يوميات القتل الجماعي في أميركا: مواطنون مأزومون وأسلحة متفلتة

07 يوليو 2022
يعد متنزه هايلاند بارك مقصداً للأثرياء (جاسيك بوكزارسكي/الأناضول)
+ الخط -

مع أكثر من 350 حادثة قتل جماعي بالسلاح المتفلت في الولايات المتحدة منذ بداية العام الحالي وحتى اليوم، وأكثر من 400 قتيل، أصبح الأمر "روتيناً"، بحسب الأميركيين، أن يسمعوا كلّ يوم عن إطلاق نار وقتلى، يحصل في مكان ما قريب منهم، وقد يصل يوماً ما إليهم، من دون أن يتبدل شيء في الواقع الذي أصبح "مملاً" من كثرة استعادة الحديث عنه في كل مرة يحصل فيه قتل جماعي في الولايات المتحدة.

وتعود مصطلحات الملل والروتين، والتي تنمّ عن استسلام، لروايات شهود عيان على حادثة القتل الجماعي التي وقعت في عيد الاستقلال الأميركي، في 4 يوليو/تموز الحالي، في "هايلاند بارك" بمدينة شيكاغو، أكبر مدن ولاية إيلينوي، وراح ضحيتها سبعة قتلى وحوالي 47 جريحاً، عندما صوّب روبرت إي كريمو، المعروف بـ"بوبي"، بندقيته من على أحد الأسطح، باتجاه المواطنين المحتشدين في متنزه هايلاند، لحضور فعاليات الاحتفال بالمناسبة.

ومن بين الضحايا الأحياء، الطفل إيدن ماكارتي، ابن العامين، الذي قتل والداه بإطلاق النار، وتمّ تخصيص حساب على مواقع التواصل الاجتماعي لجمع المال من أجل تربيته بعد الحادثة. ومن الأموات، المسنّ نيكولاس توليدو (78 عاماً)، الذي كان يحتاج إلى رعاية خاصة، واضطرت عائلته لاصطحابه إلى الحديقة معها، كي لا تفوّت الاحتفال.

"بروفايل" لقاتل محتمل

أما القاتل، وهو مغني راب يبلغ من العمر 21 عاماً، ومثُل أمس الأربعاء أمام المحكمة للمرة الأولى بالقضية، ففي سجلّه أكثر من علامة استفهام حول "إشكاليات نفسية"، عجزت الشرطة الأميركية عن تلقف الخطر الذي قد ينجم عنها على المجتمع. وتعيد حادثة متنزه هايلاند، وقبلها بوقت قصير، مجزرة مدرسة أوفالدي في تكساس، فتح قضية السلاح المتفلت في أميركا على مصراعيها، خصوصاً في الإعلام، مع صعوبة الحدّ منه بتشريعات جدّية، كما تفتح أسئلة حول أداء الشرطة الأميركية، قبل وخلال وقوع مثل هذه الأحداث، وهو ما طرحته خصوصاً حادثتا أوفالدي وشيكاغو أخيراً.

حاول منفذ هجوم شيكاغو الانتحار في 2019، كما هدّد عائلته بالقتل

وأعاد إطلاق النار الذي قتل وأصاب عشرات الأشخاص في متنزه هايلاند في شيكاغو، بذكرى الاستقلال، تذكير المجتمع الأميركي بمعضلة السلاح المتفلت في الولايات المتحدة، والذي يتمّ اقتناؤه بطريقة "قانونية"، لكنه يؤدي في النهاية إلى جرائم تحصيها البلاد كل يوم بالعشرات أو أكثر.

ويحصى لدى البحث عن حوادث إطلاق النار في شيكاغو فقط، مقتل 8 أشخاص وإصابة 68 آخرين بالسلاح الفردي، فقط في عطلة عيد الاستقلال، من دون إحصاء حوادث القتل الأخرى في أكثر من ولاية، والتي أصابت وقتلت عشرات الأشخاص أيضاً. وسلّط الضوء على حادثة هايلاند بارك، نظراً إلى المناسبة والموقع الذي يعدّ في العادة مقصداً للعائلات الثرية، والذي لم تسجلّ فيه حوادث من هذا النوع منذ وقت طويل.

