برز خلال الأشهر الثلاث الأخيرة، حضورٌ قويٌّ لليهود المناهضين للصهيونيّة، خلال التظاهرات التي جابت مدن العالم ضدّ الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، ويتقدّم النشطاء منهم الحراك الداعي إلى وقف إطلاق النار في دولٍ غربيّةٍ مركزيّةٍ، رافعين شعارات "ليس باسمنا" و"لن يحدث مطلقًا مرّة أخرى".
تنطوي مشاركة اليهود حول العالم في تظاهراتٍ وأنشطةٍ ضدّ الحرب على أهمّيةٍ بالغةٍ، كونها تفنّد ادّعاءات دولة الاحتلال بتمثيلها كلّ يهود العالم، وتنفي تهم معاداة السامية عن الحراك المناصر لغزّة، الذي تسعى إسرائيل، عبر حلفائها حول العالم، إلى صبغه على ذلك النحو. وتُظهر هذه المشاركة اليهوديّة بُعد القضيّة الفلسطينيّة عالميًا كقضيّةٍ إنسانيّةٍ عابرةٍ للديانات والقوميّات، وتجمع كلّ من يؤمن بالعدالة.
كانت الحركة الصهيونيّة تاريخيًا أقليةً بين اليهود حول العالم، ولم تلقَ تأييدًا، استمرّ ذلك إلى أن حلّت المحرقة النازيّة بحقّ اليهود وغير اليهود خلال الحرب العالميّة الثانية، وأصبحت فكرة إنشاء وطنٍ قوميٍ لليهود تلقى إقبالًا، هربًا من الاضطهاد في أوروبا. بعد مرور 75 عامًا على تأسيس دولة إسرائيل، على أنقاض نكبة الشعب الفلسطيني، وبدعمٍ من دولٍ غربيّةٍ، ما زال الملايين من اليهود (تقريبًا نصف يهود العالم) يعيشون خارج إسرائيل، يرفض الكثير منهم الهجرة إليها. وعلى مدار العقود الأخيرة من الاحتلال الإسرائيلي، نشأت حركاتٌ يهوديّةٌ في الخارج، تنشط ضدّ الاحتلال، وتدعو إلى السلام والعيش المشترك، وخلق واقعٍ مختلفٍ عن واقع الفصل العنصري الذي أنشأته إسرائيل.
من الواجب ذكر اليهود اللا صهيونيين في إسرائيل نفسها، مع أنّهم أقليةٌ صغيرةٌ، والكثير منهم يقرر مغادرة إسرائيل بسبب العدائيّة تجاههم
أصواتٌ يهوديّةٌ من أجل السلام
تنوّع عمل هذه الحركات ما بين الراديكاليّة والوسطيّة، وضمت علمانيين ومتدينين، لعل من أبرز هذه الحركات حركة "أصوات يهوديّة من أجل السلام"، التي تأسست في الولايات المتّحدة عام 1996، بمبادرةٍ من أكاديميين وكتّاب بارزين، مثل نعوم تشومسكي، أنطوني كوشنير، جوديت بتلر، نعومي كلاين وسارة شولمان وغيرهم. عرّفت الحركة نفسها عام 2019 على أنّها لا صهيونيّة، وأيدت حركة مقاطعة إسرائيل، ونشطت لأجل ذلك، وتعمل من أجل السلام للفلسطينيين والإسرائيليين.
في أعقاب 7 أكتوبر 2023، أصدرت الحركة بيانًا اتهمت فيه الاحتلال الإسرائيلي، والتواطؤ الأميركي في قمع الفلسطينيين بسبب هجوم حماس على إسرائيل، قائلين إن "حتمًا، سيسعى الأشخاص المضطهدون في كلّ مكان إلى حريتهم وسيحصلون عليها". نشطت الحركة منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة في غزّة من أجل إعلاء صوت اليهود في الولايات المتّحدة ضدّ الحرب، وشارك نشطاؤها إلى جانب الفعاليات التضامنيّة العامّة، في نشاطاتٍ خاصّةٍ مثل احتلال محطّات القطارات، أو الدخول والاعتصام في الكونغرس الأميركي ومكاتب نواب وسياسيين، وتعرّض العديد منهم للتوقيف والاعتقال على يد الشرطة الأميركيّة.
ناطوري كارتا
في المقابل، تنشط حركة "ناطوري كارتا" (حرّاس المدينة) المتدينة منذ عقودٍ طويلةٍ في التظاهر ضدّ دولة إسرائيل، فالحركة الحريديّة التي تأسست عام 1935، ويوجد أعضاؤها في نيويورك ولندن والقدس، لا تعترف بدولة إسرائيل، وتعارض وجودها، وتؤمن بأنّ اليهود يُمنع عليهم الحصول على دولةٍ إلى حين مجيء المسيح، وبأنّه يجب إعادة الأرض للفلسطينيين. كما اعترفت الحركة بياسر عرفات رئيسًا لدولة فلسطين، وصلى حاخاماتٌ من الحركة على جثمانه خلال جنازته في باريس.
