استمع إلى الملخص
- إسرائيل تشن "حرباً" سرية ضد المحكمة الجنائية الدولية لعقد من الزمن، تشمل مراقبة وقرصنة، في محاولة لتعطيل التحقيقات بعد اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين كدولة.
- طلبات الاعتقال تمثل لحظة تحوّل قد تقيد حركة شخصيات إسرائيلية بارزة، وتسلط الضوء على جرائم الحرب، رغم المقاومة الشديدة والضغوط التي تواجه المحكمة.
يطرح طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، على خلفية الحرب على غزة، الكثير من التساؤلات عن إمكانية أن تؤدي إلى تحقيق العدالة وتطبيق القانون الدولي، في الوقت الذي تعلن الولايات المتحدة رفضها لمثل هذا القرار. ويأتي طلب خان الذي تنظر فيه لجنة من قضاة المحكمة الجنائية الدولية بالتوازي مع كشف صحيفة ذا غارديان البريطانية، الثلاثاء الماضي، أن "الموساد" الإسرائيلي تنصّت على مدار سنوات عديدة على عمل المحكمة، وقام بمحاولات أخرى لابتزاز المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا التي كانت تعمل على التحقيق ضد إسرائيل، بهدف وقف هذه التحقيقات.
كما كشفت "ذا غارديان" عن تورط إسرائيل في عمليّات تجسس بحق المحكمة الجنائية الدولية والمدعي العام كريم خان. وبحسب التحقيق، شنت إسرائيل "حرباً" سرية دامت قرابة عقد من الزمن ضد المحكمة الجنائية الدولية عن طريق وكالات الاستخبارات الخاصة بها، عبر مراقبة وقرصنة وتشويه وتهديد كبار موظفي المحكمة الجنائيّة في محاولة لتعطيل تحقيقاتها. وبحسب التحقيق، التقطت الاستخبارات الإسرائيليّة اتصالات العديد من مسؤولي المحكمة، بمن فيهم خان، واعترضت المكالمات الهاتفية والرسائل والبريد الإلكتروني والوثائق. وبحسب ما نقلت الصحيفة عن ضباط في الاستخبارات الإسرائيليّة ومسؤولين حكوميين حاليين وسابقين، فإن حرب إسرائيل على المحكمة بدأت في يناير/ كانون الثاني 2015، عندما تم التأكيد أن فلسطين ستنضم إلى المحكمة بعدما تم الاعتراف بها كدولة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ولعل هذا الكشف الجديد يُفسّر كيف عرف نتنياهو مسبقاً بنوايا المحكمة الجنائية الدولية في إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين، وهو ما تناقلته وسائل الإعلام الإسرائيليّة قبل الإعلان الرسمي من قبل كريم خان. ويعتمد التحقيق المنشور على مصادر من شخصيّات أمنيّة وعسكريّة إسرائيليّة سرّبت هذه المعلومات للجهة التي عملت على التحقيق، وبحسب ما جاء فيه، فإن اتصالاً تم اعتراضه أخيراً من قِبل إسرائيل أشار إلى أن كريم خان كان يريد إصدار أوامر اعتقال ضد إسرائيليين لكنه كان تحت "ضغط هائل من الولايات المتحدة"، وفقاً لمصدر مطلع على محتواه. وقالت "ذا غارديان" إن نتنياهو كان مهتماً جداً بعمليات الاستخبارات ضد المحكمة الجنائيّة، ووصفه أحد مصادر الاستخبارات بأنه "مهووس" بالاعتراضات المتعلقة بالقضية. ولم تقتصر عمليات التجسس على المحكمة على جهة أمنية إسرائيليّة واحدة، بل شملت إشرافاً من مستشارين للأمن القومي، وجهوداً لوكالة "الشاباك"، وأيضاً مديرية الاستخبارات العسكرية "أمان"، وقسم الاستخبارات السيبرانية وحدة 8200. وتمت مشاركة المعلومات الاستخباراتية المستخلصة من الاعتراضات مع وزارات العدل والشؤون الخارجية والشؤون الاستراتيجيّة.
بدورها، قالت المحكمة الجنائية الدولية وفق "ذا غارديان"، إنها على علم بـ"أنشطة جمع المعلومات الاستخباريّة النشطة التي تقوم بها عدة وكالات وطنيّة معادية للمحكمة". وأضاف مسؤولون فيها أن المحكمة تنفذ باستمرار إجراءات مضادة لمثل هذه الأنشطة، وأن "أياً من الهجمات الأخيرة ضدها من قبل وكالات الاستخبارات الوطنيّة لم تخترق الأدلة الأساسيّة للمحكمة، والتي ظلت آمنة".
إعلان كريم خان الأسبوع الماضي سعيه لتقديم طلبات الاعتقال من الجنائية الدولية بحق قادة إسرائيليين وآخرين من "حماس"، كان مفاجئاً بالنسبة إلى عدد من الخبراء، خصوصاً مع وجود تهم "بالانحياز" لإسرائيل طاولت خان من مؤسسات حقوقيّة. لكن ذلك لا يقلل من أهمية الطلبات التي يسعى المدعي العام لتقديمها.
