الكنيسة والسلطة في روسيا: منافع متبادلة

25 فبراير 2015
الكنيسة تدعو للالتفاف حول السلطة (Getty)
+ الخط -

تستعرض الكنيسة الروسية في الفترة الأخيرة ولاءها وإخلاصها لسلطة الكرملين، مؤكدة الدور الاستثنائي لروسيا بوصفها معقل التقاليد وموئل القيم الروحية. وبدورهم، يركّز كبار السياسيين على الدور الاستثنائي للكنيسة في الحياة الروسية، إلا أن تبعية الكنيسة للسلطة أكبر بكثير من تبعية السلطة للكنيسة.

هجوم مشترك على الغرب

في كلمته أمام الدوما في يناير/كانون الثاني الماضي، هاجم بطريرك موسكو وعموم روسيا، كيريل، بشدة منظومة القيم الغربية. فرئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية يرى في "حرية الاختيار المطلقة" على حد تعبيره "قنبلة موقوتة" تنسف جميع القيم الأخلاقية. وقال كيريل: "نحن نرى المأساة التي تنقلب إليها الحرية المفهومة خطأ"، مستعرضاً في كلمته ثمار القيم الغربية القاتلة على حد تعبيره، من "شرعنة زواج المثليين، إلى إباحة القتل الرحيم، إلى غير ذلك". وذلك كله، كما يرى البطريرك كيريل، ناجم عن ابتعاد الغرب عن الدين ومفهوم العدالة السماوية.

الخطير في الأمر، أن البطريرك يوظّف ذلك، للبحث عن عدالة في السماء بديلاً عن العدالة على الأرض، ويدعو إلى عدم الوقوع في فخ القيم الغربية، فيقول: "هذه الأفكار للأسف تملى على روسيا". وبما أن الحديث يدور عن قيم عامة، والديمقراطية مضمرة ضمنها، فإن دعوة رئيس الكنيسة البرلمانيين الروس إلى فعل كل ما من شأنه أن يُمكّن البلاد من مواجهة "القيم المعاصرة الكاذبة" تكتسب بُعداً سياسياً إضافياً.

وهكذا، فالدافع إلى خطب البطريرك المتكررة في هذا الشأن لا يقتصر على الخلاف العقائدي، إنما يكمن في السياسة. فعلى سبيل المثال، في نوفمبر/تشرين الثاني، تحدّث البطريرك كيريل عن العقوبات الاقتصادية المفروضة من قِبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على روسيا، فرأى أن الهدف منها زرع الفتنة بين الروس.

ولكن روسيا، على حد تعبيره، "لم تخشَ في يوم من الأيام الأعداء الخارجيين، فنحن دائماً ننتصر عليهم"، ودعا الروس إلى تجاهل تدهور الوضع الاقتصادي والالتفاف حول الدولة.

من جهتهم، يردّ الزعماء السياسيون الجميل للكنيسة، فيُذكّرون بصورة دائمة بالدور الخاص للكنيسة الأرثوذكسية في تاريخ روسيا. وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد أعلن في كلمته أمام الاجتماع الأخير للجمعية الفيدرالية في ديسمبر/كانون الأول 2014، أن لانضمام شبه جزيرة القرم دلالة مقدسة بالنسبة لروسيا، لأن الأمير فلاديمير نال العماد هناك بالذات عام 988 ميلادية، في مدينة هيرسوني. 

اقرأ أيضاً: أرض بلا شعب... روسيا وسياسة دعم النمو السكاني

وهكذا، تتبادل السلطة مع الكنيسة المنفعة. ويبدو ذلك أكثر وضوحاً على خلفية الأزمة الأوكرانية، إذ تدعو السلطة الروسية للعودة إلى القيم الأرثوذكسية، مقابل إدانة الكنيسة للعقوبات والدعوة إلى تحمّلها كونها تأتي من عدو خارجي والالتفاف حول السلطة بدلاً من الاعتراض على سياساتها.

