في حادثة جديدة، سجّل يوم الأحد الماضي اعتقال الباحثة المصرية علياء مسلم، فور وصولها إلى مطار القاهرة بصحبة زوجها وأبنائها، آتين من برلين، على الرغم من أنه ليس لها أي نشاط سياسي معروف أو سوابق في العمل بالمنظمات الحقوقية والمجتمع المدني المصنفة كمعارضة للنظام، واقتصار عملها البحثي على التاريخ الاجتماعي للمصريين في فترات الثورات والحروب في القرن العشرين. وأحيلت الباحثة على الفور إلى نيابة أمن الدولة العليا، التي أصدرت قراراً كان متوقعاً، بتوجيه اتهامات لها بـ"نشر أخبار كاذبة"، وقررت إخلاء سبيلها بكفالة 10 آلاف جنيه (636 دولاراً أميركياً)، ما يعني أنها باتت عرضة للإحالة للمحاكمة في أي وقت، مع منعها من مغادرة البلاد على الأرجح، وحرمانها من استكمال مسيرتها البحثية في الخارج. ويشكل ما جرى دليلاً إضافياً على التغيّر بسياسة توقيف الباحثين، من تعطيل مسيرتهم الذي كانوا يتعرضون له من خلال إجراءات التحقيق والمنع من السفر وغيرها من القرارات المعتادة، إلى توريطهم في ما هو أخطر، بلصق التهم بهم.
وعلى مدار السنوات السبع الماضية، اعتقلت أجهزة النظام المصري العديد من الباحثين المصريين لدى عودتهم من الخارج، للتحقيق معهم أو منعهم من مغادرة البلاد أو محاكمتهم إذا كانت لهم سوابق معارضة لسياسات النظام. وينتهي الأمر في الغالب بضياع سنوات من مستقبل الباحث المعتقل، بل والإجهاز عليه، بسبب نشاطه البحثي المستقل عن سياسة الدولة، وارتباطه بمؤسسات ومعاهد علمية يصنفها النظام بأنها خطيرة على أمنه.
يخشى الباحثون في حال عودتهم من مصير مماثل لما حدث مع الباحث أحمد سنطاوي
ويخشى مقربون من علياء مسلم، كما يخشى باحثون آخرون موجودون في الخارج، من مصير مماثل لما حدث مع الباحث أحمد سمير سنطاوي، الذي كان قد اعتقل لدى وصوله إلى مصر في مطلع فبراير/ شباط الماضي وغُيّب لنحو أسبوع، ثم وُجهت له اتهامات أولاً بالانتماء لجماعة محظورة في القضية 65 لسنة 2021 حصر أمن دولة عليا. ثم ولتقنين استمراره في محبسه بعد نحو أربعة أشهر من المناشدات السياسية والتصعيد الإعلامي، وُجه له اتهام جديد بنشر أخبار كاذبة عبر مواقع التواصل الاجتماعي في قضية أخرى حملت رقم 774 لسنة 2021، وأحيل سريعاً للمحاكمة أمام محكمة جنح أمن الدولة طوارئ التي قضت بحبسه 4 سنوات وتغريمه بمبلغ 500 جنيه في 22 يونيو/ حزيران الماضي.
ودخل سنطاوي إضراباً عن الطعام احتجاجاً على معاملته بصورة غير إنسانية واتهامه بما لم يفعله، وطلب فريق دفاعه فتح تحقيق حول واقعة إضرابه، وكذا إيداعه بمستشفى السجن لمتابعة حالته الصحية بشكل مستمر، فيما ناشد ذووه رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، لوقف الحكم عليه، لما له من سلطة على أحكام محكمة جنح الطوارئ.
وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الساعات الماضية، تحذيرات للباحثين المصريين المعروفين بمواقفهم الليبرالية واليسارية والإسلامية، والمقيمين في الخارج، بعدم العودة إلى مصر في موسم الإجازات الحالي، الذي يرتفع فيه عدد العائدين من الخارج لقضاء عطلة الصيف وإجازة عيد الأضحى مع ذويهم في مصر، لا سيما بعد توقيف نحو خمسة باحثين آخرين في الفترة الأخيرة، آتين من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، والتحقيق معهم من دون اعتقالهم، بحسب محام ناشط في هذا النوع من القضايا. وقال المحامي، الذي طلب عدم ذكر اسمه، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ إجراء التوقيف للتحقيق تصاعد استخدامه في الفترة الأخيرة، ما يدل على رقابة أمنية صارمة على تصرفات الباحثين في أوروبا، ومتابعة مستمرة لحساباتهم الشخصية على مواقع التواصل.
انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي تحذيرات للباحثين المقيمين في الخارج، لعدم العودة إلى مصر
وتضفي تصريحات أدلت بها وزيرة الهجرة نبيلة مكرم عبيد، الأسبوع الماضي، خلال ندوة ولقاء مفتوح مع عدد من الدارسين المصريين في الخارج، بعداً ممنهجاً على الحملة ضد الباحثين. فقد قالت عبيد، التي تصنف كواحدة من أكثر وزراء السيسي انفتاحاً، إن "الدارسين في الخارج هم أخطر شريحة من المصريين المغتربين، نتيجة عوامل عدة، على رأسها الأفكار المغلوطة التي يتعرضون لها من أصحاب التوجهات المعادية لمصر". وأضافت أن "الدولة تعمل على تعريفهم بالدور الصحيح الذي تقوم به الحكومة وعرض الواقع المصري عليهم، ليردوا على الاتهامات والانتقادات، وذلك من خلال دورات تم تنظيمها وسيتم التوسع فيها بأكاديمية ناصر للعلوم العسكرية، يحضرون خلالها تدريبات للقوات المسلحة، ويقفون على تضحيات أبطال الجيش المصري لحفظ أمن الوطن".
وفي إبريل/ نيسان الماضي، أطلقت الوزيرة مبادرة لدمج الدارسين المصريين في الخارج في مبادرة السيسي "حياة كريمة"، والتي تديرها المخابرات العامة بمساعدة الجيش لتطوير قرى الريف الأكثر احتياجاً، بهدف تنسيق وتكامل الجهود والترويج لها في الخارج.
وقبل ذلك، مدّت المخابرات العامة جسور تواصل قوية بمجتمعات الدارسين والباحثين في الخارج من خلال هيئة "منتدى الشباب"، إذ تم استدعاء عشرات الباحثين الذين خرجوا من مصر للدراسة بمنح من جامعات أجنبية شرقاً وغرباً، للمشاركة في المنتدى ودمجهم في أنشطته، مع إغرائهم بتولي مناصب قيادية في مصر وبتسهيل حصولهم على منح علمية في أماكن أفضل، حال المساعدة في الترويج لسياسات النظام داخلياً وخارجياً. فضلاً عن تخصيص منح دراسية للمختارين في البرنامج الرئاسي لإعداد الشباب للقيادة والأكاديمية الوطنية للتدريب، بهدف تكوين مجتمع بحثي مصري في الخارج تابع للنظام، والسيطرة على الأنشطة البحثية للمصريين في الخارج.
تم توقيف نحو خمسة باحثين في الفترة الأخيرة والتحقيق معهم من دون اعتقالهم
ولطالما كانت مراقبة أنشطة المصريين في الخارج، وعلى رأسهم الباحثون غير الموالين للنظام، هدفاً لتحركات أمنية واستخباراتية وإنفاق مالي مكثف، من خلال استخدام آليات مختلفة للمراقبة والرصد، عبر السفارات ومواطنين مصريين وأجانب. وتم توجيه اتهامات لباحثين مصريين في السنوات الست الماضية على أنشطتهم البحثية ومشاركاتهم في منتديات ومؤتمرات علمية، مثل الباحث السجين إسماعيل الإسكندراني، الذي اعتقل لدى قدومه من برلين في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، والباحث باتريك زكي، الذي اعتقل في مطلع 2020 لدى عودته من إيطاليا، وتسعى حالياً قوى سياسية إيطالية إلى منحه الجنسية ليتنازل عن الجنسية المصرية ويعود إلى دراسته.
وربما لا تبتعد هذه الأمثلة كثيراً عن الدوافع الحقيقية وراء ترصّد الطالب الإيطالي جوليو ريجيني في القاهرة، بداية عام 2016، وصولاً إلى خطفه وقتله، بحسب نتائج التحقيقات الإيطالية، ولا سيما أنّ التحقيقات المصرية أكدت وضعه تحت المراقبة بسبب اهتماماته البحثية بالنقابات المستقلة في مصر.