تداعيات طلبات الاعتقال من المحكمة الجنائية الدولية
وقال أستاذ القانون في جامعة سيتي لندن مازن المصري، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن لهذا القرار أهمية كبرى، متوقعاً أنه "سيواجَه بمقاومة شديدة وبضغوط على المحكمة الجنائية" لكون الموضوع حساساً جداً. واعتبر أن القضاة في المحكمة الابتدائية "على الأغلب سيقبلون طلب المدعي العام الذي استشار سبعة خبراء في القانون الدولي، فهو لن يُقدِم على موضوع مرتفع الحساسية من دون أن يكون متأكداً من أن لديه ملفاً قوياً من الناحية القانونيّة".
وعند طلبات الاعتقال من المحكمة الجنائية الدولية أشار المصري إلى أن حرية الحركة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حول العالم "ستتقيّد بشكل كبير، خصوصاً أن عدداً من الدول أعلنت التزامها قرارات المحكمة، حتى تلك الحليفة مثل ألمانيا". ورداً على سؤال عن التهم التي ستُوجّه لشخصيات الفلسطينية والتي تبدو كأنها أكثر عدداً مقارنة بالجانب الإسرائيلي، لفت المصري إلى أن خان "يحاول أن يقوم بتوازنات، خصوصاً بعد هذا القرار الذي يطاول رئيس الوزراء الإسرائيلي".
توقع مازن المصري أن يواجَه إصدار مذكرات الاعتقال بمقاومة شديدة وبضغوط على المحكمة الجنائية
وأوضح المصري أن "التهم التي يتهمون إسرائيل بها، هي أمور حصلت وتحصل في سياق الحرب على غزة، مثل القتل والتجويع واستهداف المدنيين. أمّا التهم الفلسطينيّة فيمكن وضعها في إطار "البربريّة" مثل التعذيب والعنف الجنسي، على الرغم من أننا شهدنا تعذيباً للفلسطينيين وعنفاً جنسياً بحقهم بحسب العديد من التقارير". وأضاف: "التهم ضد قادة حماس تُصورهم على أنهم "غوغاء"، وتتعلق بالقتل والذبح والاغتصاب، بينما التهم ضد الإسرائيليين تبدو وكأنها تحصل في أي حرب، وهي أمور يمكن ملاحظتها". وتابع: "قد نشهد توسيع التهم ضد شخصيات إسرائيلية أخرى في المستقبل، خصوصاً أن المدعي العام قال إن التحقيق في بدايته".
وعن أسباب تحرك خان لإصدار طلبات الاعتقال من الجنائية الدولية، وهو الذي أغلق سابقاً تحقيقات ضد الولايات المتحدة وبريطانيا في المحكمة تتعلق بالعراق وأفغانستان، قال المصري: "أداء المحكمة تاريخياً يثبت أنها منحازة، وكل القضايا فيها تتعلق بدول أفريقية أو أوروبا الشرقيّة، لكن أعتقد أن الأمور وصلت إلى درجة أن المحكمة أمام حالة لا تستطيع أن تتجاهلها، خصوصاً مع كل التدخّل الدولي الحاصل من مؤسسات دوليّة، فصار لزاماً عليها التدخّل وإلا فقدت مصداقيتها، وقد تنسحب دول منها بتهمة أنها محكمة أفريقيا وليست محكمة عالمية".
وأضاف المصري: "أعتقد أن أحد الأسباب التي أسهمت في تحرّك المدعي العام، أن نتنياهو وحزب الليكود عموماً، أصبحوا منبوذين على مستوى دولي، فالعلاقة بين نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن ليست جيدة، وهذا ينعكس أيضاً على الدول الغربية الأخرى، لذلك نرى التركيز في التهم على نتنياهو و(وزير الأمن يوآف) غالانت الذي هو من الليكود، وليس استهداف إسرائيل كإسرائيل، وهو أمر له مقبولية أكثر في الدول الغربية". وخلص المصري إلى القول: "قد تتوسع التهديدات ضد المحكمة الجنائية مستقبلاً، وقد تؤخّر بعض الدول دفع مخصصاتها للمحكمة كوسيلة ضغط، وهي ضغوط لا تجري علناً".
لحظة تحوّل تاريخية
من جهتها، قالت الأستاذة المشاركة في قسم القانون الدولي لحقوق الإنسان في جامعة نبريجا الإسبانية سونيا بولس، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن قرار خان المتوقع لإصدار طلبات الاعتقال من المحكمة الجنائية الدولية "لحظة تحوّل تاريخية إذا أخذنا في الاعتبار حقيقة أنه منذ تأسيسها في عام 1948، تمتعت إسرائيل بإفلات شامل من العقاب على جميع انتهاكاتها الصارخة للقانون الدولي". وأضافت: "هذا ما يفسّر أيضاً سبب تشكيل المدعي العام لجنة مكونة من خبراء القانون الدولي لدعم مراجعة الأدلة والتحليل القانوني في ما يتعلق بطلبات أوامر الاعتقال هذه. وهذه هي المرة الأولى التي يواجه فيها زعيم غربي العدالة الدولية منذ محاكمات نورمبرغ (للقادة النازيين بعد الحرب العالمية الثانية)، حتى من دون أن يُهزم".
