم عملية إخراج المقاتلين باتجاه مدينة إدلب". وأوضح أنّه "جرى الاتفاق على ترتيبات الخروج، تحسباً لأي خرق للاتفاق من قبل قوات النظام، وحتى لا يتم اعتقال أي شخص، ولضمان عدم تعرّض الموكب للنيران، خصوصاً أنه سيقطع أكثر من 400 كيلومتر باتجاه الشمال نحو إدلب. ويفترض أن ترافق الموكب سيارات أممية لضمان ذلك". وأشار إلى أن "عائلات المقاتلين فضّلت الانتقال مع أبنائها إلى إدلب، خوفاً من تعرضها للاعتقال أو الانتقام من قبل قوات النظام".

من جهته، كشف ناشط إعلامي من المدينة، يدعى حسام، عن أن "وفد النظام هدّد خلال عملية التفاوض علناً بإبادة كل من يرفض الخروج من داريا، ورفض نقل المقاتلين باتجاه الجبهة الجنوبية، كما رفض إبقاء المدنيين في داريا". ومع تنفيذ هذا الاتفاق وإخلاء المدينة من سكانها، تطوى أربع سنوات من الحصار عاشها أهالي داريا، أقرب مدن الغوطة الغربية إلى العاصمة دمشق، تعرّضت خلالها لآلاف الغارات الجوية التي دمّرت بنيتها التحتية، وأودت بحياة المئات من أبنائها.

من الورد إلى السلاح
منذ انطلاقة الثورة السورية، ربيع 2011، شاركت مدينة درايا الواقعة على بعد أقل من 10 كيلومترات عن دمشق، والتي كان يسكنها نحو ربع مليون نسمة ويتبع لها إدارياً العديد من المدن والبلدات المجاورة، بكثافة في التظاهرات السلمية المناهضة للنظام. عُرفت بنشطائها السلميين، وأشهرهم غياث مطر، الذين حاولوا القيام بمبادرات ودية تجاه قوات الأمن المكلفة بقمع الاحتجاجات عبر تقديم الورود لهم، لكنها جهود لم تلق من النظام إلا مزيداً من القمع والرصاص، وزجّ بهؤلاء الناشطين في غياهب السجون، ليلاقوا حتفهم تحت التعذيب.

غير أن التحول الأبرز في مسيرة المدينة خلال الثورة كان في صيف 2012 حين ارتكبت قوات الفرقة الرابعة التي يقودها شقيق رئيس النظام ماهر الأسد، مجزرة بحق المدنيين في المدينة راح ضحيتها المئات منهم، لتبدأ بعدها بمحاصرة المدينة قبل أن تدخلها في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، وتقتل المزيد من الأشخاص داخلها. هذا الأمر دفع عناصر من "الجيش السوري الحر" الذي بدأ آنذاك في التشكل داخل المدينة، إلى التدخل للدفاع عن المدنيين، لتعيش بعدها المدينة خلال السنوات التالية تحت وقع الحصار والقصف اليومي، مع عشرات المحاولات الفاشلة لاقتحامها.






وشكّل صمود المدينة معضلة كبيرة لقوات النظام التي لم تدخر وسيلة للسيطرة عليها، لكن من دون جدوى، إلى أن تدخلت روسيا في سبتمبر/ أيلول العام الماضي، عبر مقاتلاتها لتوفر للنظام أساليب وقوة نيران جديدة، مكّنته من تحقيق تقدم تدريجي انتهى بقضم مجمل الأراضي الزراعية حول المدينة التي كانت توفر سلة غذاء لأهلها. كما استطاع النظام فصلها عن مدينة المعضمية المجاورة مطلع العام الحالي، والتي وقّعت هدنة مع النظام، وكانت تنتقل منها بعض المؤن إلى داريا، الأمر الذي شدد الخناق على المدينة وأهلها من مدنيين وعسكريين.

