شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة، أواسط نيسان/ إبريل الماضي، هبّة شعبية، انطلاقا من باب العامود في القدس، لتمتد إلى معظم الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1948، وبعض مناطق الضفة الغربية، قبل أن تتدخّل صواريخ "حماس"، وتشن بذريعتها إسرائيل حربا على غزة استمرت 11 يوما. غيّرت تلك الهّبة المشهد الفلسطيني، وتأكّدت مجددا قدرة المقاومة الشعبية، غير المسلحة، على إرباك خطط الاحتلال، وزعزعة عقيدته الأمنية، وقناعات جمهوره السياسية، وقد يؤدي تجددها، وتوسعها، إلى تداعيات تغيير المعادلات؛ فلسطينيا وإقليميا ودوليا.
مثّلت تلك الهبّة لحظة نوعية في التاريخ الفلسطيني الراهن، منذ الانتفاضة الثانية العام 2000، خصوصا بالنسبة لفلسطينيي الأراضي المحتلة العام 1948، الذين تراجع، خلال العقد الأخير، مشروعهم النضالي المشترك، وبرنامجهم السياسي الجماعي، تحت ضربات الضغط المكثّف ليهودية دولة الاحتلال الإسرائيلي، متجاوزا طابعها القومي- الإثني إلى طابع قومي- ديني، بعد أن قمعت إسرائيل أي مطالبة فلسطينية بحقوق مدنية جماعية ذات طابع قومي، بحظرها التنظيمات السياسية الفلسطينية التي تبنت تلك المطالب (التجمع الوطني الديمقراطي)، ولاحقت قيادييها (الدكتور عزمي بشارة)، وبعد تعاظم الأسرلة ممثلة في حالة الاندماج الفردي، بمعزل عن أي مشروع سياسي جماعي، واندماج الحركات السياسية العربية في السياسة الإسرائيلية، وعلى هامش حكوماتها، وعزوف الفلسطينيين عن المشاركة السياسيّة، بعد ارتداد مشروع المواطنة الجماعية لفلسطينيي الـ 48 إلى منافسة سياسية، وأيديولوجية، ومناطقية، احتدمت بين تيارات تراجع معها الخطاب الذي طالما أكد على أن المجتمع الفلسطينيّ جزء من الشعب الفلسطينيّ، وقضيّته. كل ذلك، حدث بالتوازي مع حالة إحباط عامة نجمت عن تردي الأوضاع الاقتصادية، وتفشي الجريمة في المجتمع الفلسطيني، بتشجيع وتسهيل من قوات الاحتلال، وبدا أن مجتمع فلسطينيي الـ 48 يواجه بشكل غير مسبوق أزمة مركّبة؛ هوياتيا وأخلاقيا. جاءت تلك الهبة بوصفها تحدّ من قبل المجتمع الفلسطيني لسياسات التهويد والتهجير القصري، وفي مواجهة أزماته الذاتية.
حرّكت الهبّة الدبلوماسية الدولية، وأجبرت في ظلّ تجدد المواجهة المسلحة، بين "حماس" وإسرائيل، الإدارة الأميركية على العودة إلى الانشغال بملفات الشرق الأوسط مجددا، بعد عزم إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التخفف منها. وبعد انحياز واضح للجانب الإسرائيلي، اضطرت تلك الإدارة لاحقا إلى إبداء موقف أكثر توازنا، والعمل على الضغط لإنهاء الحرب، بعد تنامي الاستياء داخل قيادة الحزب الديمقراطي من وتيرة العمليات العسكرية الإسرائيلية المتصاعدة، وضحاياها من المدنيين، وانتقادات التيار التقدمي في الحزب لانحياز إدارة بايدن لإسرائيل، الأمر الذي أوحى بانقسام وشيك في الأغلبية الضئيلة للحزب في مجلسَي النواب والشيوخ، يهدد أجندات بايدن بخصوص ملفات دولية أخرى. كان لتنامي حركات العدالة العرقية والحقوق المدنية الأميركية، وللمظاهرات غير المسبوقة، كما ونوعا، المؤيدة للفلسطينيين التي جابت شوارع مدن أميركية، دور هام في تلك التحولات داخل الحزب الديمقراطي تجاه القضية الفلسطينية.
فضحت تلك الهبّة سياسة التطهير العرقي الإسرائيلية، وانتهاكاتها المستمرة لحقوق الإنسان الفلسطيني، وأعادت للقضية الفلسطينية حضورها ومكانتها في وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية، لتحصد تعاطفا دوليا واسعا، وبرز الدور الفاعل للجاليات الفلسطينية والعربية في المغترب في التأثير على الرأي العام، وتحشيده في الضغط على الحكومات الغربية لاتخاذ مواقف أكثر صرامة من دولة الاحتلال، واتضحت أهمية إجادة استخدام تقنيات ووسائل الإعلام الجديد والدبلوماسية الرقمية لحسم المعركة الإعلامية رغم محاولات منصات تواصل اجتماعي إعدام المحتوى المناصر للقضية الفلسطينية رقميا، وبدت الحركات الشبابية الفلسطينية العابرة للحدود التي تناضل إلكترونيا من أجل نصرة الحقوق الفلسطينية أكثر مهارة وتنظيما وفاعلية. عربيا، استدعت الهبّة حالة تضامنية شعبية واسعة أعادت للفلسطينيين البعد القومي لقضيتهم والذي بدا قد توارى خلف صفقات التطبيع الرسمية العربية، وتأكد أن تلك القضية لا تزال تحتفظ بمكانتها في وجدان الشعوب العربية وتشكل أحد أولوياتها، حين عزلت المطبّعين وفرضت على المستوى الرسمي العربي إظهار مواقف أكثر تشددا ووضوحا تجاه السياسات الإسرائيلية العنصرية.
