كأن شيئاً لم يكن، وكأن ثلاثة أشهر لم تمرّ. توقّف الزمن في حزب المحافظين مع تنحّي زعيمه بوريس جونسون، في 7 تموز/يوليو 2022. حالة من الشلل عاشتها الحكومة منذ ذلك التاريخ، ولم تسعفها الظروف الطارئة التي شهدتها المملكة المتحدة لتنهض من جديد.
استقال جونسون أو أجبر على الاستقالة، تبادل تهم الخيانة و"الطعن" في الظهر، والعجز، والافتقار إلى الحلول والإفلاس، ثم أسابيع من السباق إلى داونينغ ستريت مع حملتين انتخابيتين رنّانتين، وبرامج اقتصادية تختلف بشكل جذري، لكنها تعد الناخبين بدعم كامل في مواجهة أزمة المعيشة، وارتفاع أسعار الطاقة، وتردّي الخدمات العامة، على أبواب شتاء بريطانيا القارس.
سرعان ما نسي أعضاء "حزب المحافظين" الأخطاء "القاتلة" التي ارتكبها جونسون، والاتهامات التي كيلت له، و"المؤامرة" التي أطاحت به، إلا أنهم لم ينسوا بعد "الطعنة" التي وجّهها له ريشي سوناك، الذي افتتح عبر استقالته من منصب وزير المالية سلسلة من الاستقالات، ما شجّع على تضييق الخيارات أمام جونسون وإجباره على التنحّي، "إلى حين".
توقف الزمن قبل أن يبدأ، فما أن وطأت تراس السباق ضدّ منافسها سوناك، حتى بدأ بعض المحافظين بالتعبير عن الندم، وعن استعجالهم التخلّص من جونسون، وعن ضياع فرصه للفوز في انتخابات عامة قادمة.
لم يغب جونسون ولا للحظة عن المشهد. ومع أنه اختفى جسدياً، إلا أن ظلّه بقي عالقاً في داونينغ ستريت وويستمينستر، يلاحق خليفته ليز تراس، مظللاً أخطاءها وقلّة حنكتها، وافتقارها إلى الحضور والتأثير.
ومع المناظرة الثانية بين المرشّحين تراس وسوناك، قدّم النائب المحافظ ديفيد بانرمان اقتراحاً بعودة جونسون إلى منصبه، إلا أن الأمر فشل إجرائياً وقانونياً. ولم يمض سوى أسبوع واحد على تولّي تراس المنصب، حتى جرى الحديث من جديد عن ضرورة أن يعود جونسون لأنه "وحده قادر على إنقاذ الحزب". وإن كانت "الطعنة" التي وجّهها سوناك لجونسون هي السبب المعلن لمعظم المحافظين والمبرّر الأقوى الذي قدّموه لدعم تراس، فإن هنالك سبباً غير معلن يصبّ في فكرة توقف الزمن لديهم، وعدم قدرتهم على التجديد.
كان اختيارهم لتراس هو تلك الرغبة الدفينة بعودة جونسون، فهي "مرشّحة الاستمرارية" بالنسبة إليهم، وهي التي من شأنها أن تمهّد الأرضية لعودة زعيمهم، وأن تكون رئيسة حكومة مؤقتة ريثما تفتر حدّة الغضب من جونسون، وريثما تغطي الزعيمة الجديدة بأخطائها على أخطائه. أخطاء جونسون وصفت بـ"القاتلة"، خاصة وأنها ارتبطت بجائحة كورونا وبخرق القوانين المتعلقة بها، إلا أنها فقدت حدّتها اليوم، ربما بالمقارنة مع أخطاء "قاتلة" فعلاً وليس مجازاً، ارتكبتها تراس، تتعلق بالاقتصاد وبالتضخّم وبالفقر، وبعدم قدرة الملايين على تأمين الحدّ الأدنى من الاحتياجات الأساسية. بينما لو فاز سوناك الاقتصادي والمحنّك والدبلوماسي، وأول رئيس حكومة من أقليات عرقية، فعندها سيكون جونسون قد تنحّى بالفعل وقد أخطأ بالفعل، وستحتاج عودته إلى انقلاب على الموازين والقوانين والدساتير.
