شهدت مدينة جلال أباد، عاصمة ولاية ننغرهار، شرقي أفغانستان، تفجيرات، يومي السبت والأحد الماضيين، سقط فيها عدد من المدنيين ومن عناصر حركة طالبان، بين قتلى وجرحى. وتُعد تلك التفجيرات الأعنف في حكم الحركة، بعد الهجوم الانتحاري الدموي في مطار كابول الدولي، في 26 أغسطس/آب الماضي، الذي أودى بحياة أكثر من 182 شخصاً، بينهم 13 أميركياً، وجرح أكثر من 150 آخرين. يأتي تبنّي تنظيم "داعش"، الخصم الأكبر لطالبان حالياً في أفغانستان باعتقاد مراقبين، مسؤولية هجمات ننغرهار، معلناً مقتل أكثر من 30 عنصراً من طالبان، ليعزز من مؤشرات اقتراب المعركة بين الحركة والتنظيم في الولاية. مع العلم أن الولاية، وتحديداً مديرية أتشين، شكلت المركز الذي اختاره التنظيم عندما قرر تأسيس فرع "ولاية خراسان" في عام 2015. وجاء في بيانين منفصلين نشرا أول من أمس الأحد عبر وكالة أعماق التابعة للتنظيم، أن "جنود الخلافة" فجروا أربع عبوات ناسفة استهدفت آليات "لمليشيا طالبان المرتدة" في جلال أباد، ما أسفر عن سقوط العشرات من عناصر الحركة بين قتيل وجريح بحسب التنظيم. من جهته، حمّل وكيل وزارة الإعلام في الحكومة المؤقتة، ذبيح الله مجاهد، أمس الإثنين، تنظيم داعش مسؤولية الاعتداءات، مشيراً إلى أنّ قوات الحكومة، التي شكلتها طالبان أخيراً، أجرت تمشيطاً في أطراف مدينة جلال أباد بحثاً عن المنفذين.
وبالنظر إلى ما شهدته الساحات الأفغانية، تحديداً المناطق الشرقية من الحرب خلال الأعوام الماضية، لا تُعتبر الانفجارات الأخيرة في جلال أباد أسوأ ما مرّ على المنطقة، لكن حدوثها في ظلّ حكم طالبان، بعد إعلان الأخيرة انتهاء الحرب رسمياً في البلاد، يُحبط آمال الأفغان في طي صفحة الاقتتال. ونظراً لأهمية الولاية اجتماعياً وتجارياً وجغرافياً، فإنّ انطلاق العمليات منها ضد طالبان ليس مفاجئاً، بل يرى مراقبون أنه مخطط مدروس، لأن زعزعة الاستقرار في هذه الولاية، سيخلق تحدياً كبيراً للحركة التي تواجه العديد من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. وتكمن أهمية الولاية في ربطها الشرق الأفغاني بالعاصمة كابول من جهة وبمناطق الشمال الغربي في باكستان من جهة ثانية. وتُعتبر نقطة ربط أساسية بين قبائل المنطقة، تحديداً تلك القاطنة في جنوب أفغانستان كولاية بكتيا وبكتيكا وخوست، وفي شرقها كلغمان ونورستان وكنر، بسبب الحدود المشتركة الطويلة والممتدة بطول مئات الكيلومترات مع باكستان. وتمنح هذه المعطيات ميزة هامة لتلك الولايات، وبالتالي فإن انطلاق العمليات ضد طالبان من ننغرهار، وفق خطة مدروسة، قد يجعل طالبان في المستقبل أمام تحدٍ أمني كبير، على الأقلّ في شرق أفغانستان وجنوبها.
تتميّز ننغرهار بوجود جبال تورا بورا فيها
وتكمن أهمية هذه الولاية أيضاً في جبالها، المعروفة باسم الجبل الأبيض، وجبال تورا بورا التي تعني "الغبار الأسود" باللغة العربية، وهي جبال مليئة بالكهوف شديدة التعقيد التي تربط ننغرهار شرقاً بممر خيبر، وبالولايات الجنوبية. ولهذا السبب لم تغب ولاية ننغرهار عن المشهد الأفغاني خلال العقود الأربعة الماضية، وبقيت شاهدة على الكثير من الأحداث المهمة في التاريخ الأفغاني المعاصر.
بدأت قصة ننغرهار في الحروب الأفغانية بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان (1979 ـ 1989)، بعد أن كانت جلال أباد من أهم خمس مدن أفغانية في التجارة والاقتصاد والتعليم والثقافة. وقام عالم الدين المشهور، زعيم الحزب الإسلامي، المولوي يونس خالص، بالجهاد المسلح ضد السوفييت، بعد أن ترك عمله في كابول وصعد مع عدد من أبناء قريته إلى جبال تورا بورا وبدأ القتال بدعم من القبائل، ليكون حزبه من التنظيمات السبعة التي كانت تقاتل السوفييت، ومعظم عناصر الحزب من ننغرهار. وينتمي خالص إلى قبائل خيربوني، ويتحدر من منطقة توتو القريبة من تورا بورا في مديرية خوجياني. وبعد قتاله لسنوات، انتقل خالص إلى باكستان.
