في خضم ما تشهده العلاقات الأفغانية الباكستانية من توتر حاد ومتصاعد، تسعى بعض الجهات إلى تهدئة الأوضاع وترميم الخلاف بين الجارتين، وعلى رأس هؤلاء، علماء الدين أو الزعامة الدينية الباكستانية، وذلك بعد محاولات من قبل الزعامة القبلية وبعض علماء الدين، باءت بالفشل، بسبب إصرار كل طرف على موقفه.
وبينما ترى إسلام أباد أن قيادة "طالبان" الباكستانية وعناصرها يتخذون من الأراضي الأفغانية مقراً لهم، ويجب على كابول العمل ضدهم، علاوة على تأكيدها أن مواطنين أفغانا وبعض عناصر "طالبان" الأفغانية، يشاركون في الهجمات داخل باكستان، فإن كابول تنفي ذلك وتؤكد أن لا وجود لـ"طالبان" الباكستانية في أفغانستان، كما تؤكد أن باكستانيين أيضاً يشاركون في الهجمات داخل أفغانستان وتطالب إسلام أباد بقطع الطريق عليهم.
ومن المتوقع أن يزور الزعيم الديني الباكستاني، زعيم "جمعية علماء الإسلام" المولوي فضل الرحمن، العاصمة الأفغانية كابول، قريباً، تلبية لدعوة "طالبان" الأفغانية. وثمة تكهنات كثيرة بشأن هذه الزيارة، فالزعيم الديني لم يفصح عن أجندة الزيارة سوى أنه سيزور كابول مع مجموعة من العلماء، مشدداً في تصريح له في 28 ديسمبر/كانون الأول الماضي، على أن أمن باكستان مهم لأمن أفغانستان وكذا العكس، والتوتر بينهما سيدفعهما في اتجاه أتون ويلات لا تُحمد عقباها، بل المنطقة كلّها سوف تسير صوب الويلات نتيجة التوتر القائم.
إسلام أباد غير متفائلة
كان الزعم السائد في باكستان فور دعوة "طالبان" للزعيم الديني لزيارتها، أن كابول ربما تريد تغيير موقفها حيال "طالبان" الباكستانية، وقد دعت المولوي فضل الرحمن للحديث والنقاش. غير أنه بعد تصريحات صدرت عن مسؤولين في كابول، لا يبدو أن باكستان تعول كثيراً على هذه الزيارة.
يزور الزعيم الديني الباكستاني المولوي فضل الرحمن، كابول، قريباً، تلبية لدعوة "طالبان"
وقالت الخارجية الباكستانية في بيانٍ أصدرته في 29 ديسمبر الماضي، إن "الزيارة هي لشخص، وإن المهم بالنسبة لباكستان هو أن تبدّل كابول موقفها إزاء طالبان الباكستانية التي تنشط ضد أمن باكستان واستقرارها"، مذكّرة بتشديد إسلام أباد مراراً على أنها لن تقبل أي مساومة على أمنها واستقرارها، وأن موقف طالبان الأفغانية خيّب آمالها.
وجاء موقف الخارجية الباكستانية بعد نقاش بشأن تداول معلومات حول قيام حكومة "طالبان" باعتقال عناصر وقيادات في طالبان الباكستانية، لكن كابول اعتبرت لاحقاً أن ذلك دعاية لا أساس لها من الصحة.
وكانت الخارجية الباكستانية نفسها من بين الجهات التي أعلنت أن طالبان الأفغانية اعتقلت قيادات وعناصر من طالبان الباكستانية، كما نقلت وسائل إعلام باكستانية تصريحات عضو مجلس الشيوخ الباكستاني مشاهد حسين سيد، المعروف بعلاقاته المقربة مع المؤسسة العسكرية، ومفادها أن وزير الخارجية في حكومة "طالبان"، الملا أمير خان متقي، قد أخبره على هامش اجتماع طهران بشأن فلسطين في 23 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أن حكومة "طالبان" اعتقلت عدداً من عناصر طالبان الباكستانية المطلوبين لدى إسلام أباد والضالعين في الهجمات الأخيرة. لكن "طالبان" الأفغانية سارعت إلى نفي ذلك.
