تحلّ اليوم السبت الذكرى الـ13 لثورة فبراير/شباط في ليبيا التي أسقطت نظام العقيد الراحل معمر القذافي، من دون أن تتمكن البلاد حتى الآن من الوصول إلى مرحلة سياسية مستقرة ودستور دائم، في الوقت الذي تستمر فيه حالة الصراع بين الأطراف المتنافسة وتآكل مؤسسات الدولة المنقسمة على نفسها.
سنوات ثورة ليبيا: من الفوضى إلى الانسداد السياسي
وانتهت حالة الفوضى التي طبعت سنوات الثورة الماضية إلى حالة انسداد سياسي حاد، وسط تعدد الوجوه السياسية والأطراف المتنافسة المرتهنة في الغالب لأطراف خارجية، ما جعل البلاد بؤرة من بؤر التوتر والتنافس والتقارب أيضا، كما هو الحال في التنافس الروسي الغربي من جهة، والتقارب التركي المصري من جهة أخرى.
وترجع حالة الاشتباك والفوضى الحاصلة في مشهد البلاد إلى سنوات الثورة الأولى، فلم يتمكن قادة ليبيا وقتها من التوافق على رؤية سياسية يمكن من خلالها رسم معالم المشهد التشريعي والحكومي. وعلى الرغم من اتفاقهم على حكومة وجسم تشريعي واحد بين عامي 2012 و2014، إلا أن الاختلاف السياسي العميق بين القوى التي قادت الثورة، عرقل مسيرة الدولة.
إبراهيم الماجري: الأمم المتحدة باتت اليوم من تتحكم في مسارات التقارب والتباعد والحل السياسي تبعاً لمصالح من يقف وراءها
وكان من أولى تلك العراقيل تكوين كتل عسكرية وجماعات مسلحة إلى جانب كل طرف سياسي، كما هو الحال في تحالف "القوى الوطنية" و"العدالة والبناء"، أكبر حزبين سياسيين في أولى سنوات البلاد بعد الثورة، لتزداد رقعة تكوين الكتل العسكرية ويطغى عليها الطابع الجهوي والقبلي الذي حجّم سلطة الحكومة خلال عامي 2013 و2014.
متغيرات بدّلت مشهد الثورة
وداخل توازنات السلاح والسياسة، تمكّن اللواء المتقاعد خليفة حفتر، العائد إلى ليبيا حينها من الخارج، من تكوين قوة عسكرية في مدينة بنغازي (شرق ليبيا) منتصف عام 2014، مستفيداً بشكل كبير من دعم القبائل في شرق ليبيا لقواته بأبنائها، خصوصاً بعد أن رفع شعار مكافحة الإرهاب.
لكن التداعي الأكبر لبروز حفتر كطرف مسلح في المشهد، كان في الانقسام السياسي الحاد الذي دخلت فيه ليبيا، بعدما قدّم الحماية لمجلس النواب المنتخب عام 2014، كثاني سلطة تشريعية بعد المؤتمر الوطني العام. وبدأ المجلس في عقد جلساته في طبرق، منحازاً إلى جانب حفتر، وشكّل له غطاء سياسياً بوجود حكومة موازية، في مقابل عودة المؤتمر الوطني العام للواجهة السياسية مع حكومة مؤقتة في طرابلس، بقوام جيشين، يقود حفتر الأول في بنغازي، والثاني ظهر في طرابلس تحت مسمى "فجر ليبيا".
الناشط في مجموعة "المحافظين من أجل الوطن"، إبراهيم الماجري، يقول لـ"العربي الجديد"، إن مشهد الثورة منذ ظهور حفتر "أخذ في التبدل والتغير، فالتراجع وقتها بدأ بشكل كبير في الحماس للثورة ومبادئها، وظهرت المصالح والطموح في الحكم بشكل واضح تحت العديد من الشعارات، ومنها محاربة الخصوم تحت شعار مكافحة الإرهاب. وبرأيه، فإن "هذا لا يعني أن الإرهاب لم يكن موجوداً، بل تمّ استخدام هذا الشعار لدغدغة عواطف الناس من أجل استثمار مواقفهم كثقل وظهير للتموضع"، مشيراً إلى أن أطرافاً وأحزاباً أخرى استغلت مبادئ الثورة لمحاربة خصومها.
