تسعى حكومة "الوفاق" الليبية للتقليل من حدة تأثير الصراعات الإقليمية والدولية في الملف الليبي، في خطوة تتزامن مع اتصالات داخلية كثيفة، في محاولة لفرض أمر واقع في المشهد السياسي المقبل.
وبينما أكد رئيس المجلس الرئاسي لحكومة "الوفاق" فايز السراج، لروما، أن حكومته "سخّرت كلّ الإمكانات" لإجراء الانتخابات الوطنية نهاية العام الجاري، طلب وزير الداخلية فتحي باشاغا، دعماً أميركياً لعملية أمنية يعتزم إطلاقها في مناطق غرب ليبيا.
ووفق المكتب الإعلامي للمجلس الرئاسي، أكد السراج لرئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي، خلال زيارته لروما أمس الجمعة، أن حكومته "سخّرت كلّ الإمكانات لتمكين المفوضية العليا للانتخابات من إنجاز الاستحقاق الانتخابي في موعده وعلى أكمل وجه". وجاء تأكيد السراج رداً على ترحيب كونتي بالجهود المبذولة في المسار السياسي برعاية الأمم المتحدة، التي توصلت إلى اتفاق على انتخابات تشريعية ورئاسية، مطالباً بضرورة التزام الموعد المحدّد لإجرائها في ديسمبر/كانون الأول 2021.
وبحث السراج في روما عدداً من ملفات التعاون الثنائي، حيث اتفق الجانبان على تفعيل اتفاقات الصداقة والشراكة بين البلدين، واستمرار اللجنة الاقتصادية المشتركة في عقد اجتماعاتها، بحسب المكتب الاعلامي.
وفي توضيح لملامح مشروع أمني تسعى حكومة "الوفاق" لتنفيذه، أعلن باشاغا شنّ "حملة كبيرة قادمة" لـ"القضاء على المسلّحين الخارجين عن الدولة واستهداف مهربي البشر"، مطالباً بدعم من واشنطن. وقال: "تحسنت آمالنا بشكل كبير بفوز جو بايدن في الانتخابات. نأمل أن يكون للإدارة الجديدة دور رئيسي في الاستقرار والمصالحة في ليبيا"، وفق ما نقلته وكالة "أسوشييتد برس"، أمس الجمعة.
وألمح باشاغا، خلال التصريحات نفسها، إلى استثمار التنظيمات الإرهابية لحملة خليفة حفتر العسكرية على طرابلس في بناء موطئ قدم لها في الجنوب الليبي، وفيما أكد أن الجانب التركي "تعهد بدعمنا"، أردف: "نأمل أن تساعدنا الولايات المتحدة... للقضاء على العناصر الإرهابية التي تسلّلت إلى ليبيا"، في إشارة واضحة إلى عزم باشاغا على توسيع عملياته الأمنية الجديدة لتطاول مناطق الجنوب الليبي.
ومن المرجَّح أن يصل السراج خلال الساعات المقبلة إلى العاصمة التركية أنقرة، للقاء مسؤولين أتراك، في وقت نفى فيه رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، الأنباء المتداولة عبر وسائل الإعلام حول سفره مع مجموعة من قادة المجموعات المسلّحة إلى تركيا.
وأكد المشري في تدوينة له عبر "فيسبوك"، أن خبر سفره إلى أنقرة عارٍ من الصحة، ولم يسافر مع أي وفد، ولا علم له بهذا الوفد أو سفره إن حدث"، مشدداً على رفضه لعقد اجتماعات من هذا القبيل خارج البلاد.
Posted by خالد المشري - Khaled Elmeshri on Friday, January 8, 2021
وتشهد العاصمة طرابلس حراكاً حثيثاً في كواليسها، في اتجاه ربط اتصالات بمختلف الأطراف المتنافسة في الملف الليبي.
وتطابقت معلومات مصادر ليبية تحدثت عن عدد من الزيارات بدأ قادة من حكومة "الوفاق" في تنفيذها لعدة عواصم، منها موسكو التي زارها وزير الخارجية محمد سيالة، الذي أبلغ خلالها الجانب الروسي برغبة حكومته في تعليق المباحثات الثنائية في الشأن الاقتصادي إلى ما بعد سحب مقاتلي شركة "فاغنر" الروسية من الأراضي الليبية، مقابل استعداد لفتح آفاق سياسية أوسع، في خطوة تهدف إلى تحييد الموقف الروسي إذا ما تحركت قوات حكومة "الوفاق" باتجاه الجنوب.
وتقول المصادر الليبية التي تحدثت لـ"العربي الجديد"، إن زيارة باشاغا للقاهرة جاءت في هذا الإطار، والتي أعقبتها زيارة وفد مصري رفيع المستوى لطرابلس، نهاية الشهر الماضي، مؤكدة أن طرابلس سترسل وفداً من رجال الأعمال لزيارة القاهرة.
وكانت مصادر خاصة قد كشفت في وقت سابق النقاب لـ"العربي الجديد" عن زيارة مرتقبة لوفد ليبي للقاهرة، على رأسه وزير الخارجية في حكومة "الوفاق"، محمد سيالة.
وعلى الرغم من الانزعاج البادي على بعض القادة في طرابلس، ومن بينهم رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري ووزير الدفاع في الحكومة صلاح الدين النمروش، إلا أن السراج وباشاغا وسيالة، بالإضافة إلى نائب رئيس المجلس الرئاسي أحمد معيتيق، نجحوا نسبياً في اختراق جدار التجاذب الحادّ بين عدة أطراف في الملف الليبي، بحسب ذات المصادر التي تؤكد أن الحراك يجري برضى وبضوء أخضر أميركي.
