أقرّ مجلس الوزراء المصري، يوم الأربعاء الماضي، مادة جديدة ستُضاف إلى قانون العقوبات، بعد موافقة مجلس النواب الجديد عليها. وتنصّ على منع التغطية الإعلامية والصحافية للمحاكمات الجنائية بشكل عام، مع وضع شروط شبه مستحيلة لموافقة جميع أطراف المحاكمة على التغطية، سواء كانت على شكل تصوير أو تسجيل أو بث أو نشر أو عرض كلمات أو صور لوقائع جلسة مُخصصة لنظر دعوى جنائية، أثناء انعقادها بأي وسيلة كانت، في سابقة هي الأولى من نوعها. وتكرّس الخطوة انتهاك السلطات لحقوق المواطنين في المحاكمات العادلة والعصف بمواد الدستور، إلى جانب معاداة الحريات الإعلامية.
وبموجب المادة الجديدة، فإنه في حال غطى الإعلاميون جلسة ما أو نقلوا أي شيء منها، من دون موافقة كل من رئيس المحكمة والنيابة العامة والمتهم والمدعي بالحق المدني أو ممثلي أي منهما، فسيُسجنون لمدة لا تقل عن سنة، مع غرامة بقيمة تتراوح بين 100 ألف جنيه (6367 دولاراً) و200 ألف جنيه (12734 دولاراً) عليهم، فضلاً عن مصادرة الأجهزة المستخدمة في التسجيل والبث ومحو المحتوى.
نصّت المادة الجديدة على السجن لمدة عام على الأقلّ للمخالفين
وتوفير هذه الشروط يعد ضرباً من الاستحالة العملية، مع تعدد المتهمين والمدعين في أنواع مختلفة من القضايا، لا سيما أن العديد من الأطراف تكون متضررة بشكل مباشر من نشر محتوى الجلسات، بحسب كل حالة، سواء كان المدّعي أو النيابة أو المتهم، فضلاً عن رؤساء الدوائر. مع العلم أن رؤساء الهيئات القضائية المعينين من قبل الرئيس عبد الفتاح السيسي أصدروا تعاميم بمنع التغطية الإعلامية لجلسات المحاكمات، تحديداً جلسات قضايا الإرهاب والمعارضين السياسيين، التي تشهد العديد من المخالفات القانونية والإجرائية، ولا تخرج للعلن إلا من خلال المحامين.
وحول هذه المادة المثيرة للجدل، ادّعت وزارة العدل التي كلفتها دائرة السيسي وضع هذا المشروع، بأنها تهدف إلى "منع تصوير المتهمين إعلامياً لحين صدور حكم نهائي في القضايا التي يحاكمون بها حماية لهم". واعتبرت أن "الأصل في الإنسان هو البراءة، وهذا الأصل يتمتع به كل متهم حتى يصدر ضده حكم نهائي، على نحو يجعل له الحق في ألا تُلتقط له أية صورة، في وضع يجعله محل ازدراء الآخرين أو شكوكهم".
ولا يمت هذا التعليل إلى الواقع بصلة، لأن القوانين المنظمة للإعلام تتضمن في الواقع نصوصاً، تنظم التعامل مع حالات الاتهام قبل صدور أحكام الإدانة. كما أن القضاة يمتلكون عملياً سلطة منع التصوير أو حتى التغطية الصحافية وحضور ذوي المتهمين وغير أطراف الدعوى الأصليين في أي قضية. مع العلم أن الأمر معتمد منذ سنوات في القضايا المنظورة بالأماكن الاستثنائية، التي خصصتها الحكومة لمحاكمة الإخوان المسلمين ومعارضي النظام بأكاديمية الشرطة ومعهد أمناء الشرطة بطره، مما ينفي وجاهة السبب الذي تعتمده الحكومة لتمرير المشروع أمام الرأي العام.