حرق الأرض وقضمها
منذ التدخل الروسي في سورية، اتبع النظام في داريا سياسة حرق الأرض بالقصف العنيف، ثم التقدم البطيء، إذ كان يركز جهده في منطقة محددة، ويحشد لها كل إمكانياته، ويقصفها براً وجواً، ثم يرسل آلياته وكاسحات الألغام لتؤمن دخول القوات، معتمداً على طيران الاستطلاع، بإشراف روسي في مراقبة تحركات مقاتلي المعارضة وتحديد الأهداف، وقصفها فوراً. هذه الاستراتيجية جعلت من تشبُّث هؤلاء المقاتلين بالأرض شبه مستحيل، خصوصاً مع استقدام النظام أجهزة حديثة لاكتشاف الأنفاق وتدميرها.

وبعد حرق الأرض، كانت آليات النظام وجنوده وعناصر المليشيات التابعة له تتقدم لتحتل بضعة أمتار غير مبالية بالخسائر الكبيرة التي تلحق بها عادة. حتى أن التقديرات تشير إلى مقتل نحو خمسة آلاف من قوات النظام والمليشيات على أبواب داريا خلال السنوات الأربع الماضية. وبدأ النظام خطته العسكرية الجديدة ضد المدينة مطلع العام الحالي، وتحديداً من الجبهة الغربية، إذ عمد إلى فصل داريا عن معضمية الشام بشكل تام، ثم توجه إلى المنطقة الجنوبية لتضييق الخناق على أهالي المدينة وحرمانهم من الأراضي الزراعية التي تعتبر مصدر الغذاء الوحيد للمحاصرين. نجح بذلك ووصل إلى مشارف الأبنية السكنية على الرغم من المقاومة التي أظهرها مقاتلو المعارضة والخسائر البشرية التي تكبدتها القوات المهاجمة.

زادت وتيرة القصف منذ منتصف مايو/ أيار الماضي، ونجحت قوات النظام في تحقيق تقدم واضح على جبهات داريا الجنوبية والغربية، لتصل إلى الأحياء السكنية التي شهدت بدورها نزوحاً نحو مركز المدينة، الأمر الذي دعا ناشطيها ومجلسها المحلي لدق ناقوس الخطر، مطالبين الفصائل الأخرى والمجتمع الدولي بالتحرك لتجنب الأسوأ، لكنها نداءات ظلّت بلا استجابة. وواصلت قوات النظام هذا التكتيك مستغلة حالة الاستنزاف الكبير في الموارد البشرية والمادية، إذ قتل في تلك الفترة أكثر من 150 مقاتلاً بينهم عشرات من القادة العسكريين والميدانيين.

وفي بداية شهر يونيو/ حزيران الماضي، عاود النظام استخدام البراميل المتفجرة في قصف المدينة، بعد توقف لمدة شهرين بسبب الهدنة الروسية الأميركية، محققاً مزيداً من التقدم على الأرض على الرغم من تمكن مقاتلي المعارضة من فك الحصار جزئياً باتجاه المعضمية، لكنهم لم يستطيعوا المحافظة عليها بسبب ضراوة القصف.

خلال هذه الفترة، استحوذ النظام على مساحة تقدّر بحوالي 5.6 كيلومترات مربعة من إجمالي الأراضي التي خضعت قبل العام 2016 لسيطرة "الجيش الحر"، والذي بات في الآونة الأخيرة لا يسيطر فعلياً سوى على مساحة لا تتجاوز 2 كيلومتر مربع في عمق المدينة المحاصرة من جهاتها الأربع. وترافق ذلك، مع تردٍ كبير في الوضع الإنساني بالمدينة، إذ تدهور الوضع الغذائي، خصوصاً بعد فصل المدينة عن معضمية الشام، وسيطرة النظام على المنطقة الجنوبية التي تعتبر سلة غذائية للمحاصرين، إضافة إلى انعدام جميع مقومات الحياة والخدمات الأساسية، من ماء وكهرباء واتصالات.





