الفساد في الجزائر: مافيات تتغلغل داخل الدولة

24 أكتوبر 2016
من تظاهرة تطالب بالإصلاح في الجزائر (بشير رمزي/الأناضول)
+ الخط -
تجدّدت المخاوف في الجزائر من سيطرة لوبيات مالية فاسدة على صلة بدوائر في السلطة على نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والتجارية في البلاد، في أعقاب تصريحات لوزير التجارة الجزائري بختي بلعايب، كشف فيها أن هناك مافيا منعته من إغلاق محل، وقامت بتزوير توقيعه وسيطرت على استيراد السيارات. وتوعّد الوزير الجزائري بكشف كل تفاصيل اللوبيات المالية النافذة التي تسيطر على التجارة والاقتصاد في الجزائر، بعدما يتنحى من منصبه. لكن تصريحاته الخطيرة تلك، لم تضف كثيراً من الصدمة إلى الرأي العام في الجزائر، والذي لم يفك حتى اليوم لغز قضايا فساد أكثر خطورة، كقضية الفساد في شركة النفط "سوناطراك" التي تورّط فيها وزير الطاقة الأسبق شكيب خليل، وقضية "الطريق السيار شرق غرب" التي اشتُبه في تورط وزير الأشغال العامة الأسبق عمار غول فيها، وقضية بنك الخليفة وغيرها.
تصريحات وزير التجارة جاءت بعد أسبوعين من تصريح لوزير السياحة عبد الوهاب نوري، بشأن فساد في توزيع تراخيص إنشاء مؤسسات سياحية في عهد الوزير السابق عمار غول، وكشفه عن وجود فساد وتلاعب كبير في أعلى مستويات الدولة، وهو ما يتناقض بشكل كامل مع الخطاب الرسمي الذي يعطي الانطباع بوجود رغبة في محاربة الفساد.

قبل أسبوع، قام الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بتنصيب أعضاء الهيئة الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته، التي تضم ستة أعضاء، وهي الهيئة التي نصّ عليها الدستور الجديد الذي صادق عليه البرلمان في السابع من فبراير/شباط الماضي، والذي نصّ على أن تكون سلطة إدارية مستقلة توضع لدى رئيس الجمهورية، وتتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلالية المالية. كما نصّ على أن استقلال هذه الهيئة مضمون من خلال أداء أعضائها وموظفيها، ومن خلال الحماية التي تؤمن لهم من شتى أشكال الضغوط أو الترهيب أو التهديد أو الإهانة أو الشتم أو التهجم أياً كانت طبيعته خلال ممارسة مهامهم. وترفع الهيئة إلى رئيس الجمهورية تقريراً سنوياً عن تقييم نشاطاتها المتعلقة بالوقاية من الفساد ومكافحته، والنقائص التي سجلتها في هذا المجال والتوصيات المقترحة عند الاقتضاء.

لكن المنظمات المدنية العاملة في مجال محاربة الفساد وحقوق الإنسان، لا تنظر بعين الرضا إلى قيام بوتفليقة بتعيين أعضاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وتعتقد أن هذه الهيئة لا يمكنها أن تقدّم أي نجاعة على صعيد محاربة الفساد، بسبب التعقيدات الإجرائية والنفوذ السياسي للمافيا المالية المتحكمة في الاقتصاد، وصلاتها بالسلطة المركزية، إضافة إلى وجود أكثر من أربع هيئات مخوّلة بمكافحة الفساد، هي الديوان المركزي لقمع الفساد، ومجلس المحاسبة، والمفتشية العامة للمالية، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. والأخيرة تتواجد منذ ست سنوات، لكنها لم تتمكّن من إنجاز أي عمل على صعيد محاربة الفساد، ولم تدشن عملية واحدة بهذا الشأن، كما أن الهيئات الأخرى كمفتشية المالية ولجنة المحاسبة لا تملك الآليات الفنية لمتابعة ملفات الفساد، وهي تتحرك بدفع سياسي وتسلّطها السلطة على الجهات والأطراف والشخصيات والشركات التي تزعجها أو تتخذ مواقف لا تروق للجهات النافذة، وفق اتهامات توجّه لها.

في تقرير نشرته الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان أخيراً، أكد هواري قدور المكلف بالملفات الخاصة في الرابطة، أن التشريعات المتعلقة بمكافحة الفساد في الجزائر لم تأتِ بناءً على رغبة جدية من السلطة في محاربة الفساد، لكنها جاءت برغبة سياسية للتوافق مع مقررات الأمم المتحدة والاتفاقيات الدولية ليس إلا، وهذا ما أفرغ هذه القوانين من كل روح فعلية لتنفيذ عمل جدي لمحاربة الفساد. وقال إن "الوقاية من الفساد أو حتى مكافحته صعب تجسيدها في الجزائر، ما دام قانون مكافحة الفساد المؤرخ في 20 فبراير/شباط 2006، غير قابل للتطبيق بل جاء فقط للتكيف مع لوائح الأمم المتحدة، ومثال على ذلك أن الجزائر أقرت عملية التصريح بممتلكات المسؤولين كإجراء وقائي من الفساد، على الرغم من أنها لا تمتلك آليات لمراقبة هذه العملية أو معاقبة من يثبت في حقه فساد، لكن هذه الإجراءات تعطي للرأي العام انطباعاً على الورق بأن السلطة تحارب الفساد، في حين لم نسمع ولن نسمع عن إنجازاتها في الميدان، على الرغم من أن الفساد يهدد الأمن القومي للجزائر ومستقبلها". وأضاف قدور: "معظم دول العالم تنظر إلى الجزائر كتلميذ غير نجيب في مجال مكافحة الفساد، على الرغم من توقيع الجزائر على الاتفاقية الأممية لمحاربة الفساد، وإنشائه عدة هيئات رسمية لمكافحة الفساد، لكن معظم هذه الهيئات لا يمكنها معالجة قضايا الفساد في ظل غياب إرادة سياسية لمحاربة هذه الظاهرة، إضافة إلى عدم تطبيق معظم مواد القانون المتعلقة بحماية الشهود والمبلّغين عن الفساد، فمعظم المبلّغين يجدون أنفسهم محل متابعة قضائية".


