شهدت تونس منذ الاستقلال ثلاث محطات انتقالية مهمة، الأولى بانتقالها من النظام الملكي إلى الجمهورية الأولى بناء على دستور سنة 1959، والثانية خلال الفترة الانتقالية غداة الثورة، ثم بالانتقال من النظام الرئاسي إلى البرلماني المعدل بفضل دستور 2014، فهل تتجه البلاد نحو جمهورية ثالثة؟
وللتذكير، فقد صدر دستور الجمهورية التونسية الأولى بتاريخ أول يونيو/ حزيران 1959، محققاً انتقالاً سياسياً جوهرياً أنهى قرونا من النظام الملكي. وكان هذا الدستور ثمرة أعمال المجلس القومي التأسيسي خلال سنوات من 1956 إلى منتصف سنة 1959.
وصدر دستور الجمهورية الأولى بعد حصول البلاد على استقلالها التام بتاريخ 20 مارس /آذار 1956، وبعد إعلان قيام النظام الجمهوري بتاريخ 25 يوليو/تموز1957 والإطاحة بآخر بايات (حكام) تونس.
وعاشت تونس انتقالا سياسيا هيكليا رافقته عملية إعداد مشروع الدستور وقتها، الذي جرت ملاءمة أحكامه مع المستجدات آنذاك. واقتضى الوضع السياسي والاجتماعي أحكاما انتقالية اتجهت نحو "تونسة" المؤسسات الرسمية التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي، أو في اتجاه تأسيس مؤسسات جديدة تستجيب لمقتضيات النظام الرئاسي الجديد الذي نظم السلطات خلال حكم أول رئيس للبلاد الراحل الحبيب بورقيبة (1903-2000).
وتتالت تعديلات الدستور، وآخرها بمقتضى القانون الدستوري في 1 يونيو/ حزيران 2002، الذي أدخل مراجعة شاملة على الدستور لأغلب فصوله خلال فترة حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي (1936-2019).
وعرفت تونس بعد ثورة 2011 انتقالا هيكليا آخر، عبرت به من النظام الرئاسي الذي حوله نظام بن علي ومن قبله بورقيبة إلى نظام رئاسوي وشمولي كما يصفه خبراء القانون، من خلال تطويع أحكام الدستور والسلطات، إلى نظام سياسي مؤقت أسسه القانون المنظم للسلطات وقتها (الدستور الصغير)، وصفه الخبراء بالنظام المجلسي (نظام الجمعية العامة)، وأعطى صلاحيات وسلطات واسعة لأول برلمان بعد الثورة (المجلس الوطني التأسيسي 2011 -2014) تتجاوز صلاحياته السلطة التنفيذية، حيث انتخب البرلمان رئيس الجمهورية وقتها المنصف المرزوقي، كما أعطى الثقة وصادق على الحكومات المتعاقبة وبرامجها خلال ثلاثة سنوات.
وانتقلت تونس إثر ذلك من النظام المجلسي المؤقت إلى النظام البرلماني المختلط، الذي أسسه دستور 2014 بشكل تعددي يضمن التنوع والاختلاف ومراقبة السلطات بعضها بعضاً. وضمنت الأحكام الانتقالية في دستور 2014 العبور نحو الجمهورية الثانية، كما وصفت من قبل المؤرخين والخبراء، وأمنت هذه الأحكام انتقالا سلسا للسلطات، وبين المؤسسات السابقة والمحدثة، بما يضمن تواصل المرفق والدولة.
وأتاحت الأحكام الانتقالية تأسيس المجلس الأعلى للقضاء بعد أن كانت خلال فترة الحكم المجلسي هيئة وقتية لتنظيم القضاء العدلي، أنهت بدورها إشراف السلطة التنفيذية على مرفق العدالة، كما أسست الأحكام الانتقالية العبور من المجلس الدستوري في فترة الحكم الرئاسي إلى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، ومنها نحو إحداث أول محكمة دستورية ستضمن بعد تأسيسها علوية الدستور واحترام أحكامه والفصل بين السلطات وحماية النظام الجمهوري.
