دخل الدستور التونسي الجديد حيّز التنفيذ بعد رفض الطعون التي تقدم بها حزب "آفاق تونس"، الذي قبل بالمشاركة في الاستفتاء.
وبذلك أصبح المجال مفتوحاً أمام الرئيس قيس سعيّد لمواصلة سيره نحو نسف مرحلة الانتقال الديمقراطي، بمؤسساتها ومنظومتها القانونية، والدفع بالبلاد نحو تركيز "جمهوريته الجديدة" التي ستتخذ من "النظام القاعدي" العمود الفقري لها.
وعلى الرغم من إعلان أحزاب المعارضة رفضها الاعتراف بهذا الدستور وعدم العمل به، فإن ذلك الرفض لن يغير شيئاً على أرض الواقع، بقدر ما يؤشر فقط على أن التشكيك في شرعية حكم سعيّد سيستمر، من خلال اتهامه بأنه لم يعد يحكم باسم الأغلبية الكاسحة التي حصل عليها في الانتخابات الرئاسية في 2019، وإنما يستمد سلطته الحالية انطلاقاً من مقتضيات الأمر الواقع، وبفضل الأقلية العددية التي أدلت بأصواتها بعد أن أحجم ثلثا التونسيين عن المشاركة في الاستفتاء.
اللافت في السياسة الأميركية تجاه سعيّد أنها بقيت حذرة، وبعيدة عن الرغبة في القطع معه
في هذا المناخ السياسي الجديد، تتالت المواقف الدولية مما يحصل في تونس، إلا أنها كانت مختلفة ومتباينة وفق مصالح كل دولة وحساباتها.
الموقف الفرنسي من الاستفتاء غير مفاجئ
لم يكن الموقف الفرنسي الرسمي مفاجئاً، حيث اعتبر الرئيس إيمانويل ماكرون الاستفتاء الأخير "خطوة مهمة في عملية الانتقال السياسي"، مؤكداً ضرورة "احترام سيادة تونس".
فباريس حاولت منذ أن كشف سعيّد عن منعرجه السياسي أن تتجنب الاصطدام به، خاصة أنها لم تكن مطمئنة إلى حركة "النهضة" وحلفائها، الذين سبق لهم أن طالبوا السلطات الفرنسية بتعويضات ضخمة مقابل استغلالها للثروات التونسية في أثناء مرحلة الاستعمار.
في المقابل، جاء الموقف الأميركي مخالفاً تماماً للتقييم الفرنسي، سواء من حيث الشكل أو المضمون. إذ لأول مرة يصرّح وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع لويد أوستن، بأن من شأن ما يقوم به سعيّد تعريض الديمقراطية الناشئة للخطر. وطالباه باتخاذ إجراءات من شأنها أن تسمح بمشاركة أوسع في الانتخابات القادمة، التي ينوي تنظيمها في ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
سياسة أميركية حذرة تجاه سعيّد
اللافت في السياسة الأميركية تجاه سعيّد أنها بقيت حذرة، وبعيدة عن الرغبة في القطع معه. فعلى إثر التهديد الذي جاء على لسان أوستن، تلقى الرئيس التونسي دعوة للمشاركة في قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا التي ستعقد في واشنطن من 13 إلى 15 ديسمبر المقبل، بعدما جرى تجاهله في قمة الديمقراطية التي التأمت السنة الماضية.
هذا الأمر رأى فيه البعض تذبذباً في سياسة البيت الأبيض تجاه القيادة السياسية التونسية. وهناك من يذهب أبعد من ذلك، واصفاً ما يجري بـ"النفاق"، اعتقاداً من هؤلاء بأن أميركا هي التي أتت بسعيّد إلى السلطة، وهي التي تسنده وتقف وراءه.
وهي فرضية غير صحيحة ولا تستقيم، لأن الواقع مخالف لهذا الادعاء. فالخلاف بين الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته، وبين سعيّد واضح وعميق، وغضب الإدارة الأميركية على الرئيس التونسي أمر مؤكد وعلني.