كان في الخامسة من عمره عندما سئل السؤال التقليدي: ماذا ستكون عندما تكبر؟ أجاب جونسون: "سأكون ملك العالم". وفي الخمسين عندما أجاب على سؤال صديقه حول سبب إصراره على الانتقال إلى داونينغ ستريت رئيساً للحكومة: "لا أحد ينصّب تمثالاً لصحافي".
لم يشعر جونسون ربما أن ثلاث سنوات من وجوده في المقرّ رقم "10" كانت كافية لنصب تمثال له، رغم قيادته الحزب إلى منطقة جديدة تماماً تسمى مقاعد "الجدار الأحمر"، التي شغلها "حزب العمال" تاريخياً، ورغم شعار "استعادة السيطرة"، الذي أطلقه على أعتاب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومع "إنجازاته" في منح الرخصة للقاح سينقذ البشرية، و"بطولته" في أوكرانيا. كانت الكلمة الأخيرة التي قالها قبل أن يغادر مقرّ إقامته متّجهاً إلى اسكتلندا، حيث سيستقيل أمام الملكة الراحلة إليزابيث الثانية: "مثل سينسيناتوس، سأعود إلى محراثي".
وسينسيناتوس هو سياسي روماني من القرن الخامس قبل الميلاد، خرج من عزلته وتقاعده لينقذ روما من التهديدات التي تتعرض لها، فهزم العدو بديكتاتوريته، ثم عاد إلى سكينته وهدوئه وإلى محراثه. كما أنه رمز للبطولة المطلقة والمنقذ الذي يختار الديكتاتورية لفترة وجيزة فقط للمصلحة العليا، ثم يتخلّى عنها.
تقول قصة أخرى، إن سينسيناتوس يعود مرة ثانية إلى السلطة، وأيضاً لفترة وجيزة، بهدف قمع انتفاضة شعبية يخوضها المحرومون والفقراء. لم يقل جونسون تلك العبارة صدفة ولا بشكل عابر. كان يقصد أنه سيعود ربما، وأن إجازته مع محراثه وجيزة، وأنه ديكتاتور لو لزم الأمر، وفلاح ودود أيضاً يدلّل العشب والنباتات ويقود محراثاً مع بزوغ الشمس.
جرت العادة أن تتضاءل الهالة التي تحيط بالزعيم مع رحيله، فكيف هي الحال إن رحل مكرهاً ومهاناً بعض الشيء؟ إلا أن هذا لم يكن مصير جونسون الذي اختار خطاباً يشبه خطاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، لكن بكلمات أخرى، إلا أن المعنى يبقى واحداً: "أنا الزعيم السابق والقادم".
ألقت تراس خطاباً مقتضباً بعد تسلّمها قيادة الحكومة، بسبب مطر خريفي غزير أتاح للمعلّقين اللجوء إلى المجاز، واليوم تعلن عن استقالتها تحت المطر أيضاً، لكن سرعان ما تنقشع الغيوم، وتطلّ الشمس، متيحة هذه المرة أيضاً فيضاً من المجاز والتحايل على اللغة.
أما جونسون، ففي طريق عودته من السفر، بحسب مقرّبين منه، "من أرضه ومحراثه"، ليخوض السباق إلى داونينغ ستريت، وسط تأييد 19 من النوّاب له حتى اللحظة، بينما ينافسه ريشي سوناك، وقد حصل على 17 صوتاً، ولم تحصل بيني موردونت سوى على 6 أصوات، بحسب وثيقة سرّبها أحد المحافظين ووصلت "العربي الجديد" نسخة منها.