هكذا بقيت ولاية ننغرهار على مدى سنوات الغزو السوفييتي لأفغانستان من أهم مناطق الصراع المسلح بين المجاهدين الأفغان وبين القوات السوفييتية والحكومة المدعومة من قبلها. كما كانت الولاية طيلة تلك الفترة موطن المجاهدين العرب الذين أتوا بالمئات إلى أفغانستان للمشاركة في الجهاد، وكانت جبهة سبينغهار التابعة للمجاهدين العرب من أهم جبهات القتال في شرق أفغانستان، كما كان لهم حضور كبير في جبال تورا بورا وكهوفها.
وبعد سقوط حكومة محمد نجيب الله، الملقّب بـ"الدكتور" بيد المجاهدين في عام 1992، بدأت الحروب الأهلية في أفغانستان، لكن ننغرهار ظلّت بمنأى عنها بسبب سياسة خالص، الذي لم يدعم أي طرف كان يقاتل للسيطرة على الحكم في كابول. ومع ظهور طالبان كان خالص من أوائل الداعمين للحركة بحكم الرابط الأيديولوجي، لانتمائه إلى الفكر الديوبندي (نسبة لتجمّع علماء دين في مدينة ديوبند الهندية) الحنفي، كما كان الحال بالنسبة لطالبان.
بعد سقوط حكم طالبان على يد القوات الأميركية في عام 2001 عادت ولاية ننغرهار إلى الواجهة مجدداً، وعلى الأثر بدأ الأميركيون البحث عن زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن، الذي لجأ مع معظم المقاتلين الأجانب، وبينهم العرب والشيشان وغيرهم، إلى كهوف تورا بورا، بعد سيطرت القوات الأميركية على كابول. وحينها وقعت معركة تورا بورا الشهيرة (بين 6 ديسمبر/كانون الأول 2001 و17 منه) التي أدت إلى مقتل عشرات من المقاتلين العرب والأجانب بشكل عام. لكنّ بن لادن وعدداً كبيراً من مقاتلي "القاعدة" تمكنوا من الهروب إلى باكستان عبر جبال كنر. وكان للمجاهدين الأفغان، تحديداً من أنصار وقيادات حزب المولوي يونس خالص، دور كبير في خروج بن لادن والمقاتلين العرب.
انتهت قصة تورا بورا في ننغرهار مع المقاتلين العرب، بعد أن دمرت قوات المارينز الأميركية كل الكهوف الموجودة فيها، وفتشت جميع المناطق المجاورة لها، بحثاً عن مقاتلي "القاعدة". وتضررت القبائل بشكل كبير بعد المعركة، إذ أن معظمها وقف إلى جانب المجاهدين وساعدتهم في خروجهم آمنين من محاصرة القوات الأميركية، وهو ما دفع المارينز إلى استهداف العديد من المنازل وأسر العشرات من أبناء القبائل بتهمة "مساعدة تنظيم القاعدة".
وحول تلك الحقبة، يقول الزعيم القبلي زر محمد، وهو من سكان ميلوه في منطقة تورا بورا، لـ"العربي الجديد"، إن هذه القبائل بطبيعتها القبلية وحبها للدين، وقفت دائماً مع كل من رفع علم الجهاد، ودفعت أثماناً باهظة في هذا السبيل. ويضيف: شكّلت تلك المنطقة شرارة الحرب الأولى ضد السوفييت، ثم كانت تورا بورا ومناطق أخرى في ننغرهار، مثل مديرية شبرهار، ومديرية سبينغهار، مركزاً للمجاهدين العرب إبان الغزو السوفييتي، وحتى بعد سقوط حكومة طالبان والحرب الأميركية ضد الحركة. وينوّه إلى معرفته بمئات الأسر، التي سقط أبناؤها بين قتيل وأسير ومشرّد، بسبب الاصطفاف إلى جانب الجهاديين.
وبعد هروب بن لادن إلى باكستان، هدأت الأوضاع في ننغرهار، بل بات أمن الولاية أفضل مقارنة مع ولايات أخرى، على الرغم من استمرار الاشتباكات بين القوات الأميركية والقوات الأفغانية من جهة وبين طالبان من جهة ثانية، خصوصاً في مديريات خوجياني وبشير أو غام وشينوار وشبرهار، لكن وتيرتها كانت أقلّ حدة مقارنة مع المناطق الأخرى.
