مرّ شهر ونصف الشهر منذ أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 10 يونيو/ حزيران الماضي، عن خريطة طريق جديدة في الساحل الأفريقي، مشيراً إلى بدء بلاده إنهاء عملية "برخان" العسكرية هناك، والتي كانت قد أطلقتها فرنسا عام 2014 في مالي، بهدف القضاء على الجماعات المسلحة والمتشددة في الساحل والحد من نفوذها، من دون أن يتحقق ذلك. وإن كان ماكرون قد أشار إلى أنّ إعادة انتشار قوات بلاده في المنطقة، وتقليص عدد الجنود الفرنسيين في الساحل من 5100 جندي إلى ما بين 2500 إلى 3000، ستتم على مراحل، مشيراً إلى أنّ التركيز في الأشهر الستة المقبلة سيكون على تفكيك عملية "برخان"، إلّا أنّ من الواضح أنّ باريس لا تريد أن يخبو حضورها في المنطقة التي تعتبرها منطقة نفوذ تقليدي لها، بحكم الماضي الاستعماري. كما أنّها لا تريد تركها لمطامع دول أخرى، على رأسها روسيا التي يرى مراقبون أنّها بدأت تبحث عن دور لها في منطقة الساحل، خصوصاً مع عِلم فرنسا بأهمية المنطقة والموقع الاستراتيجي لدول مجموعة الساحل؛ موريتانيا وبوركينا فاسو ومالي وتشاد والنيجر، الذي يشكل مفترق طرق يربط بين دول القارة الأفريقية.
وتواصل باريس الإعلان عن تحقيق "إنجازات" في الساحل على صعيد محاربة الإرهاب. ويأتي في هذا السياق إعلانها أول من أمس الجمعة أنّ قوة "برخان" قتلت في مالي قياديَّين في تنظيم "الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى" بالتنسيق مع الأميركيين الذين تطمح فرنسا إلى انخراط أكبر من قبلهم في العمليات القتالية ضد الجماعات المسلحة في الساحل.
أعلنت فرنسا قتل قياديَّين في "الدولة الإسلامية في الصحراء"
وأعلن مكتب وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورنس بارلي، الجمعة، أنّ القوات المسلحة الفرنسية، قتلت، ليل الأربعاء الخميس، في مالي، القياديَّين في تنظيم "الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى" عيسى الصحراوي وأبو عبد الرحمن الصحراوي.
وكانت وزارة الجيوش قد أعلنت الخميس الماضي "تحييد القوات المسلحة الفرنسية"، في إشارة إلى قوة "برخان" لـ"قياديَّين في تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى" من دون تحديد هويتيهما، معلنة أنّ ذلك "يجرى التحقق منه". وأول من أمس الجمعة، أعلن مكتب بارلي أن القياديَّين هما عيسى الصحراوي "المنسق اللوجستي والمالي لتنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى"، وأبو عبد الرحمن الصحراوي "الذي كان مكلّفاً إصدار الأحكام". وجاء في بيان للمكتب أنّ الأول "كان ينشط في منطقة الساحل منذ سنوات عدة، وشارك خصوصاً في هجوم نفّذ في إيناتيس ضد القوات النيجرية في ديسمبر/ كانون الأول 2019 وكان يجنّد جهاديين ويدربهم". ففي العاشر من ديسمبر 2019 قُتل 71 جندياً في هجوم في إيناتيس في غرب النيجر بالقرب من الحدود مع مالي.
وأوضح المكتب أنّ القتيل الثاني "كان يُعرف بإصداره الأحكام بالقتل. وكان هذا الجهادي ينشط في جماعات إرهابية مسلّحة في مالي منذ عشر سنوات". وبحسب مصادر أمنية في مالي، فإنّ أبو عبد الرحمن الصحراوي كان عضواً في "حركة التوحيد والجهاد" في غرب أفريقيا، والتي اندمجت لاحقاً مع منظمة أخرى لتشكيل تنظيم "الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى".
وأعلن المكتب أنّه تم "تحييد" الرجلين خلال عملية نفّذتها قوة "برخان" بالتنسيق مع الجيش الأميركي، واتُخذ القرار بتنفيذها "في مهلة قصيرة جداً" بناءً على معلومات استخبارية ضد معسكر للتنظيم في منطقة ميناكا شمال شرقي مالي. وذكّرت الوزارة بأنّه تم تحييد "عدد كبير من الكوادر رفيعي المستوى في تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى في يونيو الماضي، من بينهم أحد قادة التنظيم دادي ولد شعيب المعروف بأبو الدردار، والمحمود أغ باي المعروف بإيكاراي، وهو من أبرز كوادر التنظيم، ومقرّب من قائده عدنان أبو وليد الصحراوي".
