لا يمكن قراءة قرارات إخلاء السبيل التي صدرت في الآونة الأخيرة لأكثر من 150 معتقلاً في مصر، على رأسهم ولأول مرة منذ سنوات 6 شخصيات عامة من نشطاء حقوقيين وسياسيين وصحافيين، من دون أخذ ثلاثة أمور أساسية في الاعتبار، أولها استمرار استخدام أدوات أخرى لقمع نشطاء بعينهم وفئات أخرى من المواطنين باعتقالهم وتدويرهم في قضايا أخرى ومحاكمتهم باتهامات وهمية، ثانيها زيارة مدير المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل الأخيرة إلى واشنطن وما يتكشف حالياً من تفاصيلها، وثالثها قضية سد النهضة ورغبة النظام المصري الحاكم في ضمان مساندة البيت الأبيض بشأنها على الرغم من الضغوط المستمرة والمتنوعة التي تمارسها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لحمله على تحسين أوضاع حقوق الإنسان.
فمن المنظور الأول ما زال النظام مصراً على إغلاق المجال العام في وقت كان من المفترض أن يشهد "انفراجة حقيقية" بالإعلان عن استراتيجية حقوق الإنسان المصرية نهاية الشهر الماضي، ولكن بدلاً من حسم الخلافات الأمنية والاستخباراتية حول تفاصيلها التي شاركت في وضعها شخصيات حقوقية تصنف على أنها قريبة من الدولة أو مأمونة الجانب، اكتفت المخابرات بتوجيه الإعلاميين إلى الحديث العلني عن "انفراجة متوقعة" وادعاء المطالبة بتعدد الأصوات والسماح للرأي الآخر بالتداول في الصحافة والتلفزيون، آخذة من قرارات إخلاء السبيل الأخيرة غطاء لممارسات أخرى كاعتقال رئيس تحرير صحيفة "الأهرام" الأسبق عبد الناصر سلامة بعد نشره مقالا يتهم فيه الرئيس عبد الفتاح السيسي بالتقصير في ملف سد النهضة.
بدأت السلطات محاكمة ثلاثة من المعتقلين في قضية "خلية الأمل" هم زياد العليمي وهشام فؤاد وحسام مؤنس على ذمة قضية جديدة
كما أن السلطات في الأسابيع الثلاثة الماضية فقط بدأت محاكمة ثلاثة من المعتقلين في قضية "خلية الأمل" هم زياد العليمي وهشام فؤاد وحسام مؤنس على ذمة قضية جديدة مجهولة الحيثيات، وجّهت لهم فيها اتهامات بتكدير السلم العام ونشر أخبار كاذبة من خلال مجموعة من المنشورات التي تعود لسنوات سابقة على مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف ضمان استمرار حبسهم بعد انتهاء فترة الحبس الاحتياطي القصوى لهم على ذمة قضية الأمل منذ أيام.
كما ألقت القبض على عدد غير معروف، تقول مصادر حقوقية إنه أكثر من خمسة باحثين، من الدارسين المصريين في الخارج لدى عودتهم إلى مصر، وأطلقت سراحهم فيما بعد، بينما صدر حكم على باحث آخر هو أحمد سمير سنطاوي باتهامات تتعلق باستخدام وسائل التواصل. واستمرت السلطات في منع عدد من الباحثين المتهمين في قضايا سياسية سابقة من السفر ومنهم من يحملون الجنسية الأميركية، بالتوازي مع استدعاء عدد من الحقوقيين المتهمين في قضية التمويل الأجنبي القديمة 173 لسنة 2011 للتحقيق مرة أخرى، فضلاً عن استمرار رفض العفو عن المعتقلين الإسلاميين الذين ما زالوا قابعين في السجون بالآلاف، وإصدار أحكام الإعدام الباتة المتتالية وأبرزها أخيراً في قضية اعتصام رابعة.
هذا الحراك مقابل قرارات إخلاء السبيل المحدودة بالنسبة لحجم المشكلة في مصر، يكشف أن النظام ما زال يعمل بالآلية القديمة نفسها لإغلاق المجال العام، مع إضفاء شكل من ادعاء الانفراجة، لمغازلة الغرب بشكل عام والولايات المتحدة خصوصاً.
وهنا يمكن البحث في المشهد من المنظور الثاني الخاص بالزيارة الأخيرة لعباس كامل إلى واشنطن والتي لم يُعلن عنها رسمياً في مصر من الأساس، وخرجت عنها معلومات محدودة في وسائل الإعلام الأميركية. وقالت مصادر دبلوماسية مصرية مطلعة إن الزيارة شهدت تحذيراً لمصر بالعودة لوقف أجزاء من المساعدات السنوية، تزيد قيمتها الإجمالية على 300 مليون دولار، فضلاً عن التلويح بوقف مساعدات عسكرية محددة، في حال عدم تحقيق تقدّم ملموس في مجال حقوق الإنسان.
وقوبلت الأفكار التي عرضها كامل لتحسين العلاقة بين الطرفين بالتشكيك من الجانب الأميركي نظراً لملاحظات عدم جدية المصريين في تغيير سياساتهم في المجال ذاته. ومن بين تلك الأفكار دعوة عدد من قيادات ونواب بالحزبين الديمقراطي والجمهوري وعدد من الإعلاميين لزيارة مصر، بما في ذلك نواب سبق أن هاجموا السياسات المصرية والعلاقة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس السابق دونالد ترامب، ليلتقوا خلالها برئيس الجمهورية وعدد من المسؤولين التنفيذيين والبرلمانيين. ولكن البرنامج سيتضمّن، على عكس ما حدث مع الوفود السابقة التي زارت مصر للقاء السيسي فقط بين عامي 2015 و2018، فعاليات أخرى مثل زيارة قناة السويس وبعض المواقع الإنشائية والسكنية الجديدة كالعاصمة الإدارية والعلمين الجديدة والأسمرات لتقديم صورة عما يرغب النظام في إيصاله من رسائل، تركز في الأساس على "تحقيقه تقدماً كبيراً على صعيد التنمية والحالة الاقتصادية للمصريين" وأن "المشاكل الخاصة بالأوضاع الحقوقية والحريات السياسية لا تمثل الأولوية للغالبية العظمى من جموع المصريين".