كان يوم الأرض عاملا مهما في لفت أنظار منظمة التحرير الفلسطينية لفلسطينيي الـ 48 إلا أن هؤلاء لم يكونوا لوقت طويل غاية في ذاتهم، وانما ورقة ضغط لصالح "معسكر السلام الإسرائيلي" في انتخابات الكنيست. أما اتفاقية أوسلو التي استبدلت "مشرع السلطة" بمشروع "التحرر الوطني" ووضعت قضايا الحل النهائي، خصوصا القدس والعودة، على قائمة الانتظار،
فكانت ذروة تهميش فلسطينيي الـ 48 (ومعهم اللاجئون في الشتات) فأتت تلك الهبّة لتبرهن أن هؤلاء جزء جوهري من الشعب الفلسطيني وقضيته، لا يمكن تجاهله، بعد أن امتلك جيل جديد في القدس، وغيرها، ثقافة مقاومة للاحتلال خارج المنظومة السياسية التقليدية، متمردة على الأسرلة والاندماج الفردي، لتبشر بفضاء جديد لأشكال من المقاومة خارج إطار المنظومة الفصائلية، وبدور مستقبلي يتجاوز احتكار الفصائل للعمل السياسي. وربما يمتدّ هذا الفضاء ليغطي كافة المناطق الفلسطينية مع استمرار حالة الاستعصاء السياسي في الأراضي المحتلة العام 1967، وكسر المزاج السياسي الذي تفرضه السلطة الفلسطينية بعد سنوات من التنسيق الأمني مع الاحتلال.
حتى لحظة كتابة هذه السطور، تبدو الهبّة الفلسطينية في موجتها الأولى آخذة بالانحسار، لكن مِرْجَلَ القدس، وغيرها من مناطق العام 1948، لا يزال يغلي بصراع الهوية، وهناك فرص لجولات مستقبلية من التصعيد، مع استمرار سياسة الاعتقالات التعسفية بحق الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، ومع سير الحكومة الإسرائيلية إلى أقصى اليمين المتطرّف، والتي لا يجدي معها نهج التفاوض الذي تتمسك به السلطة الوطنية الفلسطينية خيارا أحاديا ووحيدا، رغم كل ما فيه من إفلاس سياسي. أيضا، مع هذه الحكومة، فإن تجدد المواجهة العسكرية المفتوحة التي تتفوق فيها التقنية العسكرية الإسرائيلية على صواريخ "حماس" البدائية، المصنعة محليا أو إيرانيا، ستكون مغامرة جديدة غير محسوبة، تؤدي إلى مزيد من الدمار لقطاع غزة، وإلى مزيد من معاناة أهله الذين لا تتوافر لهم أدنى المقومات لحمايتهم من القذائف الإسرائيلية، وتحمّلهم ما لا طاقة لهم به، وتشوّش على المقاومة الشعبية ولا تخدمها، بقدر ما تخدم المصالح الفصائلية والأيديولوجية للحركة الإسلاميّة وداعميها، وقد تزج بالقضية الفلسطينية في سياسة المحاور الإقليمية، واستقطاباتها.
الأهم في هذه الهبّة ما حقّقته فلسطينيا، حين أعادت للعامل الذاتي وزنه النوعي في مواجهة الاحتلال، وقدرته على تغيير قواعد الاشتباك، وفرض مكان المعركة وزمانها، وبرهنت على امتلاك الجماهير الفلسطينية الإرادة اللازمة لقول كلمتها في الصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني، وأظهرت حجم الفجوة بين الجماهير والنخب السياسية الفلسطينية التي تتحمل مسؤولية تعزيز صمود الشعب على أرضه، وتوفير السبل لاستعادة روحه النضالية، ليقول كلمته في مقارعة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. ينبغي على النخب الفلسطينية، منح الفرصة للأجيال الجديدة للسير في خيار المقاومة الشعبية التي أثبتوا قدرتهم على إدارتها بنجاح، مقننين كفاحهم، مجددين أساليبهم، ومحيّدين قدر الإمكان آلة القتل الإسرائيلية المدمّرة. المطلوب من هذه النخب الانتقال من رد الفعل إلى الفعل السياسي المستدام الذي توفّره هذه الهبّة أو الهبّات القادمة حين يتم تحويلها إلى انتفاضة شاملة، على غرار الانتفاضة الفلسطينية الأولى العام 1987، يتم تبنيها استراتيجيةَ نضالٍ وطني تعيد اللحمة الوطنية للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وتتيح لجميع مكونات الشعب الفلسطيني المشاركة في المعركة، والانخراط في أساليبها الجديدة التي توفرها التقنيات الحديثة في الإعلام والاتصال.
يتطلب ذلك تنازل النخب والفصائل الفلسطينية، في غزة والضفة، على رأسها "فتح" و"حماس"، عن مشروع السلطة، والعودة إلى مشروع التحرر الوطني، والانحياز إلى خيار المقاومة الشعبية، التي تحقق المصلحة الوطنية، مهما تعارضت والحسابات الفصائلية والسياسية الضيّقة، وإلا، فالحال ستسير نحو مزيد من اتساع الفجوة ما بين الحركتين، ومن ثم إلى فجوة أكبر ما بين الحركتين من جهة والمقاومة الشعبية، ومن خلفها الجيل الفلسطيني الجديد، من جهة أخرى، مما يعني بقاءنا في حالة التكلس السياسي، نكتفي باجترار أزماتنا الوطنية وتعميقها.