رغم إعلان البرلمان الأوكراني (الرادا) كييف عاصمة لجمهورية أوكرانيا الشعبية في نهاية عام 1917، تعمد البلاشفة نقل العاصمة الأوكرانية من كييف إلى خاركيف عام 1919، بعد تغيير اسم البلاد كذلك إلى جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية، التي باتت من أوائل الدول المؤسسة للاتحاد السوفييتي.
يعتبر الإعلامي الأوكراني فيتالي بورتنيكوف أنّ البلاشفة اختاروا خاركيف عاصمة لأوكرانيا في ذلك الوقت لدوافع أمنية استندت إلى إمكان الدفاع عنها باعتبار أنّ موقعها قريب من الحدود الروسية. ويقول لـ"العربي الجديد": "كانت كييف عاصمة لجمهورية أوكرانيا الشعبية، لكنّ الأقلية البلشفية انتقلت إلى خاركيف، ونصّبت نفسها حكومة شرعية مع اعتماد تسمية الدولة بجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية. وبعدما تأكدت من زوال الخطر اتخذت هذه الأقلية كييف مجدداً عاصمة عام 1934".
خاركيف قلعة الصناعة السوفييتية
في بداية الحقبة السوفييتية، لم تتحوّل خاركيف البروليتارية إلى مركز السلطة في أوكرانيا فحسب، إنما أيضاً إلى قلعة صناعية للاتحاد السوفييتي بأسره إثر احتضانها العديد من المصانع الكبرى. ويلفت الخبير الاقتصادي الروسي، ليونيد خازانوف، في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أن خاركيف كانت تحتضن في الحقبة السوفييتية مجموعة من المصانع الكبرى التي وفرت معدات للقطاعات العسكرية ومنشآت الطاقة النووية، وانتجت ماكينات وأجهزة كهربائية. واهتم أحد هذه المصانع بإنتاج مركبات نقل ودبابات لتلبية احتياجات الجيش السوفييتي، وبينها دبابات من طراز تي 34 التي لعبت دوراً مهماً في الانتصار على ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية". يضيف: "من بين المنشآت الصناعية الشهيرة في خاركيف خلال الحقبة السوفييتية أيضاً، مصنع إلكتروتياجماش لصنع غسالات من ماركة خاركوفتشانكا وعصارات من ماركة روسينكا التي كانت تباع في أنحاء البلاد. أما مصنع خاركيف للتوربينات (توربو آتوم حالياً) فعرف بإنتاج توربينات بخارية للمحطات النووية".
وحول أوضاع مصانع خاركيف بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، يتابع: "شهدت هذه الفترة انهياراً لصناعات خاركيف في ظل إفلاس بعض المنشآت مثل المنجل والمطرقة وبورشين للمحركات، وتدهور أداء أخرى مثل مصنع خاركيف لماكينات النقل. في المقابل، حافظ تورب آتوم على موقعه جزئياً بفضل عقود تصدير إلى الخارج عوضت تراجع الطلب على توربيناته في أوكرانيا ذاتها. وهكذا، تدهورت أوضاع خاركيف كمدينة صناعية كبرى في شكل سريع، بدليل بطء وتيرة الإعمار السكني مقارنة بالحقبة السوفييتية".
"هكذا يجب أن تستقبل الرئيس"
يبلغ عدد سكان خاركيف 1.45 مليون غالبيتهم من الناطقين بالروسية، وتزيد مساحتها عن 300 كيلومتر مربع، وهي واحدة من المدن الأوكرانية الثلاث التي يوجد فيها مترو للأنفاق إلى جانب كييف ودنيبر. في حلقات المسلسل السياسي الساخر "خادم الشعب" من بطولة الممثل الكوميدي السابق الرئيس الأوكراني الحالي فولوديمير زيلينسكي، ينتخب مدرس تاريخ متواضع يعرف ببساطته ويدعى فاسيلي هولوبورودكو رئيساً لأوكرانيا، وينفذ جولة تشمل مدناً أوكرانية بينها خاركيف، إذ يستقبله محافظها الفاسد والمتواطئ مع أحد كبار الأوليغارشيين (رجال الأعمال في الجمهوريات السوفييتية السابقة الذين كسبوا ثروات بسرعة خلال عصر الخصخصة) في البلاد، ويحاول أن يظهر أمامه كأنه متواضع أيضاً.
وحين يصل محافظ خاركيف الذي يحمل اسم تاراس أندرييفيتش في المسلسل، إلى محطة القطار على متن موكب من السيارات الفاخرة يخلع ساعته الذهبية ويستبدلها بأخرى رخيصة قبل أن يستقبل الرئيس، ثم يُفاجأ بأن موظفي ديوانه أعدوا استقبالاً مهيباً للرئيس في أول زيارة له إلى المدينة، ما يصيبه بذعر وخوف من ردة فعل الرئيس المعروف بشخصيته المتواضعة، ومن احتمال تداول الموقف في وسائل الإعلام.
ويقرر أندرييفيتش حينها استبدال سيارات الموكب الفاخر بأخرى متهالكة سوفييتية الصنع لتنظيم تنقلات الرئيس في المدينة، ويتحدث إليه باللغة الأوكرانية التي يندر استخدامها في المسلسل الذي يعتمد على اللغة الروسية: "البلاد كلها تتطور، لماذا؟ لأنه وصل إلى الرئاسة شخص أمين وذكي وطيب مثلكم". ثم تقاطع رنة هاتف الرئيس حديثه مع المحافظ، فيرد هولوبورودكو على اتصال رئيس الوزراء السابق والمتعاون معه، يوري تشويكو، الذي يطالبه بالظهور أمام المحافظ كشخصية حازمة وعنيفة، ومخاطبته بعبارات مثل "اخرس" و"هل نسيت بمن تتصل؟" و"لا أحتاج إلى مبرراتك" و"لديك عشر ثوان حتى تعطيني الإجابة المطلوبة" فتظهر علامات الرعب على وجه المحافظ.
بدأ الفلاحون الأوكرانيون والقوزاق الذين أسسوا خاركيف، باستيطان الأراضي غير المأهولة في القرن السابع عشر، بعدما هربوا من نير اللوردات البولنديين في غرب أوكرانيا وترانسنيستريا. ومنذ بداية القرن التاسع عشر، تطورت خاركيف كمركز صناعي مهم، وتحوّلت في النصف الثاني من القرن ذاته إلى أحد أكبر المراكز الاقتصادية في الإمبراطورية الروسية ثم الاتحاد السوفييتي بعد تأسيسه.
ومع إطلاق العملية العسكرية التي تقودها روسيا في أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، شنت القوات الروسية هجمات صاروخية وباستخدام سلاح الجوي على خاركيف من دون أن تنجح في السيطرة على المدينة، فانسحبت من العديد من البلدات المحيطة بها، وركزت عملياتها على مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك اللتين اعترفت سابقاً من جانب واحد باستقلالهما عن أوكرانيا.
واحتضنت خاركيف 60 معهداً للبحوث العلمية ونحو 30 جامعة و8 متاحف و7 مسارح، وعرفت بأسواقها أيضاً التي تجاوز عددها 20، وأشهرها سوق باراباشوفو ثاني أكبر سوق في أوكرانيا بعد "الكيلومتر السابع" في مدينة أوديسا، وأحد الأكبر أيضاً في أوروبا. وقد تعرض لتدمير كبير خلال الغزو الروسي الأخير.