كما أن المسؤولين الأميركيين لم يعجبهم، بحسب المصادر، التبرير الدائم لممارسة القمع بتنفيذ القرارات والأوامر القضائية، بينما تحيط الشكوك باستقلال القضاء المصري من كل جانب، فضلاً عن ملاحظتهم تظاهر النظام المصري بإخلاء سبيل بعض المعتقلين بعدما يكونون بالفعل قد تخطوا أقصى فترة لحبسهم الاحتياطي، وغيرها من الممارسات التي تؤكد عدم الجدية.
وربطت المصادر بين الحساسيات التي شهدتها الزيارة وبين المساحة التي منحتها السلطات بعد ذلك لمبادرة "الحوار الدولي" التي يقودها الوسيط السياسي الأبرز في مصر حالياً محمد أنور السادات، رئيس حزب "الإصلاح والتنمية" والنائب البرلماني السابق، والتي تضم شخصيات متنوعة الاتجاهات الفكرية والاتصالات بالخارج، ويرغب النظام في تصديرها كوسيلة لتحسين صورته في الأوساط الأميركية تحديداً.
تحاول السلطات المصرية توطيد علاقتها بواشنطن للتوصل إلى حل سياسي بملف سد النهضة
أما من المنظور الثالث وهو قضية سد النهضة، فليس أمام النظام الحاكم إلا توطيد علاقته بواشنطن إذا أراد حلاً دبلوماسياً مضموناً بعيداً عن الموقف الروسي السلبي والجهود الصينية التي لا تفضي إلى شيء، لا سيما أن الولايات المتحدة تضع عدم الإضرار بمصر على رأس أولوياتها، جنباً إلى جنب الحفاظ على سلم المنطقة وعدم جرها إلى حرب مفتوحة، خصوصاً في ظل توتر العلاقات مع روسيا وتنافسهما على السيطرة على شرق المتوسط وشرق أفريقيا.
وعلى الرغم من موافقة بايدن على منح مساعدات بقيمة 410 ملايين دولار تقريباً في الآونة الأخيرة، إلا أنها أحيطت بجدل كبير داخل البيت الأبيض وبين قيادات الحزب الديمقراطي، الذين عمل بعضهم في المقابل على اتخاذ بعض الإجراءات التي تؤكد عدم قبول واشنطن بما يمكن وصفه بـ"التلاعب المصري" بهذا الملف و"ادعاء الاستجابة" لكل المناشدات الأميركية.
ففي الساعات الأخيرة أحكم الفريق الأميركي المتشدد تجاه النظام المصري قبضته على إدارة ملف المعونة الأميركية لمصر، بتعيين تامارا كوفمان ويتس مساعدةً لرئيسة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لشئون الشرق الأوسط، وهي التي عملت سلفاً في مكاتب الشرق الأدنى والشرق الأوسط في الخارجية الأميركية في فترة الربيع العربي وصاحبة باع طويل في مناهضة سياسات النظام المصري بعد انقلاب يوليو/تموز 2013. وكان الإعلام الموالي للنظام يركز على كتاباتها في نهاية حكم الرئيس الأسبق باراك أوباما للتدليل على دعم إدارته المزعوم لجماعة "الإخوان المسلمين". علماً أن رئيسة الوكالة نفسها سامانثا باور عُرفت بمواقفها المعارضة لسياسات السيسي في فترة تمثيلها الولايات المتحدة بمجلس الأمن وبعدها، وتركيزها على ربط المساعدات لكل الدول بالديمقراطية وتداول السلطة.
وتلقى النظام المصري في الشهور الثلاثة الأخيرة نصائح من بعض النواب والسياسيين من جماعات الضغط الأميركية التي تكثف مصر التعاون معها، وكذلك من المتعاملين مع الشركة المتعاقد معها "براونستين هيات فاربر"، بضرورة الاستعداد لاتخاذ إجراءات تعكس رغبة النظام في تحسين أوضاع حقوق الإنسان خلال الفترة المقبلة، بما في ذلك بحث إمكانية الإفراج عن معتقلين ومحكومين من حاملي الجنسية الأميركية. لكن التقديرات الاستخباراتية والأمنية مشفوعة بـ"رؤية السيسي نفسه" اتجهت إلى عدم المسارعة في ذلك، اللهم بإمكانية إخلاء سبيل "عدد محدود جدا" من المعتقلين المشاهير، بحسب أحد المصادر الذي قال لـ"العربي الجديد" مطلع الشهر الماضي إنه "من المستبعد أن يخرج عدد كبير من المعتقلين بشكل جماعي" مؤكداً رغبة النظام في "الحفاظ على عدد من الأوراق للتخلي عنها مستقبلا عند الحاجة"، مفسراً بذلك استمرار منع عدد من الشخصيات التي سبق وتحدثت واشنطن بشأنها من السفر، وعدم إخلاء سبيل نشطاء سياسيين على الرغم من تخطيهم عامين في الحبس الاحتياطي، كانت منهم إسراء عبد الفتاح التي أُطلق سراحها الأحد الماضي.