بعد أكثر من 9 أشهر على مقتل المواطن الأميركي من أصول أفريقية، جورج فلويد، على يد الشرطة في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، شمال الولايات المتحدة، تعيد محاكمة الشرطي ديريك شوفين، والتي يفترض أن تبدأ رسمياً اليوم الثلاثاء، في المدينة، فتح الجراح التي تركها في نفوس ملايين الأميركيين، مقتل فلويد اختناقاً بعدما ركع شوفين على رقبته لحوالي تسع دقائق. لكن تلك الواقعة، والمحاكمة التي توصف بالتاريخية في البلاد، وتترافق مع تعزيزات أمنية مشددة، لا تزالان تشكلان حدثين مهمين، ضمن مسيرة طويلة من النضال ضد العنصرية في هذا البلد. وعلى الرغم مما أحدثه مقتل فلويد من تبعات سياسية في البلاد، لا سيما تأثيره وما تلاه من تظاهرات حاشدة استمرت أشهراً تنديداً بعنف الشرطة، على آخر سنة من عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، فإن أي إمكانية لعملية إصلاح جذرية لقطاع الشرطة الأميركي، لا يزال بعيداً. لكن سكّان مينيابوليس من الأقليات والناشطين، ومعهم الحراك الداخلي ضد العنصرية، والذي تمكن من إلهام حراكات أخرى حول العالم العام الماضي، يأملون في أن تكون محاكمة شوفين، منصفة وعادلة، وسط خشية من تمييع القضية. ومع هؤلاء، يأمل الديمقراطيون في الكونغرس في تمرير قانون مهم لإصلاح الشرطة، يبقى دون المأمول بالنسبة للحراك، لكنه يعتبر خطوة إضافية أساسية في طريق هذا النضال الطويل. كما أن تمرير القانون، سيعزز موقع الحزب سياسياً، لا سيما مع المشهد الديمغرافي المتغير في البلاد لصالح الأقليات.كما أبدى الرئيس الأميركي جو بايدن أمله بمرور المشروع في الكونغرس، هو الذي فاز خصوصاً بأصوات الأقليات لا سيما من السود الذين لم يحظَ حراكهم بأي دعم من إدارة ترامب، بل وضعت الأخيرة نفسها مرات كثيرة في موقع المتصادم معهم.
يأمل الحراك في أن تكون محاكمة شوفين منصفة وعادلة
واجتمع المدعون العامون في قضية محاكمة الشرطي شوفين، الذي قتل فلويد في 25 مايو/أيار الماضي، ما أشعل حركة احتجاج ضد العنصرية عمّت الولايات المتحدة، ومدناً كثيرة حول العالم، في مركز الحكومة في مقاطعة هينيبين في مينيابوليس، بعدما كان مقرراً أن تبدأ المحاكمة أمس، وسط ترقب شديد لعملية اختيار أعضاء هيئة المحلفين، والتي ستستمر 3 أسابيع. لكن القاضي بيتر كاهيل قرّر أن المحاكمة لن تبدأ قبل اليوم الثلاثاء على أقرب تقدير، بعد مداولات جرت في اللحظة الأخيرة حول طبيعة التهمة الموجهة إلى الشرطي القاتل. وأعلن كاهيل أن "المرشحين لهيئة المحلفين هنا، لكن علينا أن نكون واقعيين، لن نبدأ عملية الاختيار قبل غد (اليوم) على أقل تقدير"، وذلك بعدما أبدى الادعاء مخاوف بشأن المضي في المحاكمة، في وقت لا يزال ينتظر قرار محكمة قدّم إليها التماساً لإعادة توجيه تهمة القتل من الدرجة الثالثة إلى شوفين، المتهم حالياً بالقتل غير العمد.
