في 24 يناير/ كانون الثاني 2016، قال المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية حينها، دونالد ترامب، في تجمع انتخابي، إن بإمكانه أن يُطلق النار على أحد المارة في الجادة الخامسة بمانهاتن، ويرديه قتيلاً، من دون أن يخسر أياً من الذين سيصوتون له. والعام الماضي، قال ترامب الرئيس، إثر تبرئته في مجلس الشيوخ خلال محاكمته الأولى في قضية "فضيحة أوكرانيا": "أعتذر منكم أيها الكارهون، أنا باقٍ هنا (في البيت الأبيض)، ولن أذهب إلى أي مكان آخر".
مضت خمس سنوات، منذ أن بدأ نجم ترامب يسطع في عالم السياسة الأميركية، ويتقدم في استطلاعات الرأي الانتخابية، حتى مكوثه 4 سنوات في البيت الأبيض، وسط سجل حافل بتحريض وأكاذيب متواصلة، وتقويض ممنهج للديمقراطية الأميركية، ليجد خصومه أنفسهم اليوم، جمهوريين وديمقراطيين، بانتظار المزيد من الاختبارات لمعرفة مدى إمكانية إنهاء ظاهرته الشعبوية والتخلص من إرثه. وكانت الفرصة لحصول ذلك قد لاحت مع محاكمة ترامب الثانية بقضية تحريض أنصاره على اقتحام الكونغرس في 6 يناير الماضي، لكن هذه المحاكمة انتهت أول من أمس السبت، بتبرئة كانت متوقعة في مجلس الشيوخ.
ربما كانت تصفية ترامب سياسياً، وقبل أيّ شيء كمرشح محتمل للرئاسة في 2024، لتكون أسهل، لو تمكن "الشيوخ" من إدانته، بقضية الاقتحام الدموي. لكن ترامب، المتحفز للانتقام من كل المتواطئين ضده، والمستند إلى شعبويته وشعبيته المرتفعة والمتواصلة لدى القاعدة الجمهورية، لرد اعتباره بعد خسارته انتخابات 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أمام جو بايدن، قد مُنح فرصة جديدة للبقاء في المشهد، وسيفاً مسلطاً كـ"مشروع رئيس مقبل"، على ساسة واشنطن. ورغم "انكساره" منذ نتائج الرئاسيات، وظهوره لدى نصف الأميركيين كرئيس مضرّ للديمقراطية الأميركية، فإنه راكم نفوذاً داخل الحزب، ويعتبر أن مشروعه السياسي لم يمت. هكذا، فإن تبرئته قد تصب لصالحه، أو لا تجعله متضرراً على الأقل، لاختبار مدى استمرار دوره وفاعليته في المشهد السياسي الداخلي، خصوصاً عبر تعويله على سردية "الضحية" التي تجد لها امتصاصاً شعبياً لدى نصف الأميركيين تقريباً.
ميتش ماكونيل: ترامب لم يفلت من أي شيء بعد
من جهتهم، عاد الجمهوريون للسقوط في فخّ الأصوات الانتخابية، والحلم باستعادة الأغلبية في الكونغرس بعد عامين. وصوّت أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب المحافظ لصالح تبرئة ترامب، في محاكمته الثانية، تاركين مسألة معالجة الانقسام داخل الحزب الجمهوري معلقة، "وإلى ما ستؤول إليه الأمور"، على حدّ قول السيناتور الجمهوري تشاك غراسلي لدى سؤاله عن مستقبل الحزب. وبعيداً عن الانقسام الحزبي الواضح داخل مجلس الشيوخ الذي قاد إلى أن تكون التبرئة مُسّيسة بامتياز، فإن محاولة الديمقراطيين خلال المحاكمة التأثير على نظرائهم الجمهوريين، من خلال بث مشاهد مؤثرة للاقتحام الدامي، لم يمنع المجلس من السقوط أيضاً في اختبار "التصويت الأخلاقي" لمعالجة الندوب التي تركتها الواقعة في نفوس ملايين الأميركيين، وفي الديمقراطية الأميركية.
ورغم أن ترامب حصد 3 ألقاب من خلال المحاكمة، كأول رئيس أميركي يحاكم في مجلس الشيوخ مرتين، والأول الذي يحاكم في المجلس بعد مغادرته السلطة، وأول رئيس يحصل على هذا العدد من الأصوات المدينة له من داخل حزبه في الكونغرس (17 بين نواب وسيناتورات)، وذلك بعدما أصبح أول رئيس أميركي منذ العام 1932، يخسر انتخابات الرئاسة والكونغرس بشقيه، إلا أن ذلك لم يمنعه من التأكيد إثر تبرئته أن معركته قد بدأت للتو، إذ إن هذه المعركة تركها الجمهوريون في الكونغرس مفتوحة على مصراعيها، عبر التبرئة التي منعت تصويتاً لاحقاً كان سيجرى لحرمان ترامب من الترشح وتبوؤ أي منصب فيدرالي.