ويبدو أن روبرت كريمو، القاتل، تنكّر بزي امرأة، للصعود عبر سلّم "غير آمن" إلى سطح أحد المحال التجارية المطلة على المتنزه، لتنفيذ جريمته واصطياد ضحاياه "عشوائياً" بحسب الشرطة، وأيضاً للهروب، والتجول وسط الحشود متنكراً، ليتمّ القبض عليه بعد مطاردة استمرت بضع ساعات، وبالاستعانة بالسلاح الذي تركه في مكان تنفيذه الجريمة، والذي يدّل رقمه على آخر شخص اقتناه.

وأعلن القضاء الأميركي أول من أمس الثلاثاء، أنه وجه إلى كريمو سبع تهم بالقتل العمد، ما يجعل القاتل يمضي بقية حياته في السجن على الأرجح، إذا ما أدين، من دون إمكان حصوله على إطلاق سراح مشروط، بحسب المدّعي العام لمقاطعة ليك، إريك ريابنهارت. وأكد ريابنهارت أنها "ليست سوى تهم أولى من تهم كثيرة أخرى ستوجّه إلى كريمو".

من جهته، قال المتحدث باسم الشرطة، كريستوفر كوفيلي، إنه لم يتم بعد تحديد أي دافع للهجوم الذي نفّذه المسلح بإطلاق عشرات الطلقات من بندقية نصف آلية، متحدثاً عن 70 طلقة. وأضاف كوفيلي أن كريمو كان "يرتدي ملابس نسائية ويعتقد المحققون أنه فعل ذلك لإخفاء وشوم على وجهه وهويته وتسهيل هروبه عبر الاندساس بين الفارين إثر حالة الفوضى" التي أثارها.

وقبض الإثنين الماضي على كريمو وهو من سكان هايوود، شمال هايلاند بارك، بعد ساعات من حادثة إطلاق النار. وأوضح كوفيلي أنه جرى التعرف على القاتل من خلال مقاطع فيديو التقطتها كاميرات المراقبة وتعقب البندقية التي اشتراها بشكل قانوني. وأضاف أن الشاب حاول الانتحار في إبريل/نيسان 2019 وترك لمتابعة طبيب نفسي. وفي سبتمبر/أيلول من العام ذاته، استُدعي شرطيون إلى منزل الأسرة بعدما هدّد بأنه "سيقتل الجميع". وحينها، ضبطت الشرطة 16 سكيناً، وخنجراً وسيفاً في حوزته، من دون أن يقبض عليه لأن أحداً لم يتقدم بشكوى، بحسب كافيلي.

ويظهر المشتبه به في صور على حسابه في "تويتر" مع علم مؤيد للرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب، من دون رصد تعليقات سياسية له.

وقالت الشرطة إن المسلح خطّط منفرداً على مدى أسابيع لمجزرته التي لم يتم تحديد أي دافع لها بعد. وأضاف كوفيلي: "ليس لدينا معلومات تشير إلى أن الدافع كان عنصرياً أو بدافع الدين أو أي شيء آخر"، لافتاً إلى أن القاتل توجه إلى منزل والدته بعد إطلاق النار واستعار سيارتها للهروب، وتم القبض عليه بعد حوالي 8 ساعات. ولفت إلى أن كريمو هو "من أصحاب السوابق، ولكن غير العنفية"، وأن الشرطة تحقق في منشورات ومقاطع فيديو نشرها الأخير على الإنترنت.