وحضر شوفين (44 عاماً) أمس إلى المحكمة، وهو يمثل أمامها حرّاً بعدما أطلق سراحه بكفالة. وكان هذا الشرطي تدخّل مع 3 من زملائه في 25 مايو الماضي، لتوقيف فلويد للاشتباه باستخدامه ورقة مالية مزورة بقيمة 20 دولاراً لشراء علبة سجائر، وبقي راكعاً على عنق فلويد الممدد أرضاً على بطنه مكبّل اليدين، على مدى 9 دقائق لم يأبه خلالها لتوسّل المواطن ونداءاته المتكررة، إذ كان يكافح لالتقاط أنفاسه. هذه الحادثة تمكن أحد المارين من تسجيلها في فيديو، وتحولت كلمات فلويد الأخيرة "لا يمكنني التنفّس" إلى شعار ردّده ملايين المتظاهرين للمطالبة بإحقاق العدالة. وفتحت التعبئة الشعبية نقاشاً جوهرياً في الولايات المتحدة حول الوسائل التي يتبعها الشرطيون وماضي البلد العنصري. وبعدما تراجعت الاحتجاجات في الخريف، عادت مجدداً نهاية الأسبوع الماضي مع اقتراب موعد المحاكمة. وأعرب المتظاهرون، لوسائل إعلام، عن خشيتهم من خيبة أمل جديدة، ومن إمكانية خروج شوفين حرّاً. وكان سبق بدء المحاكمة تحذير لعائلة فلويد، إذ أبدى خاله سيلوين جونز لوكالة "فرانس برس"، ريبته حيال "نظام" غالباً ما برّأ الشرطيين في الماضي، محذراً من أنه إذا نجا شوفين من السجن، "فسيثور العالم بأسره".
ومن المفترض أن تدخل المحاكمة في صلب القضية في 29 مارس/آذار الحالي. وسيتولى الاتهام الكلام أولاً، ليحاول إثبات أن شوفين ارتكب جريمته "عمداً"، وأن الأمر لم يكن مجرد إهمال، مستنداً إلى فيديو المأساة. من جهته، سيؤكد الدفاع أن الشرطي تصرف طبقاً للتدريب الذي تلقاه، وأن فلويد توفي بجرعة زائدة من مسكّن فينتانيل الأفيوني، كانت كشفت عملية تشريح الجثة أن الأخير استهلكه، ولكنها خلصت إلى أن سبب الوفاة كان "الضغط الممارس على عنقه". وتبعاً لفصول المحاكمة، يفترض أيضاً أن ينسحب المحلفون لإجراء مداولاتهم في النصف الثاني من إبريل/نيسان المقبل، على أن يصدر الحكم بإجماع أعضاء هيئة المحلفين الـ12، الذين سيتمّ اختيارهم من مقاطعة هينيبين. أما الشرطيون الباقون الضالعون في المأساة، ألكسندر كوينغ وتوماس لاين وتو تاو، فسيحاكمون معاً في أغسطس/آب المقبل.
مرّر مجلس النواب مجدداً قانوناً لإصلاح الشرطة، ينتظر تصويت مجلس الشيوخ
وسيتمّ اختيار المحلفين بعناية فائقة، بعدما جرى البحث عميقاً بآراء عدد كبير من الأسماء حول الشرطة ونظام القضاء في الولايات المتحدة. ونقلت وكالة "أسوشييتد برس" عن محامي شوفين، إريك نيلسون، قوله إن "الدعاية والحملة التي تلت الحادثة، والعنف الذي أجّجته، كل هذا سيجعل من المستحيل إيجاد لجنة محلفين حيادية في هينيبين". ورأى مايك براندت، وهو محامي دفاع من المدينة، في حديث للوكالة، أن المدعين العامين سيحاولون اختيار محلفين لديهم انطباعات إيجابية حول حركة "حياة السود مهمة"، وكانوا أبدوا صدمتهم من مقتل فلويد، فيما سيسعى محامو شوفين لاختيار من هم في صفّ الشرطة.
هذا الأمر ينطبق أيضاً على الحراك الذي يجري في الكونغرس الأميركي، بعدما مرّر مجلس النواب، الذي يسيطر عليه الديمقراطيون، الأربعاء الماضي، مشروع قانون جورج فلويد للعدالة، وهو أكثر مشاريع إصلاح الشرطة الأميركية طموحاً منذ عقود. وظلّ المشروع العام الماضي، عالقاً عند الكونغرس السابق، الذي كان تحت سيطرة الجمهوريين، بعدما تقدم أيضاً الحزب المحافظ بقانون آخر لإصلاح الشرطة أقل طموحاً. وتمّ التصويت على مشروع القانون الأسبوع الماضي، بـ220 صوتاً مقابل 212 رفضوه. ويمنع مشروع القانون عمليات الخنق التي تنفذها الشرطة للمعتقلين، أو المشتبه فيهم، كما يحظر ما يسمى بـ"الحصانة الموصوفة" لقوات فرض القانون، ويخلق معايير وطنية موحدة لعمل الشرطة، في محاولة لتعزيز المحاسبة. ولم يتطرق المشروع إلى مسألة وقف تمويل الشرطة، كما طالب الحراك. ويعد تمرير القانون في مجلس الشيوخ، رغم صعوبته، بأهمية تمرير قانون الحقوق المدنية في العام 1964، وقانون الحقوق الانتخابية في 1965.