حرص رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، خلال كلمته أمام المجلس المركزي الفلسطيني في دورته الاستثنائية في رام الله، على تكريس انطباع بأن المجلس سيتخذ في هذه الدورة جملة من القرارات التأسيسية في كل ما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل وأميركا وحركة "حماس". وقد تحدث عباس بصراحة عن ضرورة أن يخرج المجلس في دورته بقرارات، لا تصلح فقط لمواجهة إسرائيل والولايات المتحدة و"حماس"، بل إنه توعد بأن يحرص المجلس على تطبيق القرارات التي سبق أن اتخذها ضد الأطراف الثلاثة. ولعل العبارة التي تضمنتها كلمة عباس، وتُعد الأكثر تعبيراً عن محاولته تكريس هذا الانطباع، هي تأكيده أنه "آن الأوان لتنفيذ قرارات المجلس (المركزي) بخصوص أميركا وإسرائيل وحماس".
عباس عزا لهجته المتشددة ضد إسرائيل إلى سياساتها الاستيطانية ورفضها الاستجابة لمتطلبات التسوية، في حين بدا مجدداً غاضباً على الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بسبب خطته للتسوية، التي سمّاها "صفقة القرن". وفي المقابل، لمّح عباس إلى أن هناك سلسلة من الإجراءات العقابية الجديدة ضد قطاع غزة، مبرراً ذلك بتأييد "حماس" فكرةَ "الدولة في حدود مؤقتة"، ناهيك بتلميحاته إلى أن الحركة تتعاون مع "صفقة القرن". لكن عند اختبار سلوك عباس والسياسات التي ينتهجها ويمليها على السلطة، نجد أنه من ناحية عملية حرص على تعطيل كل القرارات التي سبق أن اتخذها المجلس المركزي للرد على سلوك إسرائيل والولايات المتحدة. فقد سبق للمجلس المركزي، خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة وفي دورتين، أن أصدر توصيات واضحة وصريحة بوقف التعاون الأمني مع إسرائيل وإعادة النظر في العلاقة معها وإعادة تقييم كل الاتفاقات الموقعة مع تل أبيب، رداً على سياسات التهويد والاستيطان وتنكر حكومة بنيامين نتنياهو لمتطلبات تسوية الصراع، ناهيك بأن المجلس كان أصدر قراراً بوقف كل أشكال التواصل مع الولايات المتحدة رداً على قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة.
لكن عباس لم يحرص عملياً فقط على تجاهل توصيات المجلس المركزي بشأن التعاطي مع إسرائيل، بل إنه خرج عن طوره لطمأنة حكومة اليمين المتطرف بأن يحرص على ضبط الأمور في الضفة الغربية بحيث لا يبرز أي تحدٍ يمكن أن يهدد قدرة هذه الحكومة على المضي بسياساتها الاستيطانية. ويعكف عباس، وبشكل تظاهري وفي أوقات متقاربة، على استضافة نخب سياسية وإعلامية وثقافية إسرائيلية لكي تتحول هذه اللقاءات إلى تظاهرات يؤكد فيها التزامه بالتعاون الأمني مع الاحتلال. ويحرص على لفت أنظار ضيوفه الإسرائيليين، إلى أنه يصدر تعليمات لقادة أجهزته الأمنية بعقد لقاءات يومية مع نظرائهم الإسرائيليين لتوثيق التعاون الأمني، الذي يهدف بشكل أساس إلى تجفيف بيئة المقاومة، التي تمثل مصدر التهديد الأبرز للمشروع الاستيطاني. ليس هذا فحسب، بل إنه في الوقت الذي يؤكد عباس للإسرائيليين أن نتنياهو يرفض عقد لقاءات معه، فإنه يحرص على عقد لقاء شهري مع مدير جهاز الاستخبارات العامة "الشاباك"، نداف أرغمان، وهو الجهاز الذي يتولى بشكل رئيس مهمة التصدي للمقاومة الفلسطينية وتجفيف منابعها. المفارقة، أن حرص عباس على إبراز حماسه للتعاون الأمني يأتي في ظل حملة انتقادات كبيرة تشنها بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية ضد حكومة نتنياهو و"الشاباك" بسبب التساهل مع التشكيلات الإرهابية اليهودية التي تستهدف الفلسطينيين في الضفة الغربية. ويكفي المرء أن يستمع لمحطات الإذاعة المحلية التي تبث من مدينة الخليل، ليتابع حوادث الاعتداء التي ينفذها المستوطنون هناك بقيادة القيادي في حركة "كاخ" الإرهابية، باروخ مرزيل، الذي أعلن أخيراً أنه سيتنافس على رأس قائمة في انتخابات الكنيست المقبلة.
وفي ما يتعلق بقرار عباس الظاهري وقف التواصل مع الإدارة الأميركية، فإنه أمر لا يمكن تصديقه، إذ إن عباس جاهر واعترف، في لقاء عقد مع مجموعة من الساسة الإسرائيليين أخيراً، بأنه يستقبل بين الحين والآخر مسؤولين في وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية "سي آي إيه"، إلى جانب أن مدير الاستخبارات في السلطة، ماجد فرج، زار الولايات المتحدة بعد قرار وقف الاتصالات مع واشنطن. واللافت أن إدارة ترامب هي التي واصلت اتخاذ القرارات العملية ضد السلطة والشعب الفلسطينيَين، إذ إنه إلى جانب طرد ممثل منظمة التحرير الفلسطينية من واشنطن، فقد أوقفت الولايات المتحدة تقديم الدعم المالي لوكالة "أونروا"، وجمدت كل برامج المساعدات الأخرى، باستثناء تلك الموجهة لأجهزة السلطة الأمنية بهدف تشجيعها على مواصلة التعاون مع جيش واستخبارات الاحتلال. وفي المقابل، وفي ما يتعلق بغزة وحركة "حماس"، فإن العكس يحدث تماماً، إذ إن عباس لم يرم توصيات المجلس الوطني، في جلسته الأخيرة، بإلغاء كل الإجراءات العقابية التي أصدرها الرئيس الفلسطيني ضد غزة، فحسب، بل إنه يهدد بمجموعة عقوبات أكبر وأكثر تأثيراً في الواقع الاقتصادي، وهو ما لمّح إليه بشكل واضح في كلمته ليل أول من أمس. من هنا، فإنه وبالاستناد إلى تجربة الماضي ومراقبة سلوك عباس، يتوجب على غزة والسكان فيها الشعور بمزيد من القلق من قرارات عباس المقبلة.