منذ انطلاق مسار أستانة التفاوضي حول القضية السورية مطلع عام 2017، لم يحقق ما يمكن أن يمهّد الطريق أمام حلول سياسية لهذه القضية، بل كان سبباً مباشراً لنزع كل أوراق القوة من يد المعارضة السورية، التي فقدت أغلب المناطق التي كانت تسيطر عليها، لا سيما في محيط العاصمة دمشق. كما لم يقترب هذا المسار بشكل جدي من أهم المهام التي أخذ على عاتقه معالجتها، وهو ملف المعتقلين لدى النظام والمقدر عددهم بعشرات الآلاف، بسبب خشية النظام من التبعات القانونية لهذا الملف. ويبدو أن الجانب الروسي يحاول إنعاش هذا المسار المتوقف منذ نهاية العام الماضي، إذ قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، في إفادة صحافية يوم الخميس الماضي، إن الثلاثي الضامن لمسار أستانة (روسيا وإيران وتركيا) يعمل على جدول أعمال مباحثات مؤتمر أستانة بشأن سورية، في جولته المقبلة، غير أنها لم تشر إلى موعد محدد لها، وفق ما نقلته وكالة "تاس" الروسية. وأشارت إلى أن الثلاثي الضامن يحاول الاستفادة من تأجيل المباحثات في العاصمة الكازاخية بسبب فيروس كورونا، للتفكير حول كيفية ملء اجتماعات أستانة بمواضيع محددة جديدة جنباً إلى جنب. وألمحت زاخاروفا إلى أن الدول الضامنة ستفكر أيضاً في إعطاء هذه اللقاءات دفعة جديدة من خلال نشاط أكبر في إطار مجموعة العمل من أجل الإفراج عن المعتقلين والمختطفين، وتسليم الجثث والبحث عن المفقودين.
وتوقفت مباحثات أستانة عند الجولة رقم 14، التي عقدت في ديسمبر/كانون الأول الماضي، غير أن اجتماعاً عُقد عبر دائرة تلفزيونية، في إبريل/نيسان الماضي، وذلك بعد تأجيلها بسبب تفشي كورونا، اقتصر على وزراء خارجية الثلاثي الضامن لتفاهمات هذا المسار، مولود جاووش أوغلو ومحمد جواد ظريف وسيرغي لافروف.
تُعقد الجولة الـ15 من مسار أستانة في ظلّ تحوّل إدلب إلى صندوق رسائل دامية
وتعقد الجولة 15 من مسار أستانة في ظل ظروف بالغة التعقيد على الصعيدين الميداني والسياسي، ولا يزال الموقف في محافظة إدلب ومحيطها من دون حسم، في ظل تهديدات من النظام والروس بالبدء بعمل عسكري واسع النطاق في ظل انسداد الآفاق أمام الحلول السياسية. وتحولت إدلب منذ توقيع اتفاق موسكو بين تركيا وروسيا في مارس/آذار الماضي، والملحق بتفاهمات أستانة، إلى صندوق رسائل دامية من قبل الروس إلى الأتراك. وبات من الواضح ارتباط ملف الشمال الغربي من سورية بعدة ملفات إقليمية أخرى. وجاء سحب الجيش التركي جنوده من عدة نقاط مراقبة في محيط محافظة إدلب كانت محاصرة من قبل قوات النظام، ليؤكد أن تفاهمات أستانة تجاوزتها الأحداث التي تلاحقت، خصوصاً في الربع الأول من العام الحالي. ووضع الروس هذه التفاهمات وراء ظهورهم بدعمهم عملية عسكرية واسعة النطاق لقوات النظام، قلصت سيطرة فصائل المعارضة. وكانت تفاهمات أستانة قد أقرت إقامة 12 نقطة مراقبة في محيط محافظة إدلب من قبل الجيش التركي، غير أن قوات النظام حاصرت عدداً منها، ما أفقدها كل أهمية في ظل انهيار ما اتفق عليه الثلاثي الضامن في العاصمة الكازاخية. وكان الجانب التركي يطالب بالعودة إلى حدود منطقة خفض التصعيد الرابعة التي تقدمت بها قوات النظام تحت غطاء ناري روسي بدءا من أواخر 2019 وحتى مارس الماضي. ولكن الرفض الروسي بعودة قوات النظام إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية، دفع أنقرة إلى سحب جنودها خشية اقتحام قوات النظام للنقاط التركية في حال تجدد الصراع.