يُعرف عن أعضاء الحركة حضورهم الدائم في التظاهرات التي تخرج نصرةً لفلسطين، رغم أعدادهم القليلة، إلّا أنّ وجودهم شبه دائمٍ في التظاهرات في عددٍ من المدن الغربيّة. خلال الأشهر الماضية، يُشارك أعضاء الحركة دوريًا ضمن مجموعاتٍ لهم تقتصر على الذكور، ويحملون شعاراتٍ ضدّ دولة إسرائيل والصهيونيّة، ويهتفون لحريّة غزّة والشعب الفلسطيني.
جيل شبابي جديد
بموازاة ذلك، نشأت حركاتٌ يهوديّةٌ شبابيّةٌ جديدةٌ خلال العقد الأخير، تنشط ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، وداعميه من حكوماتٍ ومؤسساتٍ حول العالم. من هذه الحركات (If Not Now/ إذا لم يكن الآن)، معظم أعضائها من جيل الألفيّة، تأسست عام 2014 في الولايات المتّحدة، وتُعرّف على أنّها أقصى اليسار، وذلك للأفعال المباشرة التي تقوم بها، والحضور الإعلامي. عُرف عنها مواجهتها للمؤسسات اليهوديّة الداعمة لإسرائيل، وتنظيمها حملاتٍ ضدّ لجنة الشؤون العامّة الأميركيّة الإسرائيليّة "إيباك". تنشط الحركة بفاعليةٍ واستمرارٍ في الأشهر الماضية ضدّ الحرب.
كذلك الأمر في بريطانيا مع حركة (Na’amod/ نقف)، التي تأسست عام 2018 في أعقاب استهداف إسرائيل المسيرات السلميّة في غزّة، مستلهمين تجربة (If Not Now). تسعى الحركة إلى إنهاء دعم الجالية البريطانيّة اليهوديّة للاحتلال الإسرائيلي، وتعمل من أجل "المساواة للجميع الفلسطينيين الإسرائيليين"، ويوجد لها فروعٌ في مدنٍ بريطانيّةٍ عدّةٍ، وهي حركة لا مركزيّة. برز نشاطها في عددٍ من المواقف، منها توزيع مناشير لرحلاتٍ منظّمةٍ إلى إسرائيل، بهدف إسماع روايةٍ بديلةٍ عن الرواية الصهيونيّة، وحضرت في الشارع خلال احتجاجات الشيخ جرّاح عام 2021. في الأسابيع الأخيرة؛ يتواجد مؤيدو الحركة في مجمل النشاطات الوطنيّة في بريطانيا ضدّ الحرب، وكانوا من أوائل من بادر إلى الاعتصام داخل محطّات القطارات، وإقامة صلواتٍ دينيّةٍ من أجل القتلى الفلسطينيين في غزّة.
في هذا السياق نستطيع وضع حركة (Tsedek / صدق) في فرنسا، التي تأسست شهر يونيو/حزيران الماضي، وحركة "يهود ضدّ الكولونياليّة" في ألمانيا، وغيرها من مجموعاتٍ صغيرةٍ تنشط في بلدانٍ أخرى. بين هذه الحركات والمجموعات تبايناتٌ في المواقف في بعض الأحيان، حول الخطاب وأولويّات العمل، والتحالفات، إلّا أنّ جميعها تعمل معًا هذه الأيّام مع حركاتٍ ناشطةٍ أخرى.
تنطوي مشاركة اليهود حول العالم في تظاهراتٍ وأنشطةٍ ضدّ الحرب على أهمّيةٍ بالغةٍ، كونها تفنّد ادّعاءات دولة الاحتلال بتمثيلها كلّ يهود العالم
كذلك برزت شخصيّاتٌ ثقافيّةٌ يهوديّةٌ عديدةٌ، من أكاديميين وكتّاب وفنانين، من خلال مقابلاتٍ إعلاميّةٍ، أو مقالاتٍ منشورة في صحفٍ عالميّةٍ، أو عبر التوقيع على عرائض، مطالبين بوقف إطلاق النار، ووقف الإبادة الجماعيّة في غزّة. من الواجب ذكر اليهود اللا صهيونيين في إسرائيل نفسها، مع أنّهم أقليةٌ صغيرةٌ، والكثير منهم يقرر مغادرة إسرائيل بسبب العدائيّة تجاههم، إلّا أنّه كانت هناك بعض الأصوات ضدّ الحرب، رغم ما قد يواجهون هذه الأيّام في الخروج العلني ضدّ الحرب الإسرائيليّة، بسبب المنع والملاحقة والتهديد، الذي يطالهم من المجتمع والمؤسسة الإسرائيليّة.
يواجه اليهود اللا صهيونيون محاولات شيطنةٍ داخل المجتمعات اليهوديّة في الغرب، وبتشجيعٍ من وسائل إعلام إسرائيليّةٍ، أو منحازة لإسرائيل، من خلال وصفهم كيهودٍ كارهين لأنفسهم، أو في بعض الأحيان وصفهم كمعادين للسامية، مع العلم أن العديد منهم ينحدر من عائلاتٍ ناجيةٍ، أو لاجئةٍ من المحرقة. لكن رغم محاولات القمع والإسكات والتخويف، يبقى الصوت اليهودي ضدّ الحرب، والمناهض للصهيونيّة مسموعًا، وله تأثيره وأهمّيته هذه الأيّام على الرأي العامّ العالمي، وهو حليفٌ مهمٌ للقضية الفلسطينيّة.