وأمّنت الأحكام الانتقالية العبور من إشراف وزارة الداخلية على الانتخابات إلى تأسيس هيئة دستورية مستقلة عن الأحزاب والسلطات، نجحت في تأمين الانتخابات في البلد لمختلف مراحلها، كما مكنت من العبور من إشراف السلطة التنفيذية عبر وزارة الإعلام على القطاع الإعلامي والصحافي إلى هيئات عمومية مستقلة، في انتظار إحداث هيئة دستورية مستقلة دائمة للإشراف على القطاع السمعي البصري.
والأحكام الانتقالية، كما فسرتها أستاذة القانون الدستوري منى كريم لـ"العربي الجديد"، هي "أقسام مؤقتة من الدستور وظيفتها توجيه عملية الانتقال إلى النظام الدستوري الجديد".
وأضافت "الأحكام الانتقالية آلية قانونية لمعالجة الإشكالات المصاحبة لدخول الدستور حيز النفاذ"، مشيرة إلى أنها "بمثابة الجسر الذي يصل النص الدستوري القديم بالجديد، حيث تضمنت الدساتير المختلفة نصوصا انتقالية متنوعة منها ما تتعلق بالسلطات، جاءت لتضمن استمراريتها خلال المرحلة الانتقالية التي تسبق تنصيب المؤسسات المقررة في النصوص الدستورية الجديدة".
وقال أستاذ التاريخ بالجامعات التونسية رياض المرابط، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "تاريخ تونس الجمهورية أو تونس الجديدة كما يقال، بدأ بالمجلس القومي التأسيسي الذي أعلن الجمهورية في 1957، وهو نفسه بدأ بما يشبه الانقلاب لأنه تشكل ونظمت انتخاباته بأمر من الباي (الحاكم) لوضع دستور للمملكة التونسية، وإذا به يضع دستور 1959 دستوراً للجمهورية، وألغى النظام الملكي".
وبين المؤرخ أن "تاريخ الحياة السياسية في تونس بدأ بالمراواغات القانونية والدستورية"، مشيراً إلى أنه "يمكن تقسيم تاريخ الجمهورية وفق مقياسين، المقياس السياسي الدستوري القانوني والمقياس الاقتصادي والاجتماعي"، وأكد أنه على المستوى السياسي هناك جمهورية أولى أسس لها دستور 1959، وثانية بمعنى دستور 2014 بعد مرحلة انتقالية قصيرة".
وشدد مرابط على أنه "بعد 25 يوليو ما زلنا إلى اليوم في ظل دستور 2014، وما زلنا في ظل الجمهورية الثانية، ولكن المؤشرات تفيد بأن الرئاسة تستعد، أو جزء من النخبة، أو من الشعب نفسه يريد جمهورية ثالثة، بمعنى بدستور ثالث". وأكد المؤرخ "طالما لا وجود لدستور ثالث، فنحن لسنا في مرحلة انتقالية، لأن المرحلة الانتقالية تقتضي مرحلة بين مرحلتين واضحتي المعالم، أولى منقضية وثانية بصدد التأسيس".
وتابع "نحن في مرحلة غريبة يجوز أن تُسمى بمرحلة انتظارية، لأننا ننتظر ما ستؤول إليه الأحداث، وكيف سيتصرف الحاكم بأمره رئيس الجمهورية وإلى أي درجة سيحترم الدستور"، بحسب تقديره. وأضاف أن "الأمور غامضة، ما يصعب القول إننا دخلنا مرحلة أخرى ونحن في مرحلة ضباب وانتظار، فالمرحلة الانتقاليّة تفترض أن نكون بين قديم وجديد، ولكن القديم نعرفه وقد مجّه الشعب، والجديد غير واضح المعالم وليس محل حوار أصلا"، بحسب قوله.
ولفت إلى أنه على "مستوى الجانب الاقتصادي والاجتماعي، يمكن تقسيم تاريخ تونس بطريقة أخرى، من مركزية الدولة إلى الدولة الاجتماعية إلى الدولة الليبرالية إلى الدولة الليبرالية المتوحشة جدا".