تصدّرت الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز، أو مشيخة العقل في سورية، مشهد الحراك الشعبي الدائر في محافظة السويداء جنوبيّ البلاد منذ حوالى الأسبوعين، إذ ظهر التمايز بين مشايخ العقل الثلاثة على ترتيبهم تباعاً، بعد يوم واحد تقريباً على بدء الحراك.
فقد أصدر شيخ العقل الأول في سورية حكمت الهجري بياناً، تناقله عدد من وسائل الإعلام، ليتلقفه جمهور الحراك المعارض للنظام، ويصبح مرجعاً ومستنداً ساهم في تصاعد الحراك، ورفع سقف المطالب والأهداف، لتصل إلى الشعارات التي أطلقتها الثورة السورية عام 2011 بإسقاط النظام ورحيل بشار الأسد.
وعلى الرغم من ابتعاد مشيخة العقل الدرزية، من حيث جوهر العقيدة، عن الشأن السياسي، إلا أن مآلات الأحداث المتلاحقة جعلت منها مرجعية دينية وسياسية وعسكرية في آن واحد، وفرضت عليها الدخول كطرف وازن، وأحد اللاعبين الأساسيين في حلبة الصراع الدائر أينما وجدت.
ومن هنا كان لها الدور الكبير في توجيه المناطق ذات الأكثرية الدرزية، والغلبة في قرارها السياسي والعسكري، على الرغم من عدم وجود سلطة مطلقة لها كمرجعية دينية على الأهالي. وهذا ما ساهم في التمرد على قراراتها من وقت لآخر، إلى جانب عدم الاتفاق، وحتى الخلاف المتوارث، بين مشايخ العقل في المناطق الدرزية، والانقسام الناتج بين مناطق نفوذها.
وتعتبر محافظة السويداء، جنوبيّ سورية، معقلاً لطائفة الموحدين الدروز في البلاد، علماً أن انتشار الدروز في سورية يقتصر خارج السويداء على بقعة صغيرة في إدلب، المعروفة بجبل سماق، إذ يضم الجبل 18 قرية، لا يتجاوز تعداد سكانها جميعاً 20 ألف نسمة في الوقت الحالي، لكنهم جميعاً مع دروز السويداء، يتبعون المرجعية الدينية ذاتها.
3 مشايخ يتقاسمون المشيخة الدرزية
وبحسب الترتيب، فإن المشيخة يتقاسمها ثلاثة من شيوخ العقل بحسب ترتيب معتمد. فالشيخ الأول هو حكمت الهجري، أما الثاني فهو الشيخ يوسف الحناوي، وشيخ العقل الثالث هو يوسف جربوع. ولكل منهم مواقفه وآراؤه المختلفة والمتقلبة طوال سنوات الحراك في سورية، والتطورات التي جرت وتجري في السويداء.
وفي حين رفع الهجري من سقف المطالب في خطابه، واتهم النظام من دون أن يسميه، ببيع الأملاك العامة والمؤسسات وبالفساد، وطالبه بشكل غير مباشر بالرحيل طالما أنه فشل في إدارة البلاد والحفاظ عليها، سارع الحناوي، وهو صاحب المركز الثاني في مشيخة العقل، إلى اللحاق بركب الحراك بخطاب وُصف بالمعتدل والمؤيد للمتظاهرين، ومطالبهم المحقة بالعيش بكرامة في وطن تحكمه العدالة والقانون. وفهم من هذا الخطاب أن الحناوي يريد المواكبة كي لا يفقد موقعه وأتباعه في ظل الاحتقان الحاصل.
رفع الهجري من سقف المطالب، واتهم النظام من دون أن يسميه، ببيع الأملاك العامة والمؤسسات وبالفساد، وطالبه بشكل غير مباشر بالرحيل
أما جربوع، فقد ظهر بشكل مختلف في رؤيته للمطالب الشعبية، إذ دعا إلى اجتماع لعائلات مدينة السويداء، في مقام "عين الزمان"، الذي يُعتبر دار الطائفة في البلاد. وأصدر بياناً بعد مرور أكثر من أسبوع على الحراك، محاولاً أن يلحق بمطالب الشارع، ناشد فيه النظام تغيير الحكومة، واستبدالها بأخرى تؤمن العيش الكريم وتنقذ السوريين من الجوع والفقر والحاجة، إلى جانب تأييد مطالب الحراك الشعبي وفتح معبر حدودي مع الأردن.
وطالب جربوع المتظاهرين بفتح المؤسسات العامة والحفاظ عليها. لكن ذلك الخطاب فهم على أنه وضع حركة الشارع في السويداء ضمن مطالب معيشية، بعيداً عن المطالب السياسية التي رُفعت في وجه النظام ورئيسه، والوجود الإيراني في البلاد.
