تثير تصريحات ومواقف الرئيس التونسي قيس سعيّد جدلاً متواصلاً في تونس منذ تسلمه السلطة، ولكنها بدأت في الفترة الأخيرة تتجاوز الجدل السياسي والدستوري إلى إثارة مخاوف من انزلاقات قد تهدد الوضع في البلاد، على الرغم من أن البعض يقلل من تداعيات وخطورة هذه المواقف. وفيما تحدث البعض عن بداية توضح مشروع سعيّد السياسي، فإن آخرين لا يزالون يرون في شخصية الرئيس الكثير من الغموض، متسائلين عما يريده سعيّد بالتحديد ويعمل على إنجازه؟
وفي جديد المواقف الجدلية، اعتبر سعيّد في كلمة له الأحد الماضي بمناسبة عيد الأمن التونسي، أنه القائد الأعلى لكل القوات المسلحة كافة في البلاد (العسكرية والمدنية) بما في ذلك الشرطة والجمارك والدرك، وليس العسكرية فقط، كما هو متعارف عليه منذ استقلال البلاد. وتوجه سعيّد بتهديد مباشر في كلمته لنواب وشخصيات نافذة ومتحصنين بعلاقات مصاهرة، على حد وصفه، قائلاً "اليوم صبر وغداً أمر".
"النهضة": على سعيّد التوقف عن كل مسعى لتعطيل الدولة
وبعد رئيس الحكومة هشام المشيشي، ردت حركة "النهضة" على هذا الكلام ببيان، أول من أمس الثلاثاء، أكدت فيه رفضها لما وصفته بـ"المنزَع التسلطي لرئيس الدولة"، داعية القوى الديمقراطية إلى "رفض هذا المنزع واستكمال البناء الديمقراطي وتركيز المحكمة الدستورية". واعتبرت "النهضة" إعلان سعيّد نفسه قائداً أعلى للقوات المدنية الحاملة للسلاح "دوساً على الدستور وقوانين البلاد، وتعدياً على النظام السياسي وعلى صلاحيات رئيس الحكومة". ودعت سعيّد إلى "الالتزام الجاد بالدستور الذي انتُخب على أساسه وأن يتوقّف عن كل مسعى لتعطيل دواليب الدولة وتفكيكها".
وعن أسباب هذا التصعيد من الحركة تجاه الرئيس، أوضح القيادي البارز في "النهضة" محمد القوماني، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ "هناك اليوم تخوفات حقيقية من النزعة التسلطية التي ظهرت لدى الرئيس، خصوصاً في خطابه الأخير"، مضيفاً أن الحركة تعتبر أن خطاب سعيّد "يمثّل منعرجاً خطيراً يهدد الاستقرار السياسي ووحدة الدولة المُؤتمن عليها رئيس الجمهورية بمقتضى الدستور. إذ أبدى سعيّد إصراراً على احتكار تأويل الدستور والنزوع إلى التأويلات الشاذة". واعتبر أن سعيّد يستغل هذا الاحتكار في تأويل الدستور "لتمديد سلطته إلى ما ليس من صلاحياته". وتابع: "بدا لحركة النهضة أن رئيس الدولة يخطو خطوة خطيرة في اتجاه إقحام المؤسسة الأمنية في التجاذبات السياسية، وهو يتوعد النواب بصورة واضحة"، معتبراً أن هذا التصريح لسعيّد "يمكن أن يُفهم على أنه إعلان حرب على المختلفين معه، على غرار النهضة والحكومة والبرلمان، لأنّ الوعيد كان متعدد التسميات".