وفي الوقت نفسه، تجني الكنيسة موافقة السلطات على مسائل إشكالية. فمثلاً، في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، سمحت حكومة موسكو للكنيسة الروسية بشغل مباني المدارس من دون مقابل لإعطاء دروس دينية. وقد لقيت هذه الخطوة احتجاج المدافعين عن علمانية الدولة. فقد قال بافيل تشيكوف، رئيس جمعية "آغورا" للدفاع عن حقوق الإنسان، إن ذلك يُعدّ "انتهاكاً للقانون، لأن التعليم لدينا علماني". وأضاف أن سلطات موسكو لا تمنح مثل هذه الميزة للمسلمين واليهود والكاثوليك وسواهم من أتباع العقائد الأخرى.

بالتوازي مع ذلك، تُبنى المزيد من الكنائس الأرثوذكسية في العاصمة الروسية. ففي إطار برنامج معمول به منذ عام 2010، ينبغي أن يكون لدى كل من سكان موسكو كنيسة في دائرة قطرها لا يزيد على كيلومتر واحد من سكنه. وكثيراً ما يتم بناء الكنائس من دون موافقة سكان الحي، الأمر الذي يدعو إلى الاستياء والاحتجاج. ويُلاحظ أن أي حديث لا يدور على أي مستوى عن منح المسلمين أو البوذيين أو الكاثوليك أو سواهم الحق ببناء دور عبادة خاصة بهم.

وفي هذا الشأن، يرى الصحافي والمؤرخ نيقولاي سفانيدزه، في حديث لـ"العربي الجديد"، نزوعاً مستمراً منذ سنوات لدى السلطة الروسية لمنح الكنيسة الأرثوذكسية استثناءات مقابل ضمان ولائها، وضمان استمرار تدفق سيل التصريحات الكنسية المناسبة للنظام. ويقول: "الآن، تستخدم الكنيسة الرسمية لملء الفراغ الأيديولوجي الذي خلّفه انهيار الاتحاد السوفييتي".

ويعتبر أن السلطات تبالغ في تقدير دور الكنيسة بالنسبة للروس، مشيراً إلى أن "حضور الكنيسة الواقعي في حياة الناس، لا يوافق المعطيات الرسمية. فوفقاً لاستطلاعات الرأي، لا تتجاوز نسبة من يصلّون في الكنائس بصورة دورية 10 في المائة من بين 80 في المائة يُعدّون أنفسهم أرثوذكسيين، كما أن شعبية البطريرك لا تقارن بأي معيار بشعبية بوتين". ووفق ذلك، يستنتج سفانيدزه أن الذي بين السلطة والكنيسة ليس حلفاً، إنما السلطة تستخدم الكنيسة كأداة، والأخيرة لا تملك قوة فعلية مستقلة خارج السلطة.

الكنيسة الروسية تسعى من دون شك للعب دور المعيار الأخلاقي في روسيا، وللاعتراف لها بحق امتلاك هذا المعيار لكسب مزيد من الأنصار. إلا أن شعبية الكنيسة اليوم وشعبية حكامها وصولاً إلى رأس هرمها البطريرك كيريل موضع تساؤل جدي، خصوصاً بعد ما نُشر عن دور الكنيسة في تسعينيات القرن الماضي، حين كان (الأب) كيريل يترأس قسم العلاقات الكنسية الخارجية المسؤول عن إدخال المساعدات الإنسانية إلى روسيا. فوفقاً لما نشرته وسائل إعلام روسية كثيرة، كان يتم تحت مسمى "مساعدات إنسانية" إدخال السجائر والمشروبات الكحولية إلى روسيا، وحينها اتُهم الأب كيريل بجني مكاسب شخصية كبيرة من هذه التجارة، فقدرت ثروته بأربعة مليارات دولار.

وعلى الرغم من غياب التأكيدات الرسمية لمعطيات الصحافة وامتناع الأوساط الكنسية عن التعليق، إلا أن ذلك جعل الناس يتساءلون عن الدور الأخلاقي الحقيقي للكنيسة. وعلى خلفية ارتباط المسؤولين الحكوميين والكنسيين برباط الفساد، تغدو أكثر وضوحاً طبيعة المصالح المشتركة بين السلطتين، خارج شعارات وحدة الدولة والمجتمع ومقاومة أعداء روسيا الخارجيين.

المساهمون