ويلفت الماجري إلى ظهور متغير ثان في مسار عمر الثورة، تمثل في أن الانقسام والحروب التي نشطت في أكثر من منطقة وقادتها أطراف متنافسة "فتحت الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية، فكل طرف وجدت فيه الأطراف الخارجية طريقاً للتدخل في المشهد، فرأينا مصر وفرنسا وغيرها إلى جانب حفتر، ودولا إقليمية أخرى إلى جانب معسكر طرابلس". ويضيف: "الأهم في هذا المتغير أنه كان باباً لتنفذ الأمم المتحدة التي باتت اليوم من تتحكم في مسارات التقارب والتباعد والحل السياسي تبعاً لمصالح من يقف وراءها ويدعمها من الأقطاب الدولية".
ومع بداية الانقسام السياسي، أطلقت الأمم المتحدة حواراً سياسياً قادته البعثة الأممية، وانتهى بتوقيع اتفاق الصخيرات في المغرب نهاية عام 2015 بواجهة سياسية جديدة تشكلت من المجلس الرئاسي بقيادة فايز السراج، وجسم تشريعي مؤلف من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، والأخير تشكل من المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق).
لكن حفتر الذي بدأ يوسع حروبه خارج بنغازي، شكّل نقطة الخلاف الأساسية وعودة الاستقطاب، لاسيما مع إضفاء الشرعية عليه من قبل مجلس النواب كقائد عام للجيش، مقابل رفض ذلك من جانب مجلس الدولة والقوى السياسية والمسلحة في غرب البلاد.
ونجحت البعثة الأممية في إنهاء حالة الانقسام الحكومي من خلال اتفاق سياسي جديد نتج من ملتقى الحوار السياسي مطلع عام 2021، مستفيدة في ذلك من انكسار حملة عسكرية كبيرة شنّها حفتر بدعم إقليمي ودولي واسع على طرابلس، ما أدى لتغير مواقف الكثير من داعميه ودعمهم تسوية سياسية انتهت إلى تشكيل المجلس الرئاسي الحالي بقيادة محمد المنفي، وحكومة الوحدة الوطنية الحالية بقيادة عبد الحميد الدبيبة.
لكن أستاذ العلوم السياسية خليفة الحداد لا يرى في ذلك "نجاحاً، فحرب حفتر على طرابلس استدعت تدخلاً إقليمياً ودولياً مباشراً، وتحديداً من تركيا الموجودة عسكرياً بشكل معلن في غرب البلاد، وروسيا التي دفعت بالآلاف من مرتزقة فاغنر في صفوف حفتر"، مضيفاً أن "الطرفين لا يزالان يمثلان حالة التدخل العسكري الدولي في شكلها الظاهر، لكن هناك العديد من القوى السياسية والعسكرية أيضا موجودة، خصوصاً مصر".
الحداد: النفوذ الخارجي حوّل ليبيا إلى ملف يتأثر مباشرة بالمتغيرات الدولية
ويقول الحداد في حديث لـ"العربي الجديد" إن "التدخل الإقليمي الممثل في الثقل المصري والتركي، والدولي الظاهر في التنافس الأميركي والروسي، كان العنوان الأبرز والسبب الأول لتعزيز حالة الفوضى السياسية والانقسامات الحالية سواء في الأزمة الحكومية أو في تعقد المسار الدستوري الممهد للانتخابات".
ويلفت الحداد إلى أن "هذا النفوذ الخارجي حوّل ليبيا إلى ملف يتأثر مباشرة بالمتغيرات الدولية، فالحرب في أوكرانيا والعدوان على غزة، وحرب السودان والتوتر الأفريقي، كلها متغيرات أجّلت اتفاق المتدخلين على تسوية مصالحهم في الملف الليبي، في انتظار وضوح الأوضاع في بؤر التوتر الإقليمية، بل تحول الملف الليبي إلى أداة في الصراع والتنافس الإقليمي".
وحدّد الاتفاق السياسي عام 2021 مهام السلطة التنفيذية في تهيئتها الأوضاع لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، لكن حدة الخلاف بين مجلسي النواب والدولة أثناء صياغة الإطار الدستوري والقانوني للانتخابات، عرقلت إجراءها بعدما كانت مقررة في ديسمبر/كانون الأول 2021.
وعلى الرغم من عديد الاجتماعات بين لجان المجلسين، إلا أن وضع العسكريين وحملة الجنسيات الأجنبية الراغبين في الترشح للانتخابات شكّلا نقطة الخلاف الأساسية. فمقابل ممانعة مجلس الدولة قبول ترشحهم، أصدر مجلس النواب، في يوليو/تموز 2021، قانوناً للانتخابات يسمح لهم بالترشح، لتنهار معه الجهود الرامية لتنظيم الانتخابات بسبب محاولات فرض القانون بدون موافقة مجلس الدولة.
