بالنهاية، فرضت استباحة دم أهل غزة نفسها على المشهد في واشنطن. تعاظم النزف، ومعه موجة الاحتجاجات والتظاهرات في العالم، ومنه الساحة الأميركية، وخصوصاً جامعاتها، طغى في الأيام الأخيرة على معزوفة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". الحديث عن محنة المدنيين والنزوح وانهيار النظام الصحي في القطاع وغيره من جوانب الوضع الانساني، احتل العناوين والردود في معظم المداولات الإعلامية، وحتى السياسية، إذ لم تعد هناك إمكانية لتجاهله.
أرقام الضحايا التي فاقت العشرة آلاف، 40% منهم أطفال، بقيت الإدارة تضع حولها علامة استفهام، بزعم "غياب مرجعية موثوقة" لتأكيدها، لكنها عادت واعتمدتها، بل لم تستبعد أن يكون العدد أكبر.
بربارة ليف، مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أعربت عن اعتقادها خلال جلسة مع لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب يوم الأربعاء الماضي أن "الأرقام قد تكون أعلى". اعترافها جاء في سياق تعليقات بدت وكأن فظائع الحرب قد أخرجت الكثير من المكتوم إلى المحكي.
ففي أكثر من مناسبة، تردد أن الرد العسكري الإسرائيلي كان "مبالغاً فيه"، وأن واشنطن "تخلت عن نفوذها" في كبح اسرائيل، مع تساؤلات صحافية عمّا إذا كان في الأمر "جرائم حرب؟" وعن ضرورة الهدنة واحتمالات وقف إطلاق النار، كذلك عن كيفية استخدام إسرائيل للسلاح الأميركي، وما إذا كانت تتقيد بوجوب حماية المدنيين، كما جاء في الكتاب الذي رفعه 26 من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، ومطالبتهم إياه بتزويد مجلس الشيوخ بمعلومات في هذا الخصوص.
ويبدو أن ذلك ساهم في الضغوط لإقرار الهدنة وصدور تسريبات عن انزعاج البيت الأبيض من إفراط إسرائيل في تطبيق قاعدة "الأولوية للأهداف وليس للأضرار التي قد تنجم عن ضربها"، وما أدت إليه من مجازر في صفوف المدنيين، وبالتالي من عزلة دولية لواشنطن.
وفي الاعتقاد أنه بالإضافة إلى ذلك، انطوى عدم الارتياح هذا على خشية من وجود نية لإخراج الوضع عن السيطرة. وللطمأنة عشية القمة العربية – الإسلامية التي انعقدت أمس السبت في المملكة العربية السعودية، تولى الوزير أنتوني بلينكن خلال مؤتمر صحافي في نيودلهي أول أمس الجمعة، عملية تسويق لموقف "ترضية" للفلسطينيين عن "السلام" الموعود بعد الحرب.
لكن قراءة ما قاله لا تبشر بأكثر من سلام موهوم كالعادة، إذ أشار إلى عزم الإدارة على القيام "بمحاولة إرساء بعض المبادئ الأساسية التي من شأنها أن ترشدنا في جهودنا، ومن ضمنها رفض التهجير القسري والمسّ بمساحة أراضي غزة". ويأتي هذا حسب شرحه "في إطار الحاجة لنحاول ونرى كيف نعثر على أسس حقيقية لسلام دائم"! وعد أشبه بـ"بيع سمك ببحره". فقد نسي الوزير أو تناسى أن الضوء الأخضر المفتوح الذي أعطته الإدارة لنتنياهو، أدى إلى انفلات إسرائيل الدموي، الذي تتحرك الآن لضبطه تخوفاً من تداعياته الأوسع. فقد نقلت نيويورك تايمز عن مسؤولين كبار قولهم إن "إسرائيل لديها وقت محدد" للقيام بعملياتها العسكرية. كلام جديد ينطوي على محاولة ضبط المعركة.
وثمة من ذهب إلى حد القول إن بايدن على شفا التصادم مع نتنياهو (الكاتب اليهودي دافيد روثكوف المطلع على أجواء القرار). والخشية الأكبر من أن يقود هذا المسار إلى "إطالة الحرب التي قد تؤدي إلى توسيعها". احتمال يقلق المعنيين في إدارة لا ترغب في دور يزيد على الردع في هذه الأزمة. وقد جرى التوقف عند ما قاله رئيس أركان القوات المسلحة الجديد الجنرال شارلز براون عن تخوفه من "تزايد الضحايا من المدنيين، لأن ذلك يولّد المزيد من المقاتلين لحماس". ملاحظته انطوت على غمز من زاوية الأداء العسكري الإسرائيلي في هذا المجال، وحذر أيضاً من إطالة متعمدة لحرب تحمل بذور تمددها في المحيط.
وقد سبق أن صدرت تحذيرات وإشارات من هذا القبيل، كما لناحية ما سمي "تزايد الفوارق" بين بايدن ونتنياهو بشأن الحرب. هل تتفاقم إذا ما واصل نتنياهو العمل على تأجيج المواجهة؟ وإذا حصل ذلك، فهل يبادر بايدن إلى فرض فرملة للحرب من خلال وقف لإطلاق النار؟ الاعتبارات الانتخابية وحرب أوكرانيا معطوفة على التوتر مع الصين، قد تدفعه إلى خطوة من هذا النوع، ولا سيما أن المخاوف من الانجرار لم تعد مكتومة.