تحوّلات أحزاب لبنان: توريث ومراعاة الانعكاسات السورية وعودة للطائفة

02 اغسطس 2016
أظهرت الانتخابات البلدية الأخيرة تراجع شعبية بعض الأحزاب(حسين بيضون)
+ الخط -
يتفق اللبنانيّون على أن بلدهم يمرّ بمرحلة انتقاليّة. فالفراغ الرئاسي المستمر منذ مايو/أيار 2014، لا بد أن تكون له آثار سياسيّة. ما يجري في المنطقة من حروب وصراعات أخذت طابعاً مذهبياً، ستترك آثارها على لبنان، الذي يُشارك حزب أساسي من أحزابه في هذه الصراعات من سورية إلى اليمن والعراق. كذلك الأمر بالنسبة لوجود مئات آلاف اللاجئين السوريين في لبنان، الذين يتعرضون لممارسات مذلة وعنصرية، والتي سينتج عنها تداعيات على العلاقات الأهليّة اللبنانيّة-السورية.

تنعكس هذه المرحلة الانتقالية على الأحزاب اللبنانيّة، إذ يُمكن رصد تحوّلات عميقة داخل القوى السياسية في البلد بغض النظر عن الفارق لجهة التمثيل الشعبي بين هذه القوى. وإذا كان القاسم المشترك بين هذه القوى هو وجود تحوّلات، فإن الفوارق تتعلّق بنوعية هذه الفوارق، فبعض التحوّلات في بعض القوى له طابع سياسي، فيما هو تنظيمي لدى قوى أخرى.

تيار المستقبل: التشظي السياسي
يتربّع تيار المستقبل على رأس لائحة القوى السياسية التي تعيش مرحلة انتقالية. وهذه المرحلة تطاول مختلف الجوانب: في التنظيم، والسياسة والهوية. بدأ رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري تحوّله السياسي بقرار فتح حوار مع حزب الله، بدل المواجهة السياسيّة، وهو ما ترك آثاراً عميقة لدى مناصري التيار. فطوال سنوات الثورة السورية، ركز الخطاب السياسي لتيار المستقبل على وجود أزمة سياسيّة حادة مع حزب الله، واشترط عودة الحزب من القتال في سورية قبل الجلوس على طاولة واحدة. وتعززت الأزمة بعد استقالة حزب الله وحلفائه من حكومة الحريري عام 2011، وبالتالي إسقاط الحكومة.

تواجَه تيار المستقبل سياسياً مع حزب الله، فيما دفعت طرابلس، شمال لبنان، ثمناً من أرواح أبنائها، إذ تُرجم الصراع السياسي في البلد، عشرات الجولات من الاشتباكات بين مسلحين في باب التبانة وآخرين في جبل محسن. في العام 2014 تغيّر الوضع، فشكّل تمام سلام حكومته في فبراير/شباط، وتزامل وزراء حزب الله وتيار المستقبل، بعد أن تخلى الأخير ضمنياً عن شرط انسحاب حزب الله من القتال في سورية. وفي نهاية العام 2014، بدأت جولات حوارٍ، ولا تزال مستمرة، بين الطرفين، من دون أن يصدر عنها قرارات ذات أثر فعلي على الشارع.
دفع سعد الحريري ثمن مواقفه هذه، إلى جانب الإدارة السيئة لتياره، خلال الانتخابات البلديّة الأخيرة. ومن أبرز الإشارات إلى ذلك فوز لائحة وزير العدل المستقيل أشرف ريفي في طرابلس على لائحة تحالف المستقبل ورئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي والجماعة الإسلاميّة وجمعية المشاريع الإسلاميّة وقوى وشخصيات أخرى. ولم يقف ريفي عند حدود طرابلس، بل يسعى للتمدد خارجها مستفيداً من حالة الاعتراض الواسعة على الحريري.