اللافت أن أغلب قضايا الفساد التي طُرحت أمام القضاء، خصوصاً تلك المثيرة للجدل السياسي كقضية شركة النفط الحكومية "سوناطراك"، لم تبلّغ عنها الهيئات الرسمية المخوّلة بمحاربة الفساد، لكنها كانت بسبب تطرق القضاء الدولي في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا لها، أو بسبب الضغوط الإعلامية من صحف وقنوات محلية مستقلة تعجّ بفضائح الفساد في الجزائر، من دون تحرك أي من الجهات والهيئات التي أنشئت لمكافحة الفساد. وأكدت دراسة مسحية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا قامت بها منظمة شفافية دولية العام الحالي، أن 69 في المائة من الجزائريين يعتقدون أن جهود الحكومة سيئة في محاربة الفساد. وأظهرت الدراسة أن جزائرياً واحداً من بين ثمانية أشخاص من مستخدمي الخدمات العامة، أي بنسبة 14 في المائة، دفعوا رشوة في المدارس وقطاع الصحة أو للحصول على وثيقة إدارية. وعن مدى فساد القطاع العام، قال 34 في المائة من المستجوبين إن القطاع العام في الجزائر فاسد، بينما أبدى 50 في المائة من الجزائريين المستجوبين قناعتهم بعدم استطاعتهم إحداث فرق في محاربة الفساد. واعتبر 39 في المائة من الجزائريين طبقاً للدراسة أن أعضاء البرلمان هم الأكثر فساداً، فيما قال العدد نفسه إن المسؤولين الحكوميين هم الأكثر فساداً إضافة إلى مسؤولي الضرائب.
أما الأحزاب السياسية المعارضة، فترى أن الفساد أصبح مهيكلاً في مستويات مختلفة من الدولة، خصوصاً في ظل تمكّن المافيا المالية من التموضع والاقتراب بشكل لصيق من مواقع السلطة وصناعة القرار. وفي السياق قال المتحدث باسم حزب "جيل جديد" العضو في تكتل المعارضة، اسماعيل سعداني، إن "تصريحات وزير التجارة بختي بلعايب المنتمي إلى حزب التجمع الوطني الديمقراطي، الظهير السياسي للسلطة، هو اعتراف ضمني بسقوط الجزائر والدولة بين فكي نظام فوضوي لا بوصلة له ولا أخلاق، ودليل على أن الوضع بلغ مرحلة خطيرة تشعرنا بأننا بين يدي القراصنة". واعتبر أنه "إذا كان وزير التجارة نفسه اعترف بوجود لوبيات فساد نجحت في تزوير توقيعه وتجاوزته وعجز عن مواجهتها، فكيف يمكن لموظف حكومي بسيط وفي مستويات أقل أن يواجه هذه المافيا التي تعبث بمقدرات البلاد".
أما المتحدث باسم حركة "النهضة" محمد حديبي، فرأى أن الاتهامات الخطيرة التي وجهها وزير التجارة إلى لوبيات نافذة على صلة بدوائر الحكم بالسيطرة على استيراد السيارات، وتشكيل لوبي فساد مكّن أصحاب المال الوسخ من استغلال واحتكار هذه التجارة، تؤشر على أن مواقف المعارضة السابقة التي كانت تحذر من تفشي الفساد، كانت جدية ومبنية على وقائع ولم تكن اتهامات سياسية.

إزاء هذا الوضع، تُقدّر تحليلات أن قضايا الفساد تزايدت بشكل كبير منذ تسلّم بوتفليقة سدة الحكم عام 1999، وسط شبهات بشأن فساد كبير في محيطه المقرب. وتُجمع تقارير محلية ودولية على أن الفساد في الجزائر أصبح مهيكلاً، خصوصاً بعد استناد السلطة إلى ظهير مالي يتمثّل في مجموعة من رجال الأعمال تعمل لصالح السلطة على الصعيد السياسي، لكنها تستفيد في المقابل من امتيازات مالية كبيرة، مكّنتها من التغلغل في عمق المشهد السياسي والمؤسسات الرسمية والدستورية، ما يجعل كل جهد رسمي لمحاربة الفساد، أشبه بالدوران في حلقة فارغة.

المساهمون