لفظ الرجل أنفاسه الأخيرة على سرير في مستشفى كأي عجوز، وتخلّص من تهيّؤات الموت برصاص مقاومين أو بتفجير أو حتى مسموماً، والتي لطالما خالجته وأخافته. موت هادئ مماثل لا يليق بقائد مليشيا عملاء إسرائيل في جنوب لبنان بين أعوام 1984 و2000. فليست هذه عادة نهاية "الأبطال"، باعتبار أنّ لحد أصرّ حتى آخر لحظات حياته على أنه "بطل" خانه الجميع، اللبنانيون والإسرائيليون وكل العالم. وثّق الرجل هذا الكلام في مذكراته التي نشرها في كتاب "في قلب العاصفة، مذكرات نصف قرن في خدمة لبنان". وجاء في مقدمة الكتاب: "لست نادماً، كنت بطلاً وطنياً طوال السنين التي كنت فيها مسؤولاً عن المنطقة الحدودية وأصبحت فجأة عميلاً خائناً عند صدور الحكم بإعدامي".
تفاجأ الرجل بعد سنوات من العمالة والتعاون مع الاحتلال، أنّ صفة الخائن تلاحقه، وأنّ القضاء اللبناني أصدر بحقه حكماً بالإعدام. كل هذا يبدو مفهوماً باعتبار أنّ تعامل لحد مع الإسرائيليين نابع من قناعة وعقيدة أمّنتا له جيشاً وسلطة أحكم من خلالهما قبضته على أبناء الجنوب المحتلّ. إضافة للطموح اللامحدود إلى النفوذ والقوّة الذي يرافق كل من يرتدي بزّة عسكرية، مرقّطة (اللباس الرسمي للجيش اللبناني) كانت أم زيتية (لباس جيش الاحتلال). وفداءً لهذا الطموح وتطبيقاً للقناعة والعقيدة، سار لحد على درب الإسرائيليين وجنّد معه آلاف الشبان اللبنانيين لملء فراغ جيش العدو على أرض الجنوب. ومنذ تلك اللحظة مات أنطوان لحد. أعلن موته بنفسه لحظة دخوله أحضان العدو بعد انشقاقه عن الجيش اللبناني (الذي كان ضابطاً فيه منذ عام 1952) في سبعينيات القرن الماضي. انضمّ لحد إلى ما يحلو للإسرائيليين تسميته "جيش لبنان الجنوبي" الذي سبق لسعد حداد أن أسّسه، وتسلّم قيادته بعد موت مؤسسه العميل حداد. تولّى منذ ذلك الحين تنظيم جيش العملاء وعمله وإدارة معتقلاته واحتلاله لجنوب لبنان. فكان مرتبطاً بشكل مباشر بوزارة الحرب الإسرائيلية واستخباراتها العسكرية، وأخذ على عاتقه مهمة معاقبة الجنوبيين الرافضين للاحتلال.
قبل إصدار القضاء اللبناني حكم الإعدام بحق لحد، كان الأخير طوال سنوات الحرب لا يزال يُعدّ محسوباً على مؤسسة الجيش اللبناني. والفضيحة أن لحد ظلّ، ومعه كل العسكريين الذين انشقوا معه خلال الحرب الأهلية، يتقاضون رواتبهم الشهرية حتى انتهاء الحرب عام 1990، على الرغم من أن اللبنانيين أجمعوا، بعد اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب، على أنّ جيش سعد حداد ومن بعده جيش لحد خارجان على القانون.
مات لحد أيضاً لحظة أطلقت المناضلة الشيوعية سهى بشارة (عام 1988) رصاصتين على صدره في مقرّ إقامته في مرجعيون (جنوبي لبنان على الحدود مع فلسطين المحتلة). نجا من الموت الفعلي، إذ يقال إنّ السبب الرئيسي لنجاته هو في كون موضع قلبه على يمين صدره عكس عموم الناس. نجا لحد لكنه تحوّل إلى ما يشبه الشبح، دائم الخوف والاختباء من سهى أخرى قد تصوّب وتصيب وتقتل. تابع لحد قيادة جيش العملاء من دون كلل أو تراجع، وتمثّلت أكبر إنجازاته في سِجن "الخيام" (مرجعيون) الذي أداره وتكدّس فيه المعتقلون اللبنانيون لسنوات. حتى أنّ هذا المعتقَل لم تدخله القوانين الدولية أو حتى الإسرائيلية، وظل طويلاً عنواناً للبطش والتعذيب والذلّ.
