منذ أيار 2021، والأراضي الفلسطينية المحتلة تعيش انتفاضة شبه مستمرة، لم تتميز بقدرتها على الاستمرار والاتساع الذي شهدته مدن فلسطين المحتلة عام 48 في الانتفاضة الأولى عام 1987، ولا الثانية في انتفاضة الأقصى عام 2000، مع باقي مدن الضفة والقدس وغزة والنقب، لكنها تميزت بعدة ميزات أخرى، منها شمولها المناطق المحتلة داخل ما يسمى الخط الأخضر، واكتسابها مزيدا من الزخم والفعالية يوماً بعد يوم، والأهم ما أظهرته من وحدة في مواجهة خطط العدوان المتواصل، فلم تعد الهبة الفلسطينية في أيار من العام الماضي، متعلقة بقضية حي الشيخ جراح في القدس، والتصدي لمحاولات التهجير والاقتلاع للسكان الأصليين، ولا يمكن اعتبارها طفرة سياسية معزولة عن بقية ما يواجهه الشعب الفلسطيني، إن كان في أحياء القدس والمسجد الأقصى، أو النقب والجليل والمثلث والضفة وغزة، وفي كل فلسطين، تتالي الأحداث في شهري نيسان وأيار من العام الماضي، والعدوان على غزة وتصدي المقاومة لهذا العدوان، خطأ حسابات المؤسسة الصهيونية، وأفشل رهانات قديمة وحديثة، عن مواصلة الفصل بين ضحايا المشروع الصهيوني.
الجيل الثالث يستعيد المبادرة
بتعبير واعٍ عن الإرادة الشعبية والوطنية، انطلقت الهبة الفلسطينية لعموم الحركة الوطنية الفلسطينية في عموم الأراضي المحتلة عامي 48 و67، ضد السياسات الإسرائيلية التي تستهدف الوجود الفلسطيني كله بالاقتلاع والتهجير أو الاغتيال والاستيطان والتهويد والأسرلة، وفرض الصفقات والحلول اللاوطنية، وجاءت رداً طبيعياً على سياسة تجاهل الحقوق الوطنية والثابتة للشعب الفلسطيني، التي تجلت في فرض أجندة التطبيع العربي مع إسرائيل رداً على اندلاع الثورات العربية، وإبرام "صفقة القرن" بالاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة "لإسرائيل" ونقل السفارة الأميركية إليها، شكل كل ذلك انتفاضة الكل الفلسطيني، وأكسبها زخماً في الشارعين العربي والدولي، وامتازت بعنفها وبتطور ورقي أشكال المواجهة الشعبية، كما امتازت بتحريكها السياسي لأوسع قطاعات الشعب الفلسطيني بمشاركة الجيل الفلسطيني الثالث من الشباب بعد الانتفاضتين السابقتين، وبلغت ذروتها عند توسيع رقعة العدوان الإسرائيلي على غزة، وتصدي المقاومة الفلسطينية لهذا العدوان وتقديم الشعب الفلسطيني البرهان بالقدرة على التحرك والمواجهة، والتي فاقت كل التقديرات وأربكت كل حسابات المؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، بالإضافة لارتباك السلطة الفلسطينية والقيادات الفلسطينية داخل الخط الأخضر، لأشكال النضال المختلفة التي عبر عنها فلسطينيو الداخل المحتل عام 48، وكانت تجميعاً لعوامل عدة انفجرت دفعة واحدة في مدن المثلث والجليل والنقب، وعمت مدن الضفة الغربية والقدس رداً على الاقتحامات المتكررة للمستوطنين للمسجد الأقصى، ورداً على خطط التهجير لأحياء سلوان وشعفاط والعيسوية والصوانة ووادي الجوز وصور باهر والطور وحي الشيخ جراح بالقدس.
