يجد وزراء دفاع حلف شمال الأطلسي (ناتو) المجتمعين في ريغا، عاصمة لاتفيا، حتى يوم غد الخميس، أنفسهم في مواجهة مخاطر انزلاق التوتر والتحشيد العسكري حول أوكرانيا إلى حرب ساخنة.
فالأوكرانيون يأخذون بجدية احتمال اجتياح الجزء الشرقي من بلدهم بوساطة حوالى 114 ألف جندي روسي منتشرين من شبه جزيرة القرم جنوباً إلى الشرق والشمال من جهة بيلاروسيا.
وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، عبّر الاثنين الماضي، قبل يوم من انطلاق اجتماعات حلف شمال الأطلسي (بدأت أمس وتستمر حتى غد الخميس)، عن قلق بلاده من إمكانية استخدام روسيا للقوة "في أسوأ الحالات" لتحريك حدود أوروبا، "كما فعلت في جورجيا عام 2008، وفي وأوكرانيا 2014". وحذّر الأمين العام للحلف الغربي، ينس ستولتنبيرغ، قبيل الاجتماع، من استمرار موسكو بقرع طبول الحرب.
الغرب يبدو "حازماً" في إشاراته، خلال الأسابيع الماضية، وخاصة الأميركيين والبريطانيين، وبعض مؤيديهم في أوروبا، إلى أنه لن يُسمح لروسيا تحت أي ظرف بالتدخل عسكرياً في أوكرانيا، وهو ما يرفع الثقة الأوكرانية، التي كانت غائبة، بشأن الاعتماد على الغرب في السابق.
ضغوط روسية على "ناتو"
ثمة مراقبون ومحللون في الغرب لا يتفقون مع الرأي القائل إن ثمة غزواً روسياً وشيكاً، وإن المسألة برمتها تبدو في إطار رغبة روسية في التفاوض تحت ضجيج السلاح. هؤلاء يرون التصلب الغربي على خلفية تقدير الأثمان الفادحة التي يمكن أن تتكبدها موسكو في غزوها المفترض لأوكرانيا. ورغم نفي موسكو، كما هي العادة، للتحشيد العسكري، إلا أن رسائلها لا تخطئ وجهتها نحو حلف شمال الأطلسي.
فمقابل تقديرات استخبارية عن "هجوم روسي" وشيك في يناير/كانون الثاني أو فبراير/شباط القادمين، كما جاء في تقرير لموقع "ميلاتاري تايمز"، فإن بعض متابعي التحشيد الروسي يرون أن الأمر لن يتجاوز تفاوضاً ساخناً يوصل إلى حلف شمال الأطلسي، المجتمعين في عاصمة ليتوانيا حتى يوم غد الخميس، رسالة عن "الخطوط الحمراء" الروسية، التي لم تخفها وكالة "تاس" الروسية، بشأن التهديدات الناجمة عن تقارب كييف مع الحلف.
بالنسبة إلى روسيا، وريثة خريطة انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية السابقة، فإن توسيع الحلف لوجوده في جوارها يعتبر "تجاوزاً للخطوط الحمراء". وأوكرانيا تمثل خطا أحمرا يختلف عن بعض نواحي دول شرق القارة والبلطيق، لما يشكله، في قراءة الروس، اقتراب الوجود الغربي من الطريق نحو موسكو من تهديد استراتيجي.
تبحث موسكو في سياق تلك السياسات عن تحريك اتفاقية مينسك الثانية من عام 2015 برعاية فرنسية-ألمانية، التي ضمنت وقف إطلاق نار، بهدف التوصل إلى "ضمانات طويلة الأجل" للمصالح الروسية في أوكرانيا، وهو ما أعاد تأكيده الرئيس الروسي بوتين الخميس الماضي.
أعلن البريطانيون عن استعدادهم لإرسال 600 من القوات الخاصة والمظليين، وذهبت حتى السويد، غير العضو في الحلف، لإبداء دعم عسكري لأوكرانيا، في سياق غربي أوسع.
في الاستراتيجية المتبعة من الكرملين، بتسخين متكرر عسكرياً، وقرع طبول الحرب أخيراً، ثمة مراهنة على مقايضة ضمانات تحويل أوكرانيا إلى نظام فيدرالي، لقطع الطريق على استعادة كييف سلطتها على "دونيتسك" و"لوغانسك"، وبالتالي منع البلد من الذهاب إلى عضوية الحلف الغربي.