وفي عام 2015 عندما تم تأسيس فرع "خراسان" التابع لتنظيم "داعش"، للعمل في أفغانستان وباكستان، كانت ولاية ننغرهار مركز التنظيم، تحديداً مديرية أتشين. وكان يعتبرها مسلحو التنظيم مقراً للخلافة ويهاجرون إليها من مناطق مختلفة من باكستان وأفغانستان. في البداية لم يكن التنظيم يستهدف أي جهة، لكن بعد نموّ قوته في أتشين ومناطق مجاورة، سيطر على جبال تورا بورا، وعلى مناطق في مديرية خوجياني ومديرية بشير أو غام، وترتبط تلك المناطق جغرافياً بباكستان. وباشر "داعش" استهداف القبائل المعارضة له، قاضياً على العشرات من زعمائها، ما أدى إلى نزوح القبائل من الجبال، قبل أن تنظم قبائل خوجياني صفوفها وتقاتل التنظيم وتُبعده عن مديريتها، لكنه استمرّ في جبال تورا بورا ومنطقة أتشين.
وخلال وجوده في ننغرهار، خاض التنظيم معارك ضارية مع طالبان في مديريات عدة، أبرزها مديرية شبرهار، القريبة من جلال أباد. وهو ما دفع طالبان إلى اتهام الحكومة الأفغانية والقوات الدولية بمساعدة "داعش" وإيصال المساعدات له جواً، لكن الطرفين نفيا هذا الأمر.
جعل تنظيم "خراسان" التابع لـ"داعش" من ننغرهار مقراً له
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2019 تمكنت القوات الأفغانية، مدعومة من القوات الأميركية، من القضاء على مقرّ "خراسان" في أتشين، علماً أن القوات الأميركية قصفت المنطقة في 13 إبريل/نيسان 2017 بأكبر قنبلة غير نووية معروفة باسم "أم القنابل"، وتزن 9800 كيلوغرام. حينها، أعلنت الحكومة الأفغانية القضاء على تنظيم "داعش" بشكل كامل، لكنه استمرّ بعملياته في المناطق الجبلية، مهاجماً طالبان والقوات الأفغانية بين حين وآخر. كما كانت الاستهدافات والاغتيالات في صفوف قيادات طالبان ومسؤولين في الحكومة، من أهم عمليات التنظيم، خصوصاً داخل مدينة جلال أباد.
وبعد اتفاق طالبان مع الولايات المتحدة، في 29 فبراير/شباط 2020، اشتدّ العداء بين طالبان و"داعش"، حتى أن الأخير بدأ بوصف الحركة بأنها "وجه آخر للقوات الأميركية" وأن "القوات الأميركية تخرج من أفغانستان لتنوب عنها طالبان"، معتبراً أن هذا الأمر كافٍ لمحاربة الحركة. وعمل "خراسان" على استهداف طالبان بصورة متصاعدة، بدءاً من ننغرهار، وصولاً إلى مطار كابول الدولي.
وحول بدء "داعش" عملياته ضد طالبان من ولاية ننغرهار، يقول المحلل الأمني محمد إسماعيل وزيري، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، إن "داعش" اختار ننغرهار لنفوذه فيها، ولأن موقع الولاية الجغرافي يساعد التنظيم. كما يمتلك التنظيم حزاماً قبلياً، أساسه القبائل الباكستانية في مديرية خيبر القبلية المحاذية لننغرهار، التي يتمركز فيها قوة لتنظيم "لشكر الإسلام" الباكستاني المؤيد لـ"داعش".
ويستبعد وزيري أن يقوم "داعش" بأعمال كبيرة في وجه طالبان؛ لأن هناك الكثير من العوامل التي تساعد الحركة في القضاء عليه، أبرزها أن قبائل ننغرهار هي قبائل سنية حنفية متشددة، والفكر الداعشي غير مرغوب في أوساطها. ويشير إلى أنه لهذا السبب أخلى "داعش" مناطق نفوذه من القبائل. ويؤكد أنه إذا ساندت طالبان قبائل المنطقة بحزم، حينها لن يتمكن "داعش" من فعل شيء. ويحذّر من أنه في السابق تركت الحكومة الأفغانية القبائل وحدها في وجه "داعش"، فتكبّدت خسائر كبيرة بسبب هذا الخيار.
لكنه في الوقت نفسه يؤكد أن التنظيم لا يمكنه السيطرة على المناطق جغرافياً، غير أنه باستطاعته إرباك الأمن من خلال القيام بالتفجيرات وأعمال العنف، على غرار ما حصل يومي السبت والأحد الماضيين. ويقول إن بعض الأجهزة الاستخباراتية في المنطقة مستاءة مما حدث في أفغانستان ومن سيطرة طالبان على كامل التراب الأفغاني، بالتالي فإن "داعش" خير بطاقة في يدها لتحركها ضد طالبان، وننغرهار أفضل ساحة للعب تلك البطاقة.