وكان كريمو، الذي ترشح والده لمنصب رئيس البلدية ولم ينجح ويمتلك متجراً في هايلاند بارك، هاوياً للموسيقى يطلق على نفسه لقب "أوايك ذا رابر" وتضمنت منشوراته على الإنترنت محتوى عنيفاً يشير إلى البنادق وإطلاق النار. وظهر "بوبي" في مقطع فيديو نشره على "يوتيوب" قبل 8 أشهر حمل رسوماً متحركة تصور مسلحاً يطلق النار على أشخاص مع تعليق صوتي يقول "أريد فقط أن أفعل ذلك... إنه قدري. كل شيء أدى إلى ذلك. لا شيء يمكن أن يوقفني، ولا حتى أنا نفسي"، كما شوهد وهو يرتدي قبعة بيسبول عليها اسم "مكتب التحقيقات الفيدرالي" (أف بي آي) في العديد من الصور وفي إحداها يلف ظهره بعلم عليه صورة ترامب.

القتل الجماعي في أميركا: أزمة مجتمعية أم أمراض نفسية؟

وبحسب تقرير لمجلة "ذا أتلانتك"، نشر بعد مجزرة أوفالدي، التي وقعت في شهر مايو/أيار الماضي، فإن الولايات المتحدة يبدو أنها "تخلت عن هدف تجنب حوادث القتل الجماعي"، لكنها تخفق أيضاً في الاستجابة أسرع وبشكل أكثر شجاعة، لدى وقوع أي مجزرة. ويعود السبب الأول البديهي في كل ذلك، إلى أن البنادق نصف الأوتوماتيكية، في الولايات المتحدة، متوفرة تقريباً للجميع، فيما يقول المدافعون عن حمل السلاح، ومنهم لوبيات صنّاع البنادق الفردية، وسياسيون، إن أي قاتل مفترض، سيجد وسيلة أخرى غير السلاح أو البندقية، لتنفيذ جريمته، ما يحفّز على تشجيع المواطنين على حمل السلاح، للدفاع عن أنفسهم.

شهدت الولايات المتحدة أكثر من 350 حادثة قتل جماعي بالسلاح المتفلت منذ بداية العام، أدت إلى سقوط أكثر من 400 قتيل

وارتفعت أسهم هذه "النظرية" بعد حادثة مدرسة أوفالدي، لتعزيز حمل السلاح في المدارس، لحماية التلاميذ والطاقم التدريسي. والسلاح المستخدم بمجزرة أوفالدي، التي قتلت 18 تلميذاً، كان مرخصاً، ولم يكن من الممكن للشرطة فعل أي شيء لاستباق وتجنب الجريمة. لكن حالة شيكاغو، تبدو مختلفة، إذ يعد كريمو "موضع اشتباه"، بإمكانية أن ينفذ عملاً عنفياً في أي وقت.

تبدو المعضلة، متعددة الأوجه، بحسب خبراء تحدثوا لشبكة "إيه بي سي"، إذ أكدوا أن "المرض العقلي مرتبط بحوادث القتل الجماعي، إلا أنها أزمة أكثر تعقيداً، ناجمة عن تقاطع عوامل أخرى، منها الانتشار الكثيف للأسلحة النارية، والجمود الذي يعترض أي إصلاح حقيقي لقوانين اقتناء الأسلحة الفردية، بالإضافة إلى تعرض المجتمع (الأميركي) لتزايد عوامل الضغط والأزمات".

وكان تقرير لوكالة "أف بي آي" صدر في عام 2018 حول خصائص مطلقي النار النشطين، أورد أن 25 في المائة فقط من مطلقي النار العشوائي في البلاد بين عامي 2000 و2013، هم مرضى نفسيون. وقالت جويل دفوسكين، من "جمعية قوة العمل لتقليص عنف السلاح"، لـ"آي بي سي": "ليس هناك مرضى نفسيون. إنهم (مطلقو النار) كلّنا: أبناؤنا، أحد أفراد عائلاتنا... إنها أزمة صحة مجتمعية عامة، ويجب أن نفكر بها من هذه الزاوية".

(العربي الجديد، فرانس برس، أسوشييتد برس)