التصريحات والتحركات الروسية، بهذا الخصوص، في تزايد منذ 2019، إذ بقدوم الرئيس الأوكراني الحالي، فولوديمير سيلينسكي، الذي يبدو أنه لم ينصَع لجرّه نحو تحالف استراتيجي مع موسكو، بات الجانبان في مواجهة مستمرة مختلفة الحدة. فسيلينسكي لم يُخفِ، في مواجهة سابقة مع الانفصاليين، رغبته في استعادة الجيبين شرقيّ البلاد. وخطوات وتصريحات كييف أوقدت على ما يبدو مخاوف الكرملين، وخصوصاً مع زيادة الثقة عند كييف بعد تجربة أذربيجان باستعادة ناغورنو كراباخ من أرمينيا. فرغم احتجاج موسكو وامتعاضها من وصول الطائرات المسيَّرة من تركيا، فقد استُخدِمَت في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وبإعلان متفاخر من سيلينسكي نفسه وتصريحه بضرورة سيطرة بلده على المناطق الانفصالية.
تغير في نهج التفاوض بالقوة
التحدي الروسي الذي يبدو محسوباً، لأسباب عسكرية واقتصادية في مواجهة الغرب، يقرأه ويناقشه حلف شمال الأطلسي باعتباره محاولة روسية لإجراء مفاوضات تحت ضغط العسكرة.
وعلى ما يبدو، إن موسكو قلقة من تغير "نهج ميركل" (نسبة إلى طريقة تعامل المستشارة الألمانية السابقة، أنغيلا ميركل) منذ اتفاقية مينسك الثانية، التي أخذ نهجها القلق الروسي بالاعتبار.
فحديث الروس عن "عدوانية" حلف شمال الأطلسي، وتوسعه أكثر نحو أراضٍ جديدة، يأتي على خلفية سياسة المواجهة التي يبديها الحلف في تصلب مواقفه من مناورات موسكو. والمجتمعون في ريغا يأخذون بالاعتبار أن هدف التحركات العسكرية الروسية انتزاع اعتراف غربي بخطوط موسكو الحمراء.
في ردوده على خطوات وتصريحات الكرملين بشأن الخطوط الحمراء يأخذ الغرب بالاعتبار ألا تذهب الأمور نحو عسكرة أكثر في أوكرانيا
لم تعد الوعود الغربية التي خرجت في مواجهة المواقف الروسية بتكثيف دعم كييف، بعيدة عن الاجتماع، فقد أعلن البريطانيون استعدادهم لإرسال 600 من القوات الخاصة والمظليين، وذهبت حتى السويد، غير العضو في الحلف، لإبداء دعم عسكري لأوكرانيا، في سياق غربي أوسع.
وفي تقارير غربية مختلفة، بما في ذلك أميركية، يبدو الغرب ذاهباً إلى اللعب على حافة الصدام المنضبط مع روسيا. وأخيراً، نقلت شبكة "سي أن أن" الأميركية إمكانية نشر واشنطن صواريخ "ستينغر" و"جافلين" المضادة للطائرات والدبابات الروسية، وأن البنتاغون يضغط لإرسال طائرات هليكوبتر هجومية لأوكرانيا، كان مخططاً إرسالها إلى أفغانستان.
بعبارة أخرى، إن الغرب في ردوده على خطوات الكرملين وتصريحاته بشأن الخطوط الحمراء يأخذ بالاعتبار ألا تذهب الأمور نحو عسكرة أكثر في أوكرانيا. فرغم أن بعض المحللين والمراقبين الغربيين لا يرون سهولة في تنفيذ بوتين لهجومه المفترض مع مطلع 2022، بسبب ما يمكن أن يشكله ذلك من مستنقع خطير له شخصياً ولبلده في مواجهة الغرب، إلا أن حلف شمال الأطلسي يضع بالاعتبار جدية توتر الوضع، واحتمالية خروجه عن السيطرة واندفاع الرئيس الأوكراني، سيلينسكي، نحو تصرفات عسكرية على الأرض بالاعتماد على فهم أن الغرب يدعم بلده بلا حدود، لتنزلق لعبة استعراض العضلات العسكرية إلى أبعد من استدعاء ضمانات من حلف شمال الأطلسي لموسكو بالبقاء بعيداً عن كييف.