هكذا، بقي الحزب الجمهوري، إثر انتهاء المحاكمة، معلقاً في حبال ترامب، ومنقسماً بين جناح يميل إلى التخلص من إرث الرئيس السابق سريعاً، ويضم أسماء من الملفت أن معظمها لا يخضع لاختبار انتخابي قبل 4 أعوام على الأقل، أو مرشحة للرئاسة في 2024، أي منافسة لترامب إذا ما قرر الترشح مجدداً (مثل نيكي هالي)، وجناح منقسم بالتساوي بين الذين يحتاجون لدعم ترامب للحفاظ على مواقعهم والتقدم سياسياً وبين المتشددين الجدد المتوافقين مع شعبوية الملياردير الجمهوري.
وقد يكون ميتش ماكونيل، زعيم الأقلية الجمهورية في "الشيوخ"، الصورة الأوضح لهذا التردد الجمهوري في اقتناص الفرصة لرسم ملامح أولية لمستقبل الحزب بعد ترامب، والازدواجية في المعايير، واللعب بين حبل التبرئة، وحبل الإدانة الشفوية غير الفاعلة على الأرض، إذ لا تزال غير مفهومة الحسابات السياسية لماكونيل، التي قادت لإطلاقه خلال المحاكمة وعلى إثرها، أعنف إدانة لفظية لترامب تصدر عنه منذ وصول الأخير إلى البيت الأبيض، وفي الوقت ذاته إبلاغ نظرائه الجمهوريين في الكونغرس قبل جلسة المرافعات الأخيرة السبت، قراره بالتصويت ضد إدانة الرئيس السابق. وقد كان ممكناً لو حصل عكس ذلك، أن يدفع الكثير من الجمهوريين في المجلس للاقتداء بالرجل الجمهوري القوي، والذهاب إلى الإدانة. هذا الغموض في الحسابات السياسية يُحسب أيضاً عندما أكد ماكونيل، المنقلب بعد سنوات من التعايش مع الرئيس السابق والتعاون معه لتمرير أجندة جمهورية متشددة، إمكانية استمرار محاكمة ترامب في المحاكم الأميركية الجنائية والمدنية. ويعني ذلك أن المنظومة الحاكمة في واشنطن قد تذهب إلى خيار تصفية ترامب، بأشكال أخرى، إذا ما اقتضت الحاجة.
أما الحزب الديمقراطي فينتقل بعد طيّ صفحة المحكمة إلى تثبيت أجندة بايدن الانتخابية، والتعاون مع الجمهوريين في الكونغرس، بقدر الإمكان. في الأثناء، ظلّت استطلاعات الرأي تؤكد أن شعبية ترامب لم تتأثر لدى القاعدة الجمهورية، بواقعتي الاقتحام والمحاكمة. هذا الواقع، سيخضع بشكل خاص إلى أسلوب بايدن في التعاطي مع أزمة الانقسام الشعبي في البلاد. وكان أول اختبار لذلك، يوم السبت، حين اعتبر بايدن في بيان أن على القادة السياسيين ترميم الهشاشة التي أصابت الديمقراطية الأميركية، واضعاً الكرة في ملعب الجميع. وكان الديمقراطيون يأملون في إدانة ترامب، لتحميله مسؤولية حصار أوقع 5 قتلى، وتهيئة المسرح لاقتراع إضافي كان سيجرى في حال تمّت الإدانة، يحرمه من تقلد منصبٍ عام مرة أخرى.
وإثر محاكمة تاريخية استمرت خمسة أيام، برّأ مجلس الشيوخ الأميركي، أول من أمس السبت، الرئيس السابق دونالد ترامب، في ثاني محاكمة له خلال 12 شهراً، وصوّت عليها مجلس النواب في 13 يناير/ كانون الثاني الماضي، حين كان ترامب لا يزال في البيت الأبيض. وفي يوم المرافعات النهائية، التي قادت إلى صفقة بين الديمقراطيين والجمهوريين لإنهاء المحاكمة، عبر تجنب استدعاء المزيد من الشهود، ظلّ فريق الدفاع عن ترامب، وعدد كبير من الجمهوريين، يجادل بأن المحاكمة "غير دستورية"، لأن الأخير ترك السلطة (في 20 يناير)، كما أن خطابه وسط أنصاره، قبيل اقتحام الكونغرس، والذي يعتبر أساس التحريض للهجوم، محمي في نظرهم بضمان الحق في حرّية التعبير. ورفض 43 جمهورياً في مجلس الشيوخ (من أصل 100 عضو في المجلس) إدانة ترامب بشأن دوره في الهجوم الدامي على الكابيتول. وجاء تصويت المجلس بأغلبية 57 صوتاً أدانوا الرئيس السابق، وصوّتوا لعزله، وسط فشل حصد أغلبية الثلثين اللازمة (67 صوتاً) للإدانة. وانضم للديمقراطيين في تأييد إدانة ترامب 7 من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الـ50، هم ميت رومني وبن ساسي وريتشارد بور وبيل كاسيدي وسوزان كولينز وليزا موكوفسكي وباتريك تومي.