سونيا بولس: إصدار مذكرات الاعتقال ليس سوى خطوة أولى، وتنفيذها يتطلب تعاون الدول
وأشارت بولس إلى أن إصدار مذكرات الاعتقال "ليس سوى خطوة أولى، وتنفيذها يتطلب تعاون الدول، ومنذ لحظة إصدار مذكرات الاعتقال، هناك 124 دولة ملزمة باعتقال ونقل نتنياهو وغالانت إلى لاهاي إذا كانا موجودين على أراضيها. وبافتراض أنهما لن يسافرا، فإن تنفيذ مذكرات الاعتقال سيتطلب تعاوناً إسرائيلياً، وهو أمر غير وارد في الوقت الحالي". وأضافت: "مع ذلك، فإن الجرائم الدوليّة لا تخضع لقوانين التقادم، ما يعني أنه حتى في غضون عشر أو عشرين سنة من الآن، لا يزال من الممكن محاكمة المسؤولين الإسرائيليين. أمّا على المدى القصير، فيظل إصدار أوامر الاعتقال أمراً أساسياً للضغط على الدول واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها لمنعها من بيع الأسلحة أو نقلها إلى إسرائيل. ويمكن أن يخلق بيئة مواتية لطلب سبل قانونية إضافية ضد إسرائيل والمسؤولين الإسرائيليين، مثل اللجوء إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية".
أما عن التهم الموجهة للجانب الإسرائيلي التي تتركز بقدر كبير حول قضية التجويع الجماعي، ولا تتناول قضايا أخرى حصلت وما زالت تحصل بحسب العديد من التقارير، مثل العنف الجنسي، والمقابر الجماعية، وتعمّد قتل الصحافيين، وغيرها، قالت بولس إن التركيز على التجويع من أجل اتهام نتنياهو وغالانت بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ليس مفاجئاً لعدّة أسباب، "أولاً وقبل كل شيء توجد أدلة كثيرة لا جدال فيها في ما يتعلق التجويع، بما في ذلك قطع إمدادات السلع الأساسيّة، وتدمير البنية التحتيّة لإنتاج الغذاء في غزّة، ومنع المساعدات الإنسانيّة، ومهاجمة عمّال الإغاثة، ومهاجمة المدنيين الذين يصطفون للحصول على الغذاء". وأضافت: "ثانياً، من الأسهل توريط القيادة السياسية الإسرائيلية مباشرةً بالجرائم المرتبطة بالمجاعة، فقرار قطع إمدادات السلع الأساسية وقطع الوقود والكهرباء وإغلاق جميع الحدود قد اتُّخذ من قبل القادة الإسرائيليين. ومع ذلك، فإن قرار اتهامهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانيّة وليس الإبادة الجماعيّة في ما يتعلق بتجويع السكان المدنيين أمر مثير للدهشة".
ورأت أن "القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدوليّة والتقرير الخاص الصادر عن مقررة الأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة فرانشيسكا ألبانيز، يوثقان سلسلة من التصريحات الصادرة عن مسؤولين إسرائيليين تتضمن نيّة الإبادة الجماعية، ولهذا من المفاجئ أن المدعي العام قرر عدم إدراج جريمة الإبادة الجماعية". وأكدت بولس وجود جرائم أخرى غائبة "بشكل مثير للدهشة، مثل الجرائم المتعلقة بتعذيب المعتقلين الفلسطينيين حتى مع وجود أدلة موثوقة. لكن من المتوقع أن يسعى المدعي العام لإصدار المزيد من أوامر الاعتقال في المستقبل، ونأمل أن تصحح الأوامر المستقبلية هذه العيوب الخطيرة، منها أن التهم تبدأ فقط بعد السابع من أكتوبر".
واعتبرت بولس أن ما دفع خان إلى التحرك "خطورة الجرائم التي تُرتكب في غزة وحجم المعاناة الإنسانية التي نشهدها ومستويات الدمار والمحو غير المسبوقة"، وتساءلت: "كيف يمكن للمحكمة أن تتجاهل مثل هذه المعاناة التي يشاهدها جميع سكان الأرض ببث حيّ؟ لكان الأمر كارثياً بالنسبة إلى مصداقيتها". وخلصت إلى القول إن "قرار جنوب أفريقيا برفع قضية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية لاتهامها بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية شكّل عاملاً مهماً في الضغط على المحكمة الجنائية الدولية، إضافة إلى حركة احتجاج عالمية غير مسبوقة ضد الحرب، أما الولايات المتحدة فستجد نفسها معزولة بسبب موقفها العدائي وتهديداتها للمحكمة الجنائية الدولية".