هبة الكل الفلسطيني كشفت عن خللٍ يواجهه العمل السياسي والنضالي الفلسطيني، سواء المتعلق بقياداته المنضوية تحت لجنة المتابعة واللجنة القطرية، بالإضافة لتمثيل القائمة الموحدة والعربية المشتركة في "الكنيست" للأقلية العربية، لم يرتق عملهما السياسي والحزبي لمواكبة ما عبر عنه الجيل الفلسطيني الذي يواجه ما واجهه أسلافهم في معركة نزع القومية والهوية عن وجودهم فوق أرضهم، ومحاصرتهم بالتهميش والفقر والإهمال وتفشي الجريمة المنظمة من قبل المؤسسة الصهيونية لضرب النسيج المجتمعي لأصحاب الأرض الأصليين، مع بروز قيادات سياسية في الداخل الفلسطيني متملقة للمؤسسة الصهيونية، عكس أدائها الضعيف والانتهازي في الحكومة السابقة التي تزعمها بنيامين نتنياهو، وفي الحكومة الحالية برئاسة نفتالي بينت، عن تراجع كبير لتأثير الأحزاب العربية على الشارع الفلسطيني في المناطق المحتلة عام 48 وخصوصا في الهبة الماضية، مقارنة بالأداء السياسي الذي ظهرت عليه تاريخياً، وخصوصاً في يوم الأرض 1976 وانتفاضة الحجارة 87، والأقصى 2000، والتي كان محورها حماية المؤسسة الوطنية للمجتمع الفلسطيني وربطها مع مصير أشقائها في عموم فلسطين.
كل حالة اشتباك مع المشروع الاستعماري الصهيوني تعيد طرح وحدة السردية الفلسطينية للتحرر
غياب الحدود الأولية للتوازن
هذا الربط تنبه له الشارع الفلسطيني، في كل المحطات النضالية التي توقف عندها للرد على سياسات شطبه وإلغائه وقتله ومحاصرته، فكانت الانتفاضة الأولى بعد أقل من عقد على توقيع اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، والانتفاضة الثانية بعد اتفاق أوسلو، وهبة مايو/ أيار 2021 جاءت صفعة لسياسات التطبيع العربي و"صفقة القرن" ولسياسة الغرور الإسرائيلي بالتعاطي مع الشعب الفلسطيني، بعد تخلي بعض النظام الرسمي العربي عن قضية فلسطين، والأهم من كل ذلك استعادت الهبة الفلسطينية فرض قضية الشعب الفلسطيني كقضية تحرر وطني ضد المشروع الاستعماري الصهيوني، ومن حيث الأبعاد شكلت انتفاضة مايو/ أيار 2021 أهم العناوين السياسية لعدم امتثال الشعب الفلسطيني للأمر الواقع الصهيوني، الذي سعت وتسعى كل الحكومات الإسرائيلية إلى فرضه، أو الذي تخلقه على الأرض وتفرضه على الطرف الرسمي الفلسطيني والعربي، بأنماط التسوية المفروضة على السلطة الفلسطينية والقبول بها، أو بنمط التطبيع القائم مع النظام الرسمي العربي، على الرغم من اتضاح الاستراتيجية الصهيونية المعدة سلفاً على أطراف منهزمة لا تملك الحق في الدفاع عن حقوقها، فإن أفضل الشروط التي تحقق لإسرائيل الإرادة المسيطرة، هي الشروط الراهنة عربيا وفلسطينيا بالشكل الرسمي الذي بلغت فيه الحالة العربية والفلسطينية بعد الثورات المضادة في العالم العربي، والتي أنتجت بالضرورة خللاً مضافاً لمجموع الإخفاقات التي أصابت السياسة العربية المخترقة بتطبيع وتحالف عربي مع المؤسسة الصهيونية، وتراجع رسمي فلسطيني عن الميدان، وعن حالة الاشتباك مع الاحتلال المفترض دوامها، لذلك كله من الوهم في الشروط القائمة بالوقائع العربية والفلسطينية الحديث مجدداً عن "التسوية والسلام" بغياب الحدود الأولية من التوازن الذي يخلق إنجازا باستطاعته فرض التنازل على العدو، وهذا يتطلب وجود قيادة سياسية عربية وفلسطينية بمقدورها الاستجابة لتطلعات الشعب الفلسطيني وصد العدوان عنه، خصوصاً وأن قضية فلسطين هي جزء من عناصر الوعي العربي التاريخي، وعنصر من عناصر التحرر من آخر مشروع استعماري كولونيالي في العصر الحديث.
