"وهن نفسية الأمة" من أكثر التهم التي أثارت استغراب وسخرية السوريين؛ ومن في حكمهم، من النظام السوري، المسؤول عن تهجير الملايين منهم في مختلف أصقاع الأرض، مئات الآلاف وصلوا إلى الحلم الألماني، فأصبح بإمكانهم العيش في بلد الديمقراطية، الذي يكفل دستوره المساواة بين جميع البشر، كما يكفل الحقوق والحريات، ومن ضمنها حرية التعبير، والتظاهر السلمي، إضافةً إلى حرية الإعلام وحياده.
لكن؛ كانت الصدمة بعد أن لمس المواطنون الجدد تناقضًا صارخًا بين واقع الحال المشكل من قبل السياسيين، والأحزاب الألمانية؛ المدعوم من مؤسساتٍ إعلاميةٍ كبرى عامّةٍ وخاصّةٍ، وبين ما تعلموه عن الدستور الألماني في دورات الاندماج، إذ وجدوا أنّ الساسة المسؤولين عن ضمان احترام الدستور أوّل من ينتهكه، حين شهَروا سلاح معاداة السامية (الفضفاضة، وغير المحددة بوضوحٍ) في وجه المواطنين الألمان جميعًا، دون توضيحٍ للخطوط الفاصلة بين كراهية اليهود والتهجم عليهم كأتباعٍ للديانة اليهودية، وبين انتقاد الصهيونية كنظامٍ سياسيٍ، وإسرائيل كدولة احتلالٍ.
بعد أن صمت الساسة الألمان عن جرائم الاحتلال المستمرّة منذ النكبة، سارعوا في السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى إدانة الهجوم على مستوطنات غلاف غزّة، وأكدوا وقوفهم إلى جانب دولة الاحتلال مرارًا، ودعمهم المطلق سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وإعلاميًا، متجاهلين ارتكاب الاحتلال جريمة الإبادة الجماعية، إذ تتطابق ممارسات الاحتلال في غزّة مع تعريف الإبادة الجماعية، الوارد في المادة الثانية من اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
كما رفضت الحكومة الألمانية؛ على لسان مستشارها أولاف شولتز، علانيةً وقف إطلاق النار، ولو لأسبابٍ إنسانيةٍ، كما أبدت؛ في خضم سير الإبادة، جاهزيتها لتقديم شتى أنواع الدعم العسكري، حين أعلن وزير الدفاع الألماني بيستوريوس، من الحزب الاشتراكي الحاكم، أنّه عرض على نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت تقديم الدعم الألماني. ما سيجعل ألمانيا إضافةً إلى الولايات المتّحدة؛ وغيرها من الدول، متهمة بالتحريض، والاشتراك بالجريمة بحسب المادة الثالثة من الاتّفاقية المذكورة سابقًا.
لا يمكن تجاهل المجموعات اليسارية الداعمة للقضية الفلسطينية، المتبنّية لمواقف أكثر وعيًا وحزمًا من مواقف قوى فلسطينية انهزامية
لعل أخطر ما في السياسة الألمانية هي سياستها الداخلية، ودورها في ضرب النسيج الاجتماعي، من خلال تهديد وتحريض السياسيين ضدّ فئاتٍ معينةٍ، متمثّلةٍ بالمدافعين عن القضية الفلسطينية عامّةً، والمهاجرين، وذوي الخلفية المهاجرة، وتحديدًا العرب والمسلمين، ولعل أوضح مثالٍ على ذلك خطاب نائب المستشار، ووزير الاقتصاد المنتمي لحزب الخضر روبرت هابك، الذي كال اتهامات معادة السامية ضدّ المسلمين في ألمانيا، وفي سياقها هدد المواطنين منهم بمحاكمتهم أمام القضاء، وهدد اللاجئين والمهاجرين منهم؛ الحاصلين على الإقامة الألمانية، بسحب الإقامة والطرد، وبالترحيل لمن لم يحصل على الإقامة. كما لم يكتف باتهام المجموعات اليسارية الداعمة لفلسطين بمعاداة السامية، إنّما بالغباء والجهل والتلاعب بهم.