وعقب لقائه في 29 أغسطس/آب الماضي مع مبعوث رئيس النظام بشار الأسد إلى السويداء صفوان أبو سعدة وهو محافظ ريف دمشق ويتحدر من مدينة السويداء، قال جربوع في مقطع مصور إنه يرفض انفصال السويداء عن سورية، ما دفع النشطاء للرد بأن "الحراك لم يشر على الإطلاق لشيء يمت بصلة إلى التقسيم". وأضاف جربوع أن علم النظام يمثله، معترضاً على رفع المحتجين راية ترمز إلى أهالي السويداء التي يشكل الدروز غالبية سكانها. واعتبر الهتافات التي أطلقها المحتجون وتطالب بإسقاط النظام وتطبيق القرارات الدولية "خاطئة"، قائلاً إن النظام الحالي يمثل السوريين.
وفي ظل هذا التباين في المواقف بين مشايخ العقل الثلاثة، وجد مجتمع السويداء الفرصة مناسبة حالياً للانتفاض على النظام، وشحن الأهالي بتأييد ومباركة شيخ العقل الأول، مُستغلين موقفه المتقدم حتى الآن لرفع سقف المطالب من جهة، والموقف المُرتبك للنظام أمام اندفاع المتظاهرين، وعجزه حتى الآن عن إيجاد حلول وطرق لقمع هذا الحراك، الذي استطاع أن يُحدث تحولاً نوعياً في الحدث السوري ويطرق المنابر العالمية، من جهة أخرى.
ومنذ حوالى أسبوعين، يخرج أهالي السويداء في مناطق ونقاط مختلفة، ولا سيما في مركز المحافظة، بتظاهرات ووقفات احتجاجية ضد النظام، بعد تردي الوضع المعيشي وزيادة الخناق الأمني، ومحاولة إفساد المجتمع بإغراقه بالعسكرة وترويج المخدرات.
وسرعان ما رفع المتظاهرون شعارات طالبت بإسقاط النظام ورئيسه بشار الأسد، بالإضافة إلى التنديد بالتوغل الإيراني في البلاد، ما يعطي الدوافع أبعاداً سياسية، أكثر من كونها معيشية.
التباين في مواقف الرئاسة الروحية ليس جديداً
ويرى الناشط المدني عماد العشعوش، وهو أحد أبناء محافظة السويداء، أن هذا التباين في مواقف الرئاسة الروحية لم يكن جديداً، بل هو قديم، ويعكس تاريخاً من التناحر والتنافس بين مقامات الرئاسة الروحية في السويداء.
ويضيف العشعوش، في حديث لـ"العربي الجديد": "جميعنا يعي شكل وحجم التبعية المتباينة أيضاً لهذه القيادات الروحية للنظام السوري خلال حكم آل الأسد".
ويتابع: "أما الجديد في هذا، فهو موقف الشيخ الهجري، الذي تميز عن زميليه منذ أكثر من عامين، إذ بدأ ينحاز بشكل أو بآخر إلى رأي الأكثرية من الناس، ويصدر مواقف وخطابات مؤيدة لكل حراك حصل في السويداء. بل بدأ يتهم مباشرةً الأجهزة الأمنية والحزبية التابعة للنظام بإفساد مجتمع السويداء، وبث الفتنة بين الأهالي وتشجيع العصابات على أعمال الخطف والنهب والقتل، إضافة إلى الاتجار بالمخدرات والسلاح والوقود".
عماد العشعوش: التباين في مواقف الرئاسة الروحية لم يكن جديداً
ويعتبر العشعوش أنه "يُمكن القول إن الشيخ الهجري استطاع بمواقفه هذه أن يصبح قائداً ومرجعاً، اتكأ الحراك الشعبي بشكل أو بآخر عليه، وفي الوقت نفسه شكّل مصدر أمان ديني وعائلي للعديد من الأهالي في المحافظة، حتى بات اسمه وصوره وأقواله مرتبطة بالكثير من ساحات الاعتصام، وعلى العديد من وسائل التواصل الاجتماعي".
وتُعتبر الرئاسة الروحية للموحدين الدروز، أو "مشيخة العقل"، المرجع الأعلى للطائفة الدرزية في البلدان التي يقطنها الدروز، وهي كمؤسسة دينية تشبه في وظائفها ومهامها مؤسسات دينية لطوائف مختلفة، كـ"الفاتيكان" عند المسيحيين الكاثوليك، أو "الأزهر" بالنسبة إلى المسلمين السنّة، ويمكنها أن تُشرع فتاوى وقرارات دينية واجتماعية مُستوحاة من كتب "الحكمة" (خاصة بالطائفة) وشروحاتها بما يخصّ حياة الطائفة الدرزية الاجتماعية والدينية.