وقال ناشطون ميدانيون إن المدينة تعيش كارثة مياه، إذ لم يتبق سوى آبار قليلة ليشربوا منها على الرغم من أنها غير صالحة للشرب أصلاً. كما فُقد الطعام تقريباً، وباتت لكل عائلة وجبة أرز واحدة كل يوم تقدّر بـ700 غرام، علماً أن كلغ الأرز في حال توفر يصل سعره إلى 15 ألف ليرة سورية. وأوضح هؤلاء أن المتوفر من الأطعمة لا يتعدى الماء المملّح وصبغات الشوربة من دون خبز.

رمز الثورة
على الرغم من هذه النهاية الحزينة لمدينة داريا التي تلتحق اليوم بمدن ومناطق أخرى أجبر سكانها على الرحيل تحت القصف والتجويع مثل حمص والزبداني، ستظل بعيون معظم السوريين مضرب المثل في الصمود وحسن التنظيم، وإدارة المعركة، خلال السنوات الأربع الماضية. وعلى الرغم من القصف الذي تسبب في تدمير أكثر من 80 في المائة من أبنيتها، بينها 40 مسجداً، أطلقوا عليها تسميات كثيرة مثل "أيقونة الثورة"، و"ستالينغراد الثورة"، بينما أطلق عليها أنصار النظام العديد من الأوصاف لابتلاعها عتاد وعديد قوات النظام مثل "مثلث برمودا"، و"الثقب الأسود"، و"مقبرة الدبابات".

وسبق داريا كل من مدن حمص، والزبداني، ومضايا التي اتبع النظام معها سياسة الحصار والتجويع ومن ثم الترحيل، وهي خطة صممتها إيران وأشرفت على تنفيذها بمساعدة روسيا بهدف إجراء تغيير ديمغرافي ببعض المناطق الاستراتيجية لسورية المفيدة، والتي تتطلب تركيبة سكانية ذات ولاء مطلق لها. وتمت عمليات الحصار والتجويع وسط صمت دولي وتواطؤ حتى من الأمم المتحدة التي قبلت استثناء داريا من المساعدات الإنسانية لتسريع عملية خضوع المدينة لشروط النظام. فيما اتبع الأخير في مناطق أخرى أقل أهمية وخطراً عليه سياسة مماثلة من الحصار والتجويع، لكن الهدف النهائي هو إجبار السكان على القبول بمصالحة دائمة معه من دون تهجيرهم، مثل المدن والأحياء المحيطة بدمشق: معضمية، والهامة، وبرزة، والقابون، وجنوب دمشق، وغيرها.

ولعل الدرس الأهم الذي علّمته داريا لقوى المعارضة هو أن وحدة الصف الداخلي تظل أقوى سلاح يمكن من خلاله مواجهة التحديات، إذ تقاسم الإدارة في المدينة مجلسان مدني وعسكري، لا يتدخل أي منهما بشؤون الآخر. بينما انتظم المقاتلون في فصيلين فقط، هما لواء شهداء الإسلام، والاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، الأمر الذي أبعدهم عن الصراعات الداخلية التي تستنزف قواهم، وفقاً لمتابعين. وبرأي هؤلاء، ستظل داريا النموذج الحي، ربما الوحيد، الذي حافظ على روح الثورة وأَلقها، وحظي بتأييد السوريين.

وتعتبر داريا من أكبر مدن الغوطة الغربية، وذات موقع استراتيجي كونها تحاذي عدداً من الطرق الرئيسية، مثل أوتوستراد المزة، وطريق درعا الدولي، وطريق المتحلق الجنوبي، فضلاً عن وقوعها بمحاذاة مطار المزة العسكري، ومقر المخابرات الجوية الواقع ضمن كتلة المطار، ومقر الفرقة الرابعة، ومواقع للحرس الجمهوري.


المساهمون