وفي هذا الشأن، قال المتحدث باسم حكومة "طالبان"، ذبيح الله مجاهد، لـ"العربي الجديد"، إن الخبر غير صحيح، مضيفاً أن وزير الخارجية الأفغاني لم يقل هذا الكلام أبداً، ونحن لم نعتقل أي عنصر في طالبان الباكستانية. وشدّد على أنه لا وجود لـ"طالبان" الباكستانية على أرض أفغانستان، "ونحن أوضحنا ذلك لباكستان مراراً، وقلنا لها إن طالبان الباكستانية شأن داخلي باكستاني وعليها أن تتعامل مع ملفها الداخلي من دون إلقاء اللوم علينا". وأضاف: "نحن واجهنا مشاكل أمنية وتعاملنا معها بكل جدية ونجاح واستطعنا أن نقضي على كل التهديدات، وعلى باكستان أن تتعامل مع قضاياها بنفسها".
لدى كابول شكوى مماثلة
ومنذ سيطرة "طالبان" على كابول، تُكرر إسلام أباد شكواها من وجود المسلحين المناوئين لها على الأراضي الأفغانية، وأن مواطنين أفغانا يشاركون في هجمات داخل باكستان. كما ذهبت إسلام أباد خلال الآونة الأخيرة، إلى أبعد من ذلك، حيث أعلنت داخليتها أن الهجوم الكبير على قاعدة عسكرية في منطقة ديره اسماعيل خان في الشمال الغربي في 12 ديسمبر الماضي، والذي أدى إلى مقتل 26 من عناصر الجيش، نفّذه أحد عناصر "طالبان" الأفغانية.
في المقابل، بدأت كابول تكرر الشكوى نفسها، وتعلن أن مواطنين باكستانيين يشاركون في هجمات داخل أفغانستان، مطالبة إسلام أباد باتخاذ التدابير اللازمة والإجراءات الصارمة من أجل قطع الطريق عليهم ومنعهم من الدخول إلى أفغانستان لأهداف تخريبية.
نفت كابول اعتقال عناصر وقيادات في طالبان الباكستانية
وفي هذا السياق، قال وزير الدفاع في حكومة "طالبان"، الملا محمد يعقوب مجاهد، خلال مؤتمر صحافي عقده في كابول، في 31 ديسمبر الماضي، إنه خلال عام 2023 تحسنت الأوضاع في أفغانستان من كل النواحي، خصوصاً من الناحية الأمنية، وإن الوضع الأمني تحسن بنسبة 90 في المائة مقارنة بالعام الذي قبله. وأكد الملا محمد يعقوب مجاهد أن قوات الأمن الأفغانية قتلت خلال العام (الماضي)، عشرات المسلحين من المواطنين الطاجيك والباكستانيين، علاوة على اعتقال مئات الباكستانيين الذين كانوا ضالعين في أعمال تخريبية في أفغانستان وكانوا يقاتلون في صفوف المعارضين وأعداء أمن أفغانستان واستقرارها.
كما شدد الملا يعقوب على أن الحكومة الأفغانية لن تقبل أي مساومة على أمن واستقرار البلاد، وأن القوات المسلحة على أهبة كاملة للدفاع عن كل شبر من أرض أفغانستان وعن حدودها وسيادتها. واتهم من وصفها بالجهات المغرضة في المنطقة، بشنّ حملات إعلامية ودعايات كاذبة مفادها أن "طالبان" تؤوي الجماعات المسلحة، والهدف منها إساءة سمعة "طالبان".