وعلى الرغم من استمرار حدة مواقف قادة عسكريين من جانب حكومة "الوفاق"، على رأسهم شخصيات عسكرية من مصراتة ووزير الدفاع النمروش، ومن جانب اللواء المتقاعد خليفة حفتر، إلا أن المصادر تؤكد استمرار اتصالات غير مباشرة بين مجموعة السراج وحفتر للتوصل إلى تفاهمات من شأنها رسم ملامح مشهد سياسي يفرض أمراً واقعاً يستبق أي خطوة تهدف إلى تغيير الطبقة السياسية الحالية. لكن الأكاديمي الليبي خليفة الحداد، يؤكد أن البعثة الأممية التي ترعى مسارات سياسية وعسكرية بهدف الوصول إلى تسوية دائمة لن تجد بديلاً سياسياً لتشكيل قيادة جديدة، مرجحاً أن يكون الخيار الوحيد أمام البعثة، انتقاء شخصيات من المشهد الحالي واستبعاد أخرى.
ويرى الحداد خلال حديثه لـ"العربي الجديد"، أن تصريحات كونتي وردّ السراج حملت رسالة مهمة، موضحاً أن طلب كونتي من السراج ضرورة التزام إجراء انتخابات نهاية العام الجاري، وتعهد السراج بذلك، يعني موافقة إيطالية على بقاء السراج وحلفائه في طرابلس في مشهد السلطة المقبلة، ومن مهامها الإشراف على الانتخابات المقبلة.
وبعد زيارة لرئيس الوزراء الإيطالي لبنغازي، منتصف ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، التقى خلالها حفتر، سرّبت وسائل إعلام إيطالية معلومات مفادها أن كونتي نقل إلى حفتر رسالة من جانب السراج يعرض فيها الأخير على حفتر أن يتولى اختيار شخصية موالية له لشغل منصب رئيس الحكومة المقبلة.
لكن الباحث الليبي في العلاقات الدولية، مصطفى البرق، يرى من جانبه أن ملامح الصفقات التي تجري في الخفاء قد تكون بعض مفرداتها غائبة، موضحاً أن تصريحات باشاغا تشير إلى توجه محتمل للعملية نحو الجنوب، وهو ما لا يتوافق مع وجود تفاهمات مع حفتر، الذي يعتبر مناطق الجنوب من بين أراضيه التي يسيطر عليها، مبدياً استغرابه من سرعة بناء هذه التحالفات، خصوصاً بين السراج وباشاغا، الشخصيتين الأكبر تنافساً في طرابلس.
ويتابع البرق تحليله للمستجدات بالقول إن "عملية حكومة الوفاق المنتظرة ستجري بشكل موازٍ للعمليات الأمنية التي أطلقها حفتر من جانبه لإعادة سيطرته على مناطق نفوذه"، مرجحاً، خلال حديثه لـ"العربي الجديد"، أن تكون هذه العمليات لحسم السيطرة على الساحة لذات الشخصيات التي تسعى إلى بناء حلف في الكواليس.
وفي اعتقاد البرق أن عملية باشاغا الأمنية المرتقبة ستستهدف أيضاً مجاميع مسلّحة في غرب البلاد، ومن بينها قوى مسلّحة داخل طرابلس على غرار قوة حماية طرابلس التي يقودها هيثم التاجوري، العائد أخيراً إلى طرابلس، الذي أعلن معارضته لخطط وزارة الداخلية والحكومة برمتها، وهي مجاميع قد تشكّل عامل قلق وازعاج، معتبراً أن باشاغا من الشخصيات التي تمتلك ارتباطاً بالمجموعات المسلّحة في طرابلس ومصراتة، بالإضافة إلى حلفه الوثيق مع قائد المنطقة العسكرية الغربية، اللواء اسامة الجويلي، المنحدر من الزنتان.
لكن ملامح تلك المساعي أيضاً، التي قد تبدو من خلال الزيارات التي نفذها قادة الحكومة، وبعضها ينتظر التنفيذ، مرهونة بتقارب الآراء في الملف الليبي من جانب الأطراف الخارجية، بحسب رأي البرق، الذي يشير إلى أن العلاقة التركية الروسية لا تزال معقدة وغامضة الملامح، وفي الجانب الآخر الموقف الفرنسي لا يزال مغيباً حتى الآن مقابل نشاط إيطالي واضح في الآونة الأخيرة.
ونهاية ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، طالب بيان لسفراء خمس دول أجنبية بضرورة أن تتولى "قيادة قوية ومشتركة" قيادة البلاد قُبيل مرحلة الانتخابات، المزمع عقدها في ليبيا نهاية العام المقبل.
وبحسب البيان الموقع من سفارات دول الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وإيطاليا وفرنسا والمملكة المتحدة، الذي نشرته السفارة الأميركية على موقعها الرسمي، فإن هذه الدول أكدت محورية دور حكومة "الوفاق" باعتبارها الحكومة المعترف بها دولياً، في دعم الالتزام من جانب جميع الأطراف لإنجاح الحوار الذي تيسّره الأمم المتحدة بشكل كامل.
ويشير الباحث الليبي إلى أن نشر السفارة الأميركية للبيان، على الرغم من مشاركة سفراء دول أخرى، يعني أن الاتصالات الليبية التي تجري في الخفاء تحدث بطلب أميركي، وعلى الأقل بعلم منها، لكنه في ذات الوقت يرى أن موقف الإدارة الأميركية الجديدة في الملف الليبي غير واضح للقادة الليبية.
ويلخص المستجدات بأنها تجري في هامش غياب الرؤية الأميركية للأوضاع في المنطقة كلها، بهدف استثمار هذه الفترة لفرض واقع قد تضطر واشنطن إلى التعامل معه، وتصبح البعثة الأممية أمام خيار التعامل معه أيضاً لتشكيل الوضع السياسي المقبل.