سردية فلسطينية واحدة
الاقتراب من تشخيص الهبة الفلسطينية بعد عام من اندلاعها، وتجدد حالة الاشتباك مع الاحتلال على مدار الأشهر الماضية في مدن الداخل الفلسطيني، رداً على سياسة التهويد واقتحام المسجد الأقصى وعلى خطط الاستيطان والحصار والعدوان، تجسد أيضاً بحالة الغضب التي أعقبت عملية إعدام جنود الاحتلال الإعلامية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، وما أظهرته من تذكير بوحدة الشارع الفلسطيني التي تجلت بالغضب العام في الشارع الفلسطيني من سياسة الاحتلال وممارساته العدوانية وبالرفض العربي والدولي لسياسات المؤسسة الاستعمارية الصهيونية، يستدعيان عدم الاكتفاء برجم الاحتلال بالتراكيب اللغوية الفلسطينية التي تصدر من رام الله رداً على كل عدوان، بل الدخول في الحياة الفلسطينية كلها من أجل الدفاع عن المصالح والحقوق الوطنية، لا النظر للانتفاضات والهبات على أنها فرص لصفقات جديدة بعيدة عن الأخلاق والمسؤولية الوطنية، كما آلت إليه الإنتفاضات السابقة وأدت إلى سلطة فلسطينية بشكلها الحالي من البؤس في التعاون والتنسيق الأمني مع الاحتلال الذي أصبح ذريعة سخيفة لأنظمة التطبيع العربي مع أعداء الشعب الفلسطيني.
ومن المهم أيضاً الإقرار بأن كل هبة فلسطينية، وكل حالة اشتباك مع المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين، يعيد طرح وحدة السردية الفلسطينية وجماعية الطموح الفلسطيني للتحرر من الاحتلال، برغم حالة التشظي السياسي والجغرافي التي خلقها المشروع الاستعماري في فلسطين، وفرضها على الشعب الفلسطيني بعد قرن من الصراع، بأن محاولات تذويب الهوية الوطنية وطمسها، والتنكيل بالفلسطينيين سواء بالداخل الفلسطيني عام 48، وقمعهم المباشر بقوانين الفصل العنصري، أو حصارهم والاستيلاء على ما تبقى من أرضهم في المناطق المحتلة عام 67، واستمرار خنق غزة وضرب مقاومتها بشكل دائم، لم ولن يمنع تجدد الاشتباك مع المشروع الصهيوني، اشتباك لم يغادر نضال الفلسطينيين منذ بداية الهجمة الاستعمارية قبل أكثر من قرن.
أخيراً انسداد الأفق واشتداد الهجمة على الشعب الفلسطيني الأعزل إلا من إرادته، يقاسان بأمر واحد: أن أشكال النضال الصحيحية، هي في محاولة تغيير الواقع المرير، وأن التاريخ الفلسطيني المثقل بالدم والمآسي والنكبات ليس حدثاً عارضاً أو خطأ تاريخياً، بل تهيؤ مستمر لمواصلة الصراع ببنية جديدة، وطاقات جديدة ورؤية شاملة، وما يراه المستسلم للقدر الصهيوني ضعفاً، يراه المشتبك معه نقاط قوة لها أشكال وتجليات صدام جديدة لم يألفها العدو ولا حلفاؤه، وأن التشويه الذي تعرضت له القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، بهدف دفعه لحالة من فقدان الثقة بالذات وبالمستقبل، وبأنه عاجز ولا يملك مقومات الصمود والنهوض والمقاومة، فشلت، وتلك مهام الهبات والانتفاضات الفلسطينية التي قلبت كثيرا من معادلات التسوية التي جرى اختبار تنفيذها حتى الآن.