وذكّر مجاهد بأن حكومة "طالبان" تعهدت في توافق الدوحة (مع الولايات المتحدة) أن لا تشكّل أرض أفغانستان خطراً على أمن أي دولة، لذا لن تسمح لأي جماعات أن تستخدم الأراضي الأفغانية ضد أي دولة، مطالباً جهات، من دون أن يسميها، بوقف إطلاق مثل هذه الدعايات، كما طلب من المجتمع الدولي أن لا يستمع لمثل هذه الدعايات التي لا أساس لها من الصحة، وليست "إلا مجرد أكاذيب"، على حد قوله.
كابول لن تبدّل موقفها
ولم يذكر الملا يعقوب الجهة التي كان يشير إليها إلا أنه بات معروفاً أن باكستان هي التي تتهم "طالبان" الأفغانية بإيواء المعارضين لها كطالبان الباكستانية والانفصاليين. من هنا يتساءل كثيرون أنه ما دامت طالبان الأفغانية مصرة على موقفها، فما الهدف من دعوة الملا فضل الرحمن الزعيم الديني إلى كابول؟
ذبيح الله مجاهد: نحن واجهنا مشاكل أمنية وتعاملنا معها بكل جدية ونجاح، وعلى باكستان أن تقوم بالمثل
وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال، قال مسؤول في استخبارات "طالبان"، في حديث لـ"العربي الجديد"، طالباً عدم الكشف عن هويته، إن الهدف هو توضيح موقف أفغانستان وإبراز حقائق يخفيها صنّاع القرار في باكستان عن عامة الناس وعن الجماعات السياسية والدينية، منها أن عناصر "داعش" يأتون من باكستان ليعبثوا بأمن أفغانستان وهذا لا يمكن أن يحصل من دون مساعدة الاستخبارات الباكستانية. وأضاف: "قتلنا وأسرنا عشرات الباكستانيين الذين تدّربوا في باكستان، ودخلوا في صفوف داعش ثم أتوا إلى أفغانستان، كما أن لدينا أدلة ومستندات أخرى تظهر أن باكستان تسعى بكل ما أوتيت من قوة من أجل القضاء على الاستقرار في أفغانستان".
وأكد المسؤول أن لديهم أدلة تثبت أن "الاستخبارات الباكستانية حاولت بشكل مكثف، القضاء على المشاريع التنموية في أفغانستان خلال العامين الماضيين، كما طلبت بطريقة أو أخرى من طالبان أن توقف تلك المشاريع، ولكن الأخيرة رفضت ذلك". ولفت إلى أن "طالبان تريد أن تظهر أن طالبان الباكستانية تسيطر على أراض قبلية شاسعة داخل باكستان، وهي مدعومة من قبل القبائل وأبناء الشعب الباكستاني ولا تحتاج إلى دعم طالبان الأفغانية أو أي دعم من أفغانستان".
الأمر نفسه أكده المتحدث باسم حكومة "طالبان" ذبيح الله مجاهد في حديث له مع قناة محلية في الـ26 من الشهر الماضي، قائلاً إن ما يحدث في باكستان هو نتيجة انضمامها إلى التحالف الأميركي في عام 2001، حيث نهض أبناء الشعب الباكستاني ضدها ونشأت منها لاحقاً حركة طالبان الباكستانية.
تأتي كل هذه المستجدات في وقت تشهد فيه باكستان أشد أنواع العنف، كان آخرها الهجوم المسلح الذي استهدف موكب الزعيم الديني المولوي فضل الرحمن في مدينة ديره اسماعيل في 31 ديسمبر. لم يصب الرجل بأذى، غير أن الهجوم يشير إلى مدى قدرة المسلحين على الوصول إلى شخصيات مهمة وأماكن محصنة أمنياً. وكلما ازداد العنف في باكستان، كلما توترت العلاقة مع أفغانستان أكثر، كما قلّت نسبة نجاح المحاولات الرامية إلى ترميم العلاقة بين الطرفين، سواء أكانت من قبل علماء الدين أو الزعامة القبلية.