تؤكد استطلاعات الرأي أن شعبية ترامب لم تتأثر لدى القاعدة الجمهورية بواقعتي الاقتحام والمحاكمة
ورغم تصويته لتبرئة ترامب، انتقد زعيم الأقلية الجمهورية في المجلس ميتش ماكونيل الرئيس السابق بشكل عنيف، معتبراً أن الأخير "مسؤول من الناحية العملية والأخلاقية عن تفجير الأحداث في ذلك اليوم". وقال ماكونيل إثر انتهاء المحاكمة إن "الناس الذين اقتحموا هذا المبنى كانوا يرون أنهم يتصرفون وفقاً لرغبات وتعليمات رئيسهم". وأضاف أن "هؤلاء المجرمين كانوا يحملون راياته. يُعلقون أعلامه ويصرخون بالولاء له"، واصفاً تصرفات ترامب التي أدّت إلى الاعتداء بأنها "تقصير مشين في أداء الواجب". وذهب ماكونيل أبعد من ذلك، مشيراً إلى أن ترامب قد يواجه اتهامات الآن بعدما ترك منصبه. وقال في هذا الخصوص إن الأخير "لا يزال مسؤولاً عن كلّ ما فعله عندما كان في منصبه، لم يُفلِت من أي شيء بعد". ورغم ذلك، برّر تصويته لتبرئة ترامب بأنه من غير الدستوري، على حدّ قوله، أن تتمّ إدانة رئيس في محاكمة عزل بعد تركه منصبه. وكان ماكونيل قد بعث قبيل استئناف المحاكمة السبت برسالة عبر البريد الإلكتروني إلى باقي أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين كتب فيها: "أنا مقتنع بأن إجراءات العزل هي أداة استبعاد في المقام الأول، وبالتالي فإننا نفتقر إلى الاختصاص". وأضاف أن "الدستور يوضح بشكل لا لبس فيه أنه يمكن ملاحقة سوء السلوك الجنائي للرئيس وهو في منصبه، وقانونياً بعد مغادرته منصبه" (أي في المحاكم لا في "الشيوخ")، معتبراً أنه "بناء على هذه الاستنتاجات، سأصوت من أجل التبرئة".
ولا يزال ترامب (74 عاماً) يُحكم قبضته على الحزب الجمهوري، معتمداً على التأييد لنهجه الشعبوي اليميني ومبدأ "أميركا أولاً". ويدرس الرئيس السابق خوض انتخابات الرئاسة المقبلة في عام 2024، رغم ما تعرض له. وإثر تبرئته، اعتبر ترامب أن المحاكمة كانت مرحلة أخرى من "أكبر حملة اضطهاد في تاريخ بلدنا". وقال في بيان إنّ "حركتنا التاريخية والوطنية والجميلة لجعل الولايات المتحدة عظيمة مجدداً بدأت لتوّها"، مضيفاً "في الأشهر المقبلة، لدي الكثير لأتشاركه معكم، وأنا أتطلع إلى مواصلة رحلتنا الرائعة معاً لتحقيق العظمة الأميركية لشعبنا بأجمعه".
ترامب: حركتنا التاريخية لجعل أميركا عظيمة بدأت للتو
وتعليقاً على تبرئة ترامب، رأى الرئيس الأميركي جو بايدن أن "هذا الفصل المحزن في تاريخنا يذكرنا بأن الديمقراطية هشّة، وأن على كل أميركي واجب الدفاع عن الحق". واعتبر بايدن في بيان أنه "رغم أن التصويت النهائي لم يؤد إلى إدانة، فإن مضمون التهمة ليس موضع خلاف. حتى من عارضوا الإدانة، مثل ميتش ماكونيل، يعتقدون أن دونالد ترامب مذنب بالتقصير المخزي في أداء الواجب، وأنه عملياً وأخلاقياً مسؤول عن إثارة العنف الذي انطلق عنانه في الكابيتول". وقال بايدن "يجب الدفاع عن الديمقراطية دائماً. يجب أن نكون على الدوام يقظين". ودعا الرئيس الأميركي قادة البلاد إلى "الدفاع عن الحقيقة وهزم الأكاذيب"، معتبراً أنه "من خلال ذلك، ننهي هذه الحرب اللاحضارية، ونعالج أمتنا الجريحة. هذه هي المهمة التي أمامنا، والتي يجب أن نقوم بها معاً".
وكان جو بايدن أول من توقع فشل محاولات إدانة ترامب أمام مجلس الشيوخ. وربما يكون الرجل المتضرر الأكبر من مجريات المحاكمة الفاشلة، ذلك أن الانقسام المجتمعي بين الأميركيين يرتد سلباً على رئاسته، وهو الذي يرفع شعار المصالحة كأساسٍ لرئاسته، لعلمه صعوبة أن يحكم بلداً مثل أميركا في حال بلغت درجة الانقسام ما بلغته هذه الأيام. وسيكون على بايدن البحث عن أساليب عديدة لإرضاء الكتلة الجمهورية الناخبة لكي لا تشعر بالمزيد من المظلومية وبالاضطهاد وبأنها خاسرة لمصلحة فئة أخرى كاسبة.