وكان مسار أستانة قد بدأ في 23 يناير/كانون الثاني من عام 2017، من "أجل تخفيف التوتر في سورية، ومراقبة اتفاق وقف إطلاق النار، والبحث في قضايا إنسانية، منها المناطق المحاصرة، وملف المعتقلين". وفي الجولة الرابعة من المفاوضات التي عُقدت في مايو/أيار من عام 2017، تم الاتفاق على مناطق خفض التوتر الأربع، وهي محافظة إدلب ومناطق في ريف اللاذقية وريف حلب الغربي، وريف حمص الشمالي، ومنطقة الغوطة الشرقية بريف دمشق، إضافة إلى المنطقة الجنوبية في سورية. ولكن قوات النظام بدعم روسي وايراني قضمت 3 مناطق، وجزءاً من المنطقة الرابعة التي تضم محافظة إدلب ومحيطها.
لا تعوّل المعارضة على حصول اختراقات على صعيد القضايا العسكرية والإنسانية
ولم يستطع هذا المسار تحقيق أي اختراق في ملف شائك كان وفد قوى الثورة العسكري يطرحه في كل جولة، وهو ملف المعتقلين لدى النظام والمقدر عددهم بعشرات الآلاف بسبب رفض وفد النظام الخوض فيه خشية مواجهة دعاوى في محكمة العدل الدولية. ولم يضغط الجانب الروسي على النظام من أجل إطلاق سراح المعتقلين من سجونه، وهو ما أبقى هذا الملف حتى اللحظة بعيدا عن التفاوض سواء في مباحثات أستانة أو مفاوضات جنيف التي ترعاها الأمم المتحدة. بل ذهب النظام إلى حد تحدي هذا المسار وتفاهماته، وسلّم في منتصف عام 2018 دوائر النفوس في المحافظات السورية أسماء المعتقلين الذين قُتلوا تحت التعذيب، بعدما كان مصيرهم مجهولاً لسنوات.
ولا تعوّل فصائل المعارضة السورية على هذا المسار في إحداث اختراقات مهمة على صعيد القضايا العسكرية والإنسانية "بسبب عدم التزام الروس والإيرانيين بتفاهمات هذا المسار مع الجانب التركي"، وفق القيادي في فصائل المعارضة العميد فاتح حسون. وفي حديث مع "العربي الجديد"، أعرب حسون عن اعتقاده بأن الدول الثلاث المعنية "ترى أن هذه المباحثات لم تعد تقتصر على الملف السوري، بل مرتبطة بليبيا وناغورنو كاراباخ، ومن الممكن التنسيق حول هذه الملفات الثلاثة". وأشار إلى أن بقاء محافظة إدلب كمنطقة خفض للتصعيد، ناتج عن هذه المباحثات، مضيفاً: "تركيا استطاعت إدخال عدد كبير من قواتها إلى سورية بموافقة روسيا وإيران، ويعتبر هذا من مكاسب الثورة السورية التي أصبحت يتيمة بلا اهتمام دولي". وحول التلميح الروسي عن أن الجولة المقبلة من مسار أستانة تتناول موضوع المعتقلين، أشار حسون إلى "روسيا قبل كل جولة من جولات أستانة توحي بأنها ستبحث في ملف المعتقلين، لتحفيز لضامن التركي وقوى الثورة والمعارضة السورية على المشاركة"، مضيفاً: "لا أعتقد أنها (روسيا) ستمضي بهذا الملف، فهي باتت بلا مصداقية".