وفي الأثناء، شكلت الخلافات بين حكومة الوحدة ومجلس النواب عائقاً آخر، خصوصاً مع سحب مجلس النواب ثقته من حكومة الدبيبة، وتكليفه حكومة أخرى في فبراير 2022، ما أعاد مشهد الانقسام الحكومي وعادت معه المناكفات بين مجلسي النواب الدولة خلال مفاوضات جديدة في المسار الدستوري لإعداد قوانين انتخابية عقدت في أبوزنيقة المغربية.
ولا تزال آثار تلك الخلافات تلقي بظلالها حتى الآن على العملية السياسية إلى حد وصولها إلى مرحلة انسداد سياسي جديد. وعلى الرغم من كل النتائج التي أفضت إليها خلافات الوضع السياسي الحالية، إلا أن الناشط في مجال المصالحة الوطنية أبو بكر النعيري، يرى في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الظروف الحالية أكثر قرباً من تحقيق مبادئ ثورة فبراير التي تهدف إلى بناء الدولة على أسس ديمقراطية توافقية، بشرط استثمار الظروف الحالية بشكل أفضل".
بانتظار الاقتناع بضرورة المشاركة
ويشرح النعيري أنه "لم يعد هناك صراع عسكري، فالكل اقتنع بحالة التوازن المسلحة وعدم قدرته على الحسم، ولذا تحول التنافس إلى سياسي تشكلت معه أطراف أساسية وأخرى تتحرك في الهامش". ويعرب عن اعتقاده بأن الجميع سيصل إلى قناعة أيضاً بضرورة المشاركة في بناء السلطة".
ويشير أبو بكر النعيري إلى أن مظاهر هذه القناعة "بدأت في الظهور حتى على المستوى الإقليمي، فالأطراف التي كانت تدعم الحروب غيّرت مواقفها وتتعامل مع الجميع، ورأينا أخيراً قناعة أهم طرفين وهما مصر وتركيا بضرورة التقارب في الملف الليبي وهو أمر مؤثر جداً للضغط على جميع الأطراف لقبول أي تسوية توحد السلطات".
أبو بكر النعيري: التقارب المصري التركي قد يقنع الخصوم بالتقارب
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، دعت البعثة الأممية في ليبيا، رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، بالإضافة إلى قائد مليشيات شرق ليبيا خليفة حفتر، إلى طاولة حوار سياسي جديدة لمناقشة خلافاتهم وتسويتها من أجل إزالة العقبات أمام عقد انتخابات رئاسية وبرلمانية.
وعلى الرغم من تموضع مبادرة البعثة الأممية حول حوار خماسي، إلا أن النعيري يلفت إلى وجود قوى أخرى تتحرك في الهامش "وستفرض نفسها بسبب امتلاكها ظهيراً مجتمعياً، كما يحدث في مسار المصالحة الاجتماعية التي ستعقد مؤتمراً جامعاً للمصالحة في إبريل/نيسان المقبل ويضم كل الأطياف المدنية والمجتمعية". ويرى أنه "إذا نجحت هذه الأطياف في إفراز ميثاق، فسيكون له وقع وتأثير في بروز جماعات ضغط مجتمعية ومدنية ستضعف من قوة القادة الأطراف الأساسية وهيمنتها على القرار السياسي".
وعن الحوار الخماسي، يعتبر أن "التقارب المصري التركي قد يقنع الخصوم بالتقارب وربما تشكيل سلطة واحدة، لكنها ستكون في خط مواز لسياسات ومصالح قوى أكبر كروسيا والولايات المتحدة، وبالتالي المصالح الإقليمية في التقارب لن تمثل إلا مرحلة مؤقتة فقط، لتستجد بعدها الخلافات وربما عودة الاستعصاء مجدداً إذا طفت موجة جديدة من الخلافات بين الأقطاب الدولية الكبرى".
وحول مآلات الثورة وما مرّ به مسارها خلال السنوات الماضية، يعلّق بلقاسم الشريع، أحد المصابين في حروب ثورة فبراير، بالقول: "ثورتنا اليوم رهينة للتحليل والآراء حول التدخل الخارجي وتمسك الوجوه السياسية بالسلطة وخطر ضياع سيادة البلاد، لكنْ هناك أمر آخر لا يشاهده ربما المتابع والمحلل وهو أن إعاقتي وإعاقة غيري من أبناء الثورة ستبقى شاهداً يراه كل يوم الجيل المقبل الذي نعقد عليه أملنا... فالثورات لا تموت، وتتحقق ولو بعد حين".