وأعلنت الوزارة أنّ العملية تندرج في إطار استراتيجية تعتمدها فرنسا باستهداف "قادة الإرهابيين وكوادرهم"، مشددةً على أنّ هذه الاستراتيجية "تعكس تصميم فرنسا على مواصلة التصدي للجماعات المسلحة الإرهابية إلى جانب شركائها الساحليين وبالتنسيق مع حلفائها الأوروبيين والأميركيين".
الدول الأوروبية غير متحمسة لرمي ثقلها العسكري في المنطقة
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أعلن في 10 يونيو/ حزيران الماضي عزمه على تقليص الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، وكذلك على إنهاء عملية "برخان"، وتركيز جهود بلاده جنوباً، خاصة في النيجر وتشاد، حيث تواصل الجماعات المتشددة "نشر التهديد". وتتركز خريطة الطريق الفرنسية على غلق القواعد العسكرية الفرنسية في كيدال وتومبوكتو وتيسالي في شمالي مالي، وتقليص عدد القوات الفرنسية من 5000 عنصر إلى نحو 2500 أو 3000 عنصر، وأن يتم ذلك خلال الفترة بين النصف الثاني من 2021 إلى بداية 2022.
وشدّد ماكرون على أنّ العمليات المقبلة ستتمحور حول مكافحة الإرهاب ومؤازرة الجيوش المحلية في المعارك في إطار تحالف دولي يضم دولاً أوروبية. ويشير ماكرون في حديثه هنا إلى قوة "تاكوبا" الأوروبية، التي يبدو أنّه يراهن عليها لملء الفراغ في الساحل، والتي تضم قوات خاصة أوروبية، بالإضافة إلى نحو ألفي عنصر من قوات النخبة الفرنسية "سابر" ومن الممكن أن ينضم إليهم 1100 جندي أميركي منتشرين في المنطقة. لكنّ قوة "تاكوبا" لا يمكن التعويل عليها كثيراً في أرض المعركة، بحسب ما يرى خبراء، خصوصاً أنّ دورها الرئيسي يقتصر على تدريب القوات المحلية لدول الساحل، وكذلك بالنسبة للقوات الأميركية التي تكتفي بالتدريب وتقديم الدعم اللوجستي، سواء بالنسبة للنقل أو المعلومات الاستخباراتية.
وتبدو الدول الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا، غير متحمسة لرمي ثقلها العسكري في منطقة الساحل التي ينظر إليها كمنطقة نفوذ فرنسية. أما الأميركيون، فيريدون إنهاء حربهم على الإرهاب التي استمرّت عشرين سنة في أقرب فرصة، وليس التورط في مستنقع أمني جديد. فيما يضغط الرأي العام الفرنسي على قيادة بلاده لسحب قواتها من الساحل، في ظلّ الخسائر التي تكبّدتها في الأرواح والأموال في المعركة هناك، من دون تحقيق الأهداف المرجوّة، على رأسها القضاء على المسلحين هناك، على الرغم من وجود قوات من الاتحاد الأفريقي ووصول دعم عسكري من دول أوروبية.
وربما هذا ما يدفع ماكرون الحالم بفترة رئاسية ثانية إلى التعجيل بسحب قوات بلاده من خطوط المواجهة الرئيسية شمالي مالي، وتدويل الحرب، مع الإبقاء على قواعد فرنسية في المنطقة، خصوصاً في النيجر وتشاد، حتى لا تفتح فرنسا المجال لروسيا والصين لاقتلاع نفوذها من المنطقة، كما حدث في جمهورية أفريقيا الوسطى، بعد إنهائها عملية "سانغاريس" هناك نهاية عام 2016.
وشكّلت دول مجموعة الساحل الأفريقي الخمس؛ موريتانيا وبوركينا فاسو ومالي وتشاد والنيجر، منطقة تنافس دولي، نظراً لموقعها الاستراتيجي كنقطة تربط بين مختلف دول القارة السمراء، ولثرائها بالموارد الطبيعية. وتعتبر روسيا من البلدان التي بدأت تولي اهتماماً خاصاً بدول مجموعة الساحل، في ظلّ تراجع الدور الفرنسي عما كان في المنطقة. وفي هذا الإطار، وقّعت روسيا اتفاقات عسكرية مع عدد من دول المجموعة كان آخرها توقيع اتفاق مع موريتانيا بهدف تطوير التعاون العسكري بين البلدين، وذلك في 24 يونيو الماضي.
(العربي الجديد، فرانس برس، الأناضول)