لكن التحوّلات داخل تيار المستقبل لا تقف عند حدود التشظي السياسي، وارتفاع صوت الأجنحة على حساب المركز، بل وصل الأمر إلى شكوى قيادات في تيار المستقبل من وزراء التيار. وإلى جانب هذا التشظي السياسي، يعيش التيار مرحلة تحوّل في هويته، وهيكليته الإداريّة، تضاف إلى الأزمة الماليّة. فالحزب الذي أعلنه سعد الحريري تياراً ليبرالياً، لم يعد يقوى على الصمود في وجه الأصوات المتشددة داخله. فبعدما أعلن الحريري تأييده للزواج المدني، كان رد ممثله في الحكومة، وزير الداخليّة نهاد المشنوق على المطالبين بتفعيل قانون الأحوال الشخصية المدنية الموجود في لبنان، بأن "قبرص قريبة"، في دلالة لرفضه التوقيع على الزواجات التي تحصل استناداً إلى القانون المدني على الأراضي اللبنانيّة. وهذا مثال من أمثلة كثيرة، تدل على تبلور خطاب محافظ بدلاً من الخطاب الليبرالي الذي كرسه الرئيس الأسبق للحكومة رفيق الحريري. أمّا إدارياً وداخلياً، فإن الحريري أعلن أن هذه المرحلة هي مرحلة الشباب في التيار، وهذا يعني إقصاء الجيل الذي أتى إلى تيار المستقبل من تجارب حزبيّة مختلفة لصالح الجيل الذي تشكّل وعيه السياسي في مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005. كما أن تيار المستقبل، لم يعد الحليف، أو الخيار الأوحد، للسعوديّة في لبنان، بل واحدٌ من مروحة من القوى السنّية التي تحرص على أفضل العلاقات مع السعوديّة.


حزب الله: التحوّل القسري

لا شكّ في أن تيار المستقبل يدفع الأثمان لإدارة قيادته للتيار في السنوات العشر الأخيرة، لكن هذا لا يلغي، أن الاغتيالات التي طاولت قيادات فيه، ومن أبرزهم الوزير السابق محمد شطح، لعبت دوراً في هذا السياق. وهنا، يأتي القاسم المشترك مع حزب الله. بعد اغتيال القائد العسكري الأسبق للحزب عماد مغنية في دمشق عام 2008، دخل الحزب في عملية تحوّل على صعيد جهازه الأمني والعسكري، وكان من النتائج السلبية المعروفة لهذا التحوّل، ظهور بعض العملاء لإسرائيل في صفوف الحزب، ممن دفعتهم الغيرة من مصطفى بدرالدين، الذي ورث قيادة العمل العسكري.

اليوم، بعد نحو خمس سنوات من القتال في سورية، وخسارة عدد من القيادات العسكرية، يخوض الحزب مرحلة انتقاليّة على هذا الصعيد، وإن كانت غير علنية، بسبب الطابع الأمني للحزب. وفق تسريبات لصحيفة لبنانية مقرّبة من الحزب، فإن الحزب يُحضر لموجة من التعيينات والتشكيلات التنظيميّة على خلفية عدم انعقاد المؤتمر الحزبي، الذي كان يُفترض أن يُعقد قبل عامين. وتفترض هذه المناقلات، وجود دور أكبر للحزب في سورية، لا بل خلق تشكيلات في سورية موازية لمثيلاتها في لبنان، وهو ما يعني بعبارة أو أخرى، "الاستيطان" في سورية.
تمنع الطبيعة الأمنيّة للحزب، أن تكون تحوّلات الحزب جزءاً من النقاش الوطني العام، حتى أن هناك حزبيين لا يعرفون حيثيات هذه التحوّلات. لكن آثارها تظهر تباعاً للبنانيين، من التشدد أكثر في الخطاب الاجتماعي، إلى المزيد من الغرق في المستنقع السوري، وتأكيد الارتباط مع إيران، وخوض المعركة الإعلامية بدلاً عنها مع السعوديّة ودول الخليج العربي. كما أظهرت هذه التحوّلات، الهوية المذهبية الفاقعة للحزب ومهامه في لبنان والمنطقة على حساب الهوية الوطنية التي كان يحرص عليها سابقاً.

التيار الوطني الحرّ: من النضال إلى العائليّة
أبقى عدد من الناشطين الشباب قضية النائب ميشال عون على قيد الحياة بعد نفيه إلى فرنسا في بداية تسعينيات القرن الماضي. دفع هؤلاء الشبان، ثمن ذلك من حياتهم ومصالحهم الشخصية المباشرة. ناضلوا في وجه الاحتلال السوري. ابتكروا وسائل اعتراض، وبلوروا أخرى. ومع عودة "جنرالهم" عام 2005، ظنّ هؤلاء أن الطريق بات مفتوحاً أمام إنشاء تيار وطني لبناني، يُحارب الفساد والإقطاع السياسي والطائفية. تلقوا الضربات واحدةً بعد الأخرى. سقط مشروعهم تدريجياً. لكن الضربة القاصمة أتت مع تعيين وزير الخارجية، صهر عون، جبران باسيل رئيساً للحزب بالتزكية في أغسطس/آب من العام 2015. كرّس تعيين باسيل هزيمة جيل المناضلين. وجد هؤلاء أنفسهم يُبعدون أو يبتعدون تدريجياً، لصالح جيل جديد من رجال الأعمال والمتمولين أو رجال عهد السيطرة السورية، الذين أحاطوا برئيس التيار وعمّه. وجرى تكريس تحوّل التيار من تيار نضالي، إلى حزب العائلة، مع إصدار قرارات فصل من المحكمة الحزبية بحق عدد من الناشطين الذين أصرّوا على البقاء داخل التيار ومواجهة تمدد رجال الأعمال.