وفي قراءة لمواقف سعيّد وتحركاته، رأى القيادي في حركة "النهضة"، رئيس "مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية" رفيق عبد السلام، أنّه "من الواضح أنّ الرئيس سعيّد يريد تغيير طبيعة النظام العام، إذ يحاول فرض نظام رئاسي من خلال تأويل الدستور"، مشبهاً ذلك بـ"الانقلاب الناعم". واعتبر في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ "سعيّد يلعب دور الخصم والحكم في الوقت نفسه، ويحاول التدخل في مجالات ليست من اختصاصه". وأضاف أنه "على الرغم من الأعراف السياسية التي تشكلت بعد الثورة وطيلة 10 سنوات، إلا أن سعيّد يريد تغيير كل ذلك والتحكّم في كل صغيرة وكبيرة، ولا يتصرف كموحّد للتونسيين ولا يراعي موقعه كجامع، بل إن أغلب تصريحاته كثيراً ما تثير الصراعات وتساهم في تغذية الاستقطاب، وبالتالي نشعر وكأنه لا يزال في حملة انتخابية". وتابع عبد السلام أنّ "سعيّد رفع شعارات عدة، وبدا غير مقتنع بالأحزاب، ولا بالتنظيم الحزبي، ولا بالبرلمان، وبالتالي فلديه مشروع غامض قد يكون أقرب إلى اللجان الدستورية، وهو ما أربك المشهد السياسي".
من جهته، قال النائب المستقل حاتم المليكي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ مواقف سعيّد "هي تقريباً مواقفه قبل الانتخابات، إذ ظلّ وفياً للشخصية نفسها التي ظهر بها". وأوضح أن "ما يريده سعيّد يتلخص في ثلاث نقاط. أولاً، الرئيس يرى أنّ الحكم يجب أن يكون مبنياً على الديمقراطية المباشرة، ومرجعية سعيّد الفكرية تقوم على أن الشعب يمارس الحكم مباشرة وليس من خلال ممثليه". وتابع: "أما من الناحية السياسية، فسعيّد يؤكد أنه لا مجال للتعاطي مع الفساد ويعتبر أنه أصل الداء". وبحسب المليكي، فإن هناك "مسألة ثالثة يؤكد عليها دائماً سعيّد، وهي التمسك بالدستور، وذلك بحكم تكوينه في القانون الدستوري".
جبنون: سعيّد حافظ على الخط نفسه منذ توليه السلطة
وتابع المليكي أنّ "هناك صراعاً واضحاً بين سعيّد ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، ربما يكون قد انطلق عندما حاول رئيس البرلمان التصرف وكأنه رئيس الرؤساء، ولم يكتف بدوره في البرلمان، بل وسع من لقاءاته ومشاوراته مع أطراف مختلفة، وهو ما يرفضه سعيّد".
أما المتحدث الرسمي باسم حزب "قلب تونس" الصادق جبنون، فرأى أنّ "سعيّد حافظ على الخط نفسه منذ توليه السلطة، بالدفاع عن الحكم المباشر وتركيز السلطات". وأضاف في حديث صحافي أخيراً، أنّ "محاولة جمع القوى الأمنية بسلطة رئيس الجمهورية يبقى أمراً مخالفاً للدستور، فلسنا في نظام رئاسي يستحوذ فيه الرئيس على جميع السلطات، بل في نظام شبه برلماني".
في المقابل، رأى النائب عن "التيار الديمقراطي" نبيل حجي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ ما يريده سعيّد "غير واضح، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أين يريد الوصول، فكل تصريح جديد له مثير للجدل أكثر من الذي يسبقه". وأفاد حجي بأنّ "عملية تأويل الدستور هي آخر مشاغل التونسيين، خصوصاً في ظل الوضع الصحي الدقيق والوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب، فمتطلبات البلاد مختلفة تماماً عن تأويل سعيّد للدستور".
لكن النائب عن حركة "الشعب" هيكل المكي، اعتبر أن "دستور 2014 واضح، وينصّ على أنّ رئيس الجمهورية هو رئيس للقوات المسلحة بكل أصنافها". وقال في حديث صحافي، الإثنين الماضي، إنّ "رئيس الدولة فسر الدستور، وهذا الأمر من حقه في ظلّ غياب المحكمة الدستورية". ورداً على من اتهم سعيّد بـ"الانقلاب"، قال المكي إن الرئيس "لم يأت على ظهر دبابة ولم يشهر كلاشينكوف في وجوه الناس، بل أشهر دستوراً لم يكتبه هو، وأشهره في وجه المنقلبين الفعليين على حق الشعب في حياة كريمة".