اقرأ أيضاً: "اللحديون" في إسرائيل: فلسطينيو الداخل نبذوهم ولحد تركهم
مسيرة موت لحد طالت واستمرّت على وقع ضربات المقاومة لمواقع جيشه طوال فترة التسعينيات، إلى حين قرار الجيش الإسرائيلي الخروج من لبنان عام 2000. يقرّ لحد في مقابلات متلفزة وفي كتاب مذكراته بأنّ الإسرائيليين خدعوه. قرروا الانسحاب من الجنوب من دون إبلاغه بالأمر، فتركوا جيشه يتخبّط في العمليات النوعية للمقاومة. سحب الإسرائيليون ضباطهم، وفي غضون ساعات أبلغوا عملاءهم بضرورة إخلاء المواقع والدخول إلى الأراضي المحتلة. كان لحد بعيداً عن السمع، يمضي إجازة في فرنسا، فيقول "لست نادماً، إنما بعد الانسحاب غير المبرمج أصبحتُ غاضباً على الدولة الإسرائيلية التي أعطت الأمر بالانسحاب المفاجئ واقتلعت أهل المنطقة الحدودية من أرضهم بشكل مذل". في وضع مماثل، لا ينفع الندم أصلاً. عاد لحد إلى إسرائيل لِلملمة شتات جنوده وضباطه. انتهى مجد المحتل وكذلك مجد عملائه. أصبح لحد ومن معه لاجئين هاربين من القصاص والقضاء، ومن ذكريات أهالي منطقة نكّلوا بأهلها لسنوات.
دخل مع لحد أكثر من ستة آلاف لبناني، عسكريون وعملاء مع أسرهم. كانت هذه الهجرة المعاكسة إلى داخل فلسطين المحتلة، وحملت معها مصيبة تخلّي إسرائيل عن عملائها وعن إعالتهم، وهو الأمر المستمر حتى اليوم. الأمر الذي دفع العشرات من العملاء للعودة إلى لبنان وقضاء فترات محكومياتهم، في حين تمكّن المئات منهم من مغادرة إسرائيل إلى بلدان غربية. ولا يزال عدد ورثة لحد، من عسكريين ومدنيين، في الأراضي المحتلة يتجاوز الألفين، باتوا أيتام الأب والأم. "أبوهم" توفي و"أمهم" تركتهم ليواجهوا مصيرهم ولو أنها تؤمّن لهم الحماية.
أمضى أنطوان لحد آخر سنوات حياته في تل أبيب. افتتح مطعماً في أحد أحيائها القريبة من البحر. انتقل من رتبة جنرال إلى وظيفة مدير صالة. وبدل أن يصدر أوامر الاعتقال أو توجيهات القتل والقصف، بات يسأل الزبائن عن النواقص والملاحظات. يأمر نادلاً بتبديل كأس على المائدة، أو ينتظر انقضاء الليل ليجمع ما في الصندوق. قدّم لحد لزبائنه الإسرائيليين المأكولات العربية نهاراً، ودخّن السيجار وتراقص على أنغام الموسيقى ليلاً. انتقل لحد من ثكنة مرجعيون إلى مطعم ونادي "بيبلوس" (نسبة لمدينة جبيل اللبنانية، شمالي بيروت) حيث كانت نهايته غير السعيدة.
كان العمر كفيلاً باستكمال ما بدأت به سهى بشارة قبل 27 عاماً. لكن هذه المرة الخبر صحيح ولا يمكن للطوافات والأجهزة الطبية الإسرائيلية إنقاذ أنطوان لحد، بينما كل جرائمه باتت موثّقة على الورق وفي النفوس. حتى بعد موته، سيكون أنطوان لحد مصدر مشاكل للبنانيين، إذ ثمة من يقول إنّ جثمانه سيعود إلى بلدته كفرقطرة (في الشوف، جبل لبنان) برغبة من العائلة بغية تأبينه وتأمين "مدفن لائق له". لكن الجميع يعرف أنه غير مرحّب بعميل في أي مكان، حتى في فرنسا التي منعته سابقاً من دخول أراضيها نظراً لاتهامه بكونه "مجرم حرب". سيعود جثمان العميل إلى لبنان أو أنه لن يعود؟ الأكيد أنّ أنطوان لحد مات وليس في وداعه أحد، لا أرض ولا ناس. فهكذا تكون نهاية العملاء، فكيف إذا كان الرجل عميلاً برتبة جنرال.
اقرأ أيضاً: "عملاء لحد" وعائلاتهم: قوانين عفو وأحكام مخفّفة مراعاةً للطوائف