القوات اللبنانية: العودة إلى الجذور

في ظلّ تحوّل التيار الوطني الحرّ إلى حزب العائلة، كان حزب القوات اللبنانيّة يتخلّى تدريجياً وجزئياً، عن الخطاب الذي تبناه عام 2005، عقب اغتيال رفيق الحريري ضمن تحالف قوى 14 آذار، لصالح خطاب أكثر طائفيّة، بالتحالف مع التيار الوطني الحرّ. فـ"القوات" بعد عام 2005، طرحت نفسها فريقاً لبنانياً، يرفع شعارات وطنية، وحاولت تكريس هذا الأمر بالوقوف إلى جانب الثورات العربية، ومن ثم رفض الانضمام لحكومة سلام. لكن "القوات"، ولأسباب مختلفة، صاغت مع التيار الوطني الحرّ "مشروعاً مسيحياً"، وأعادت الاعتبار للخطاب المسيحي على حساب الوطني، وبررت ذلك بأن هذا الخطاب لصالح البلد. وبدا كأن رئيس "القوات" سمير جعجع يرغب في تكرار تجربة رئيس الجمهورية الأسبق بشير الجميل، في توحيد المسيحيين.

مرحلة أبناء الإقطاعيين
لا يزال الإقطاع السياسي موجوداً في لبنان. من أبرز عائلاته آل جنبلاط وآل فرنجيّة. قرر النائبان وليد جنبلاط وسليمان فرنجيّة، توريث ابنيهما تيمور وطوني في هذه المرحلة. جنبلاط يقول إنه ينوي الاستقالة من مجلس النواب عندما يكون ذلك ممكناً. هو يُريد فتح الباب أمام ابنه تيمور لخوض انتخابات نيابيّة فرعيّة، تكون مقدمة للانتخابات النيابيّة العامّة التي يُريده أن يخوضها. تختلف الآراء داخل الحزب التقدمي الاشتراكي، حول مدى نجاح عمليّة التوريث من عدمه. هناك من يُشير إلى أن جنبلاط أقصى عدداً من "الصقور" في سبيل التمهيد لتيمور. في المقابل يعتبر البعض أن العمليّة ليست بهذه السهولة. الانتخابات البلديّة الأخيرة صبت لصالح النظرية الثانية. خسر جنبلاط جزءاً من رصيده الحزبي والزعاماتي، في مناطق من الشوف وعاليه وحاصبيا، وهذا ليس بالأمر الجيد خلال عمليّة توريث. لا يختلف الأمر كثيراً في زغرتا. ففرنجيّة الأب، رغب بأن تكون الانتخابات البلديّة محطةً لتكريس زعامة طوني. دعم تحالفاً ما بين نجله وميشال معوض وريث أبيه الرئيس اللبناني الأسبق رينيه معوض (اغتيل قبل تولي الرئاسة عام 1989) ووالدته النائب السابق نايلة معوض. نجح الشابان في إيصال لائحتهما كاملة المدعومة من الكنيسة إلى المجلس البلدي. لكن الامتحان كان صعباً، إذ ذهب نحو ربع الأصوات لصالح لائحة غير مكتملة شكّلها عدد من الشبان. الأمور لا تسير كما يشتهي المورثون في زغرتا أيضاً.