فالعلاقات السياسية بين البلدين تسوء بشكل تصاعدي، ورصيد الثقة بينهما يتقلص يوماً بعد يوم، ما جعل سعيّد يرفض في مناسبات عديدة طلبات رسمية لمقابلته صادرة عن ممثلي السفارة الأميركية في تونس، وهو ما فسر تجاهلاً مقصوداً من رئاسة الجمهورية، التي أوكلت إلى وزير الخارجية عثمان الجرندي إدارة ملف العلاقات الثنائية التونسية الأميركية التي تمرّ حالياً بأدق مراحلها.
مخاوف أميركية من ارتماء تونس بأحضان روسيا
لا ينوي البيت الأبيض الدفع بعلاقته مع سعيّد إلى طريق اللاعودة. وما تخشاه هذه الإدارة أن تقرر الرئاسة التونسية الارتماء في أحضان المحور المعادي لواشنطن، الذي يضم روسيا والصين، وهو احتمال، إن حصل، سيشكل اختراقاً لا تخفى تداعياته على السياسة الأميركية في منطقة حساسة، تضم جزءاً من العالم العربي إلى جانب أفريقيا.
تخشى الإدارة الأميركية أن تقرر الرئاسة التونسية الارتماء في أحضان روسيا والصين
وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى متانة العلاقات بين الجزائر وموسكو. وهو أمر أشار إليه بوضوح وزير الدفاع الأميركي عندما اعتبر أن أفريقيا ستواجه تحديات متعددة بسبب التدخل الروسي في القارة. وربط ذلك بما وصفه "بتراجع الديمقراطية في تونس".
ولا تستبعد واشنطن أن يكون سعيّد قد فكر جدياً في ربط خط مباشر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكان ينوي زيارة موسكو في أوج الحصار الذي قررته دول حلف شمال الأطلسي عليها.
وخلال زيارته الأخيرة للجزائر، التقى سعيّد وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد، وأشعره، حسب بعض الروايات، بأنه يتعرض لنفس ما يواجهه نظيره السوري بشار الأسد، وكانت تلك الكلمات بمثابة الرسالة الموجهة إلى زعيم الكرملين. وقد أشعر هذا الأمر الأميركيين بأن سعيّد بدأ يفكر في اقتحام مربع السياسات الكبرى والمحظورة، ما دفع السفارة الأميركية في تونس إلى التدخل "بطريقة حازمة وعاجلة"، ووجهت رسالة قوية إلى الرئاسة التونسية مفادها أن ما يفكر فيه سعيّد يشكل "خطاً أحمر".
تنسيق بين واشنطن وباريس حول تونس
يوجد تنسيق قديم بين واشنطن وباريس حول تونس، وهذا التنسيق سيتواصل ويتعزز خلال المرحلة القادمة. أميركا مدركة أهمية تونس بالنسبة إلى السياسة الفرنسية التي تعمل على احتواء التفاعلات المترتبة عن اختيارات سعيّد على الصعيدين الداخلي والخارجي.
فالمسألة الديمقراطية لا تعتبر من أولويات أصحاب القرار الفرنسي، خاصة في هذه المرحلة التي تشهد تراجع نفوذ باريس في أفريقيا، نتيجة تعدد خلافاتها مع بعض مستعمراتها القديمة.
وإذ تختلف الحسابات بين أميركا وفرنسا، فلكل منهما أولوياته وحلفاؤه، لكن بينهما اتفاق استراتيجي على عدم التخلي عن تونس في هذه الظروف المالية الصعبة، والمرشحة لمواجهة أوضاع أكثر تعقيداً وخطورة. فمن شأن ذلك أن يحولها إلى دولة فاشلة، وقد يترتب عن ذلك مخاطر إقليمية كبرى.