لا تزال الأوضاع مستقرة في تونس بعد مرور نحو أسبوعين على الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد. هل يعني هذا أن البلاد انتقلت فعلياً إلى مرحلة جديدة مختلفة عن سابقتها؟ وهل أن ما حدث قد طوى نهائياً تجربة الانتقال الديمقراطي المتعثر حسب ما يأمله الكثيرون داخل تونس وخارجها؟ وهل ألقت حركة "النهضة" المنديل الأبيض، وانكمشت على حالها في انتظار ما قد تحمله الأيام والأسابيع المقبلة من أخبار سيئة لقادتها وقواعدها؟
يبدو أن سعيّد غير متعجل الخطى، حيث لم يعين بعد رئيساً جديداً للحكومة، على الرغم من الدعوات التي وجهت له في هذا الشأن من الداخل والخارج. يتركز نشاطه على الاهتمام بمشاغل المواطنين الصحية وغلاء الأسعار، واحتكار المواد الأساسية، وملاحقة المتهمين بالفساد. فهو يتابع بارتياح الحملة المنظمة والناجحة إلى حد ما لتلقيح أكبر عدد ممكن من التونسيين ضد فيروس كورونا. فكمية اللقاحات التي وصلت تكفي لتأمين أكثر من 40 في المائة من المواطنين. فالرئيس يريد من وراء ذلك أن يكسب أوراقاً وازنة لكي يعزز مكانته، ويواصل عزل خصومه، شعبياً وسياسياً.
يريد سعيّد الاستفادة من الحملة المنظمة للتلقيح لتعزيز مكانته
في هذا السياق لوحظ أن الخط التحريري لمعظم وسائل الإعلام، خصوصاً العمومية منها، قد تغير لصالح رئاسة الجمهورية. أصبحت تصريحات الرئيس ونشاطاته تحتل المرتبة الأولى في نشرات الأخبار. كما تعزز عدد المؤيدين للرئاسة من مختلف المواقع والفئات الاجتماعية، وذلك في مقابل تراجع الاهتمام بنشاط الأحزاب، وانخفاض أصواتها، خصوصاً تلك المعارضة لسعيّد.
من جهة أخرى، تتواصل عمليات إقالة مسؤولين في مواقع متعددة أمنية وإدارية، مقابل تعيينات جديدة لوجوه أخرى سيتم الاعتماد عليها لتنفيذ سياسات رئيس الدولة، إلى جانب إحالة البعض على القضاء ومنع آخرين من السفر. ويبدو أن هذه السياسة الأمنية مرشحة لتطول، من حيث الزمن والعدد، على الرغم من ردود فعل المنظمات الحقوقية. فالبلاد تتجه تدريجياً نحو التخلص من منظومة، بكل مكوناتها ورموزها ومرجعياتها، واستبدالها بأخرى لم يتضح بعد الكثير من معالمها وآلياتها.
أصبح من المؤكد أن صفحة ما قبل 25 يوليو/تموز الماضي قد طويت. هذا ما تؤكده عديد المؤشرات، من أهمها ما جاء على لسان سعيّد نفسه في تصريحات عديدة. وعلى هذا الأساس لن يفتح البرلمان أبوابه من جديد نهاية أغسطس/آب الحالي كما يتوهم البعض، بل قد يذهب الرئيس إلى أبعد من ذلك، فيصدر قراراً مؤقتاً للسلطات العمومية، قد يليه العمل على صياغة دستور جديد يلغي بمقتضاه دستور 2014، ويفتح الباب أمام ما يسميه بعض السياسيين بـ"الجمهورية الثالثة"، مقارنة بما فعله الجنرال الفرنسي الراحل شارل ديغول.
هذا المسار من شأنه أن يضع الأحزاب السياسية، من دون استثناء، أمام نظام سياسي معادٍ لها. فالرئيس لم يكتف بوضع حركة "النهضة" في زاوية حادة وصندوق مغلق، بل تجاهل بقية التنظيمات، إذ لم يستقبل أيا منها، ولم يستشرها في أي خطوة ينوي القيام بها، بما في ذلك حركة "الشعب" القريبة منه، أو حزب "التيار الديمقراطي" الذي سانده، وسبق لبعض قادته أن شجعوه على اللجوء إلى اتخاذ قرارات استثنائية تغير جذرياً الخريطة السياسية. وعلى الرغم من أن هذه الأطراف الحزبية بدأت تشعر بالمأزق، وأخذت تحذر من الانزلاق نحو الحكم الفردي أو إلغاء منظومة الأحزاب برمتها، ومن ذلك ما جاء على لسان القيادي في "التيار" وزير التربية السابق محمد الحامدي من أن "الدعوات التي تسعى إلى تبخيس الأحزاب والمنظمات جربت مراراً ولم تثمر إلا الاستبداد"، إلا أن هذه الأصوات أصبحت غير مسموعة مثلما كان من قبل، وهو ما جعل خصومها يهاجمونها، ويعتبرون أنها أدت دورها بنجاح في تيسير تنفيذ الخطة التي استقرت في ذهن سعيّد.
لم يستشر سعيّد أيا من التنظيمات في أي خطوة ينوي القيام بها
مع ذلك، يتساءل البعض: كيف سيتصرف الرئيس التونسي مع الوعود التي قطعها أمام الجميع، عندما أعلن أنها ليست ضد الحريات والديمقراطية، وأنه ملتزم بالمهلة الزمنية لتجاوز حالة الاستثناء؟ ما تجدر الإشارة إليه أن سعيّد ليس معزولاً، فهو يستند في تحركه الحالي إلى مساندة المؤسسة العسكرية والأمنية، ومن جهة أخرى يقف إلى جانبه جزء واسع من الرأي العام المحلي. هذا ما يردده الرئيس لجميع المسؤولين الأجانب، الذين اتصلوا به خلال الأيام الماضية. وهو حالياً بصدد كسب المعركة الدبلوماسية التي تحاول "النهضة" استعمالها ضده، لإظهاره على أنه يقود انقلاباً على الديمقراطية. سلاح يبدو أنه بصدد التهاوي نظراً إلى اعتماد الحكومات الغربية، في الملفات الشبيهة، على مدى قدرة الفريق الذي يمسك بدواليب الدولة على ضمان الاستقرار، وحماية مصالح هذه الأطراف، وتجنب ارتكاب انتهاكات فظيعة في مجال حقوق الإنسان.
يمكن القول إن سعيّد كسب الجولة الأولى، وأن خصومه، وتحديداً "النهضة"، لم يعد أمامهم هامش كبير لإحراجه أو منافسته ميدانياً. لقد أسدل الستار على المرحلة السابقة، ودخلت المنظومة الحزبية في أزمة حادة لا يعلم أحد إن كانت قد انتهت بسببها، أو أنها ستبقى في قسم الإنعاش لفترة أخرى قد تطول. صحيح أن هناك انتهاكات وقعت وتقع هذه الأيام، وأن هناك أصواتاً عديدة، حقوقية وغيرها، ترتفع حالياً وتنادي بعدم إصلاح خطأ بأخطاء أكثر فداحة، لكن ذلك وحده غير كافٍ للحيلولة دون إيقاف المنعرج الجديد.