في مقابل عمليات التوريث غير المكتملة بعد، هناك عمليتان مختلفتان، إذ يجمعهما أنهما تجريان في حزبين، لا يُفترض أنهما من الإقطاع السياسي بل بديل عنه. الأولى تسير بخطى مقبولة حتى اللحظة، وهي تولي النائب سامي الجميّل رئاسة حزب الكتائب. فهذا الحزب مرّ عليه رؤساء غير مؤسسه بيار الجميّل الجدّ وورثته، لكن في الوقت عينه، لآل الجميّل الحصة الأكبر فيه. شكّل حزب الكتائب في مرحلة من تاريخ لبنان، رافعة القوى اليمينيّة، والداعم الأول للنظام السياسي المنبثق عن الجمهورية الأولى (النظام الذي كان معتمداً قبل اتفاق الطائف). استطاع سامي الجميّل الفوز بالمقعد النيابي الذي خسره والده، رئيس الجمهوريّة الأسبق، أمين الجميل. ثم حصل على رئاسة الحزب، واليوم هو مرحلة تحويل الحزب إلى حزب معارض للنظام السياسي وتجاوز مرحلة صفة الفساد التي لاحقت عهد والده، ويسعى إلى تغييره ويحاول وضع نفسه كجزء من المجتمع المدني المنتفض على السلطة السياسية، وهو ما ترجمه بإعلان استقالة وزرائه من الحكومة، والتي لم يلتزم بها إلا وزير الاقتصاد آلان حكيم.
أمّا التجربة الثانية، فهي تجربة حركة أمل ورئيس مجلس النواب نبيه بري. تأسست الحركة على يد رجل الدين الشيعي موسى الصدر، كحركة تسعى لإنماء المناطق الفقيرة في الجنوب والبقاع، وسُميت بداية حركة المحرومين، وفي مواجهة الإقطاع السياسي الذي حملته مسؤولية هذا الحرمان. تولّى بري رئاسة الحركة كقائد لها في الحرب الأهليّة، بدلاً من رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني، الذي خلف الصدر في رئاسة الحركة بعد اختطافه.
يدور اليوم نقاش في أوساط حركة أمل عن المرحلة التي ستلي بري، خصوصاً أنه من مواليد العام 1938. ولا يوجد وريث واضح المعالم لبري، لكن هناك صراعاً خفياً ما بين زوجته رندا، ونجله مصطفى وأحد أشقائه، الذين يتوزع ولاء قيادات حركة أمل عليهم. ومن غير الواضح كيف سيكون مسار المرحلة المقبلة في حركة أمل.

الأحزاب العلمانية: صدمات كهربائية
لا تغيب الأحزاب العلمانية عن هذه التحوّلات، مثلما هي غائبة عن الحياة السياسيّة في البلد. يُمكن اختصار تجربة هذه القوى بالحزبين، الشيوعي والقومي السوري الاجتماعي.
لا يزال الحزب الشيوعي يعيش على أمجاد الماضي وتحالفاته. لم يتغيّر شيء بالنسبة للحزب من عام 1990 حتى اليوم. هو يرى مواجهة الإمبريالية بالتحالف مع "قوى المقاومة"، التي تُختصر بقوة طائفية (حزب الله) وبعض حلفائه اللبنانيين ونظام ديكتاتوري بقيادة بشار الأسد وحزب البعث. يقول المنطق أن يكون الشيوعي رأس حربة في هاتين القوتين، وهو الذي عانى منهما كثيراً، ودفع العديد من كوادره ثمن مواجهتهما.

يسعى الشيوعي اليوم، لاستعادة بعض من بريقه، بعدما خسر الكثير في مرحلة تولي خالد حدادة الأمانة العامة للحزب. فقد انتُخب النقابي حنا غريب أميناً عاماً، رغبة بأن ينقل نجاحه في العمل النقابي إلى العمل السياسي.
في المقابل، يبدو وضع القوميين أحسن حالاً، وهم الذين ارتضوا دوراً أمنياً ضمن المنظومة السورية في لبنان، وهو ما حجز لهم مقاعد نيابيّة ووزارية، ومجموعات من الخدمات لجمهورهم. اليوم، يسعى القومي إلى توحيد صفوفه في لبنان وسورية، بعدما خاض "الحزبان القوميان" (واحد برئاسة أسعد حردان والآخر برئاسة علي حيدر)، المعركة إلى جانب حزب الله والنظام السوري. الأول أرسل مقاتلين إلى دمشق، والثاني خاض المعركة وزيراً للمصالحة في الحكومة السورية. لكن هذه المحاولة للتوحيد واجهتها عقبة أساسيّة، وهي قبول الطعن بتولي النائب أسعد حردان رئاسة الحزب لدورة ثالثة متتالية.

وجاءت تجربة الحراك المدني، الذي استطاع حشد الآلاف في الشارع منذ عام اعتراضاً على فشل الحكومة في إدارة ملف النفايات، ليُشير إلى ضعف الأحزاب العلمانية في حشد الشارع، في مقابلة دينامية المجموعات الشبابية غير المؤدلجة. ويؤكد ذلك غياب الثقة بخطاب هاتين القوتين الحزبيتين اللتين تدّعيان محاربة الفساد.