وغالباً ما تأخذ الحكومات في مناطق وجود الدروز بهذه التشريعات، وتعمل على تضمينها بقوانين وأحكام تخصّها بها، مثل المحاكم الشرعية، وقوانين الأحوال المدنية، كما الحال في سورية، إذ يخص قانون الأحوال المدنية المسلمين الدروز بمحكمة شرعية خاصة بهم.
وبحسب بحث وتحقيق للباحث تيم زيدان، بعنوان "السويداء: ديناميات الصراع وجذوره ودور المجتمع المدني" لم تُعرف تاريخياً الرئاسة الروحية لطائفة المسلمين الموحدين الدروز، أو توجد ككيان، إلا في أوائل القرن الخامس عشر، زمن الأمير بدر الدين العنداري، في فترة التناحر مع الحكم المسيحي في جبل لبنان، حيث حكم "الشهابيين". حينها وجد الدروز ضرورة وجود قيادة سياسية ومرجعية دينية درزية، في مقابل الكنيسة المارونية لدى المسيحيين.
أما في سورية، حيث توزعت العائلات الدرزية، المهاجرة من جبل لبنان وفلسطين، بين أقلية في جبل السماق بمحافظة إدلب وأخرى في بلدات الجولان والقنيطرة، وأكثرية في حوران جنوب سورية، فقد استُحدثت "مشيخة العقل" عام 1803، زمن حاكم جبل حوران حمدان الحمدان لكي تتولى شؤون الطائفة الدينية. ووقع الاختيار حينها على الشيخ ابراهيم الهجري، وأصبحت بلدته قنوات، الواقعة إلى الشرق من مدينة السويداء، مركزاً للرئاسة الروحية، وما زالت حتى اليوم.
ومع تزايد عدد السكان وموجات النزوح إلى جبل حوران، اختير ثلاثة مشايخ لإدارة شؤون الطائفة، وخُصص مركز عمل لهم في مقام "عين الزمان" ضمن مدينة السويداء، حيث يعتبر المكان الرسمي لإدارة شؤون الطائفة.
وكالعديد من المناصب العائلية والدينية، حافظت هذه المراكز الثلاثة على طابع التوريث ضمن العائلة، فاستأسرت بها ثلاث عائلات في السويداء، هي: الهجري والحناوي وجربوع، من دون النظر إلى العلم في الدين أو الكفاءة في القيادة.
تأثير المشيخة يأتي تاريخياً من قربها من السلطة
ويقول الكاتب جمال أبو رافع إن "مشيخة العقل، وإن كانت لا تملك سلطة فعلية مباشرة على الناس، إلا أن وجودها وحجم تأثيرها لطالما كان مرهوناً بمدى قربها من السلطة الحاكمة، وغالباً ما استمدت قوتها من علاقاتها مع السلطة، وهذا ينطبق تماماً، وخلال عقود من الزمن، على الرئاسة الروحية في السويداء. وفي المقابل، وعلى أرض الواقع، لم تستطع المشيخة أن تُشكل سلطة مطلقة على الدروز".
ويذكّر أبو رافع، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الانتداب الفرنسي استطاع أن يستصدر في عام 1923 حرماً دينياً على قائد الثورة السورية الكبرى سلطان الأطرش، وعلى من يقف إلى جانبه في ثورته الأولى على الانتداب الفرنسي، بينما هذا الحرم لم يمنع الآلاف من المقاتلين من الوقوف معه في ثورته، ولم يكن ذا تأثير يُذكر".
جمال أبو رافع: لم تستطع المشيخة على أرض الواقع أن تُشكل سلطة مطلقة على الدروز
ويضيف أبو رافع: "ليس بعيداً عن واقع مشيخة العقل في تاريخنا الحالي، والدور الكبير الذي تلعبه السلطات الأمنية في تعزيز مكانة أحدهم على الآخر، والعمل دائماً على تفريقهم واستخدامهم لتعزيز السلطات الأمنية في المحافظة، فقد ظهر انعكاس وتمرد من الشارع المحلي بعد نشوب الثورة السورية عام 2011. وظهر ذلك جلياً في إنشاء حركة رجال الكرامة المناهضة للنظام ولمشيخة العقل في آن واحد، بوقت من الأوقات عندما كان قائد الحركة الشيخ وحيد البلعوس، وربما هذا ما يفسر المواقف المتقدمة حالياً للشيخ الهجري مع الحراك الشعبي".
وتأسست "حركة رجال الكرامة"، وهي حركة مسلحة، على يد الشيخ وحيد البلعوس عام 2013 قبل اغتياله عام 2015، وأخذت على عاتقها أن تحافظ على خصوصية المحافظة في ظل الحراك من خلال حماية السويداء، وعدم المشاركة في القتال مع أي من أطراف الحرب السورية. كما دافعت الحركة عن الشبان من أبناء المحافظة أمام عدم تجنيدهم وزجهم إجبارياً في صفوف قوات النظام السوري.