بينما دعا الوزير هابك؛ في بداية كلمته، إلى التظاهر دعمًا لإسرائيل، ترفض العديد من البلديات الألمانية الكبرى منح التراخيص للتظاهرات الداعمة لفلسطين، والمطالبة بوقف إطلاق النار، وبدورها تقمع الشرطة؛ بتوجيهاتٍ سياسيةٍ، تظاهراتٍ مرخصةً عدّةً (رغم أنّ المادة الثامنة من الدستور تضمّن حقّ التظاهر دون الحاجة إلى ترخيصٍ)، وتوقف عديد الشبان لارتدائهم الكوفية الفلسطينية فقط، أو لحملهم العلم الفلسطيني!
وصلت معاداة الفلسطينية في ألمانيا إلى مستوياتٍ غير مسبوقةٍ، توحدت تحت مظلّتها جميع الأحزاب، من أقصى اليمين إلى اليسار الممثل في البوندستاغ، إذ شاركت النائبة عن الحزب اليساري (Die Linke)، بترا باو، إلى جانب زعيم المعارضة فريدريش ميرز، ورئيس بلدية برلين اليميني كاي فيجنر (كلاهما من الاتّحاد الديمقراطي المسيحي)، في مسيرة تضامنٍ رسميةٍ، تأييدًا لكلّ ممارسات إسرائيل. لم تكن مشاركة النائبة عن الحزب اليساري تصرّفًا فرديًا، بل أصدر الحزب؛ في مؤتمر الدولة لحزب اليسار في بريمن، بيانًا صريحًا يتضامن مع الهجوم الإسرائيلي.
كما دعت نائبة رئيس حزب الاتّحاد الديمقراطيّ المسيحيّ، كارين برين، إلى تجريم هتاف "فلسطين حرّة"، إذ صرّحت بأنّ هتاف "فلسطين حرة" ليس هتافًا بريئًا، إنّما "صيحة حربٍ لعصابةٍ إرهابيّةٍ".
أما حزب البديل؛ المعروف عنه تجنب انتقاد المجازر النازية، أو التخفيف من هولها، فقد زاود على كلّ الأحزاب الأخرى بمعاداته للفلسطينية، والتقى بأشباهه من القوى الفاشية الإسرائيلية، كما لم يتردد سابقًا عن استخدام صورةٍ ليئير نتنياهو، ابن نتنياهو؛ المنبوذ من شريحةٍ واسعةٍ من المجتمع الإسرائيلي نفسه؛ في بوسترٍ معادٍ للاتّحاد الأوروبي.
من المخجل التحدّث عن موقف الحزب الليبرالي (FDP)، بعد أن خلط الحابل بالنابل، وربط هجوم السابع من أكتوبر بالحرب الروسية على أوكرانيا، مدعيًا أنّ تزامن الهجوم مع عيد ميلاد بوتين، هو أمرٌ منسقٌ، وكأنه هديةٌ من حماس لبوتين!
رغم السياسة الألمانية الممنهجة في معاداة الفلسطينية؛ خرج الآلاف إلى شوارع المدن الألمانية، مدعومين بالعديد من المجموعات صغيرة الحجم، إلّا أنّها بدأت تؤثر في الشارع الألماني رويدًا رويدًا، إذ تشارك مجموعة الصوت اليهودي من أجل السلام في تنظيم التظاهرات، وتأخد على عاتقها استخلاص التراخيص اللازمة غالبًا، كما تحاول أن تلعب دورًا توعويًا في مواجهة المكارثية الألمانية.
إذ وجدوا أنّ الساسة المسؤولين عن ضمان احترام الدستور أوّل من ينتهكه، حين شهَروا سلاح معاداة السامية
كما لا يمكن تجاهل المجموعات اليسارية الداعمة للقضية الفلسطينية، المتبنّية لمواقف أكثر وعيًا وحزمًا من مواقف قوى فلسطينية انهزامية عدّة، منها على سبيل المثال لا الحصر المنظّمة الشيوعية (KO)، وأحزاب الأممية الرابعة، والمنظور الاشتراكي (SP).
في إطار رد الفعل على المكارثية الألمانية؛ بدأت تتشكل مجموعات عملٍ من الشباب الفلسطيني، وأصدقائهم تحضر وتنظم التظاهرات والوقفات أسبوعيًا في مختلف المدن، كما تتواصل مع المجتمع مباشرةً لشرح السردية الفلسطينية الغائبة كلّيًا عن الإعلام الألماني. وعلى رغم من أن كلّ المجموعات المذكورة سابقًا صغيرة الحجم، إلّا أنها تسعى اليوم إلى تشكيل ائتلافٍ جامعٍ، قد يسمح لهم مستقبلًا بفرض واقعٍ اجتماعيٍ وسياسيٍ ألمانيٍ جديدٍ.