ويفضح النص رغبات النظام الحقيقية، بعدم اقتصار أركان الجريمة فيه على تصوير المتهمين، بل تضمينها التسجيل والنشر والبث والعرض، سواء كانت المادة مكونة من صور أو عبارات مقالة ومكتوبة أو كليهما. وفي وقتٍ تعتبر فيه الحكومة أنها تنفذ النص الدستوري الذي يؤكد افتراض براءة المتهم قبل صدور حكم بإدانته، تتجاهل نصاً آخر يتكامل معه في المادة 100 من الدستور، وينصّ على: "تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب، وتكفل الدولة وسائل تنفيذها على النحو الذي ينظمه القانون". بالتالي، يجرّد المشروع الجديد كل المحاكمات الجنائية من شرط العلانية، الذي يفترض تطبيق رقابة الشعب على الأحكام في العصر الحديث، الذي تتعدد فيه أماكن المحاكمات ويتعذر فتحها للعامة.
مع العلم أن الحكومة المصرية التي تتحدث عن حرصها على حقوق المتهمين، هي نفسها التي تسارع بواسطة أجهزتها الأمنية إلى نشر صور المعارضين السياسيين في أوضاع مهينة بعد القبض عليهم وأثناء محاكمتهم، أو نشر معلومات كاذبة عنهم من خلال وسائل الإعلام التابعة للمخابرات العامة. وهذا كله بعيداً عن نطاق تغطية المحاكمات التي تسلط الضوء في العادة على توافر الضمانات القانونية، والمفارقات بين اتهامات النيابة أو المدعين ودفاع المتهمين وصولاً إلى صدور حكم القضاء.
ويهدف المشروع الجديد إلى منع المحامين من نشر تفاصيل المحاكمات وما يرتأونه من مخالفات قانونية أو إجحاف بحقوق موكليهم، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كبديل لوسائل الإعلام التي لم يعد القضاة يسمحون لها بالتغطية في معظم المناسبات، منذ ظهور أول نسخة من هذا المشروع نهاية عام 2017. وكانت وزارة العدل تطمح آنذاك إلى اشتراط موافقة رئيس المحكمة كتابياً فقط على التغطية ليسمح للصحافيين بذلك، الأمر الذي أصبح في المشروع الحالي جزءاً فقط من الصعوبات الموضوعة أمام الإعلام.
اعتادت الحكومة على نشر صور معارضيها في أوضاع مهينة أثناء القبض عليهم
كذلك يعكس المشروع إصرار النظام على ضرب النصوص الدستورية الصريحة بعرض الحائط، فيفرض عقوبة السجن كجزاء محتمل ومتاح للقضاة استخدامه ضد من ينشر تفاصيل المحاكمات. ويخالف هذا البند بصورة صريحة المادة 71 من الدستور التي تنص فقرتها الثالثة على "ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في أعراض الأفراد، فيحدد عقوباتها القانون".
وشرحت مصادر قضائية في وزارة العدل لـ"العربي الجديد" السبب المباشر لطرح المشروع مرة أخرى، بعد ثلاث سنوات من تقديم نسخة مخففة منه للمرة الأولى، وهو انزعاج النظام من نشر تفاصيل تتعلق بمحاكمات المعارضين السياسيين على وسائل التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة. وهي شهادات أوضحت مدى تناقض الاتهامات الموجّهة إليهم وضعفها، فضلاً عن سوء معاملة القضاة لهم. وأظهر الانزعاج عدم قدرة القضاة على التحكم في ما يسجله ويعرضه ويروي تفاصيله المحامون الحاضرون خلال الجلسة، فضلاً عن عدم سيطرة محاكم الاستئناف بشكل كامل على التغطية الصحافية للجلسات في محاكم الأقاليم. وأضافت المصادر أن من بين الأسباب التي دعت أطرافاً عدة، مثل مجلس القضاء الأعلى والنيابة العامة لتشجيع هذا المشروع، هو انتشار مقاطع الفيديو الساخرة من القدرات اللغوية والخطابية الضعيفة لبعض القضاة وممثلي النيابة في قضايا الإرهاب.
وسبق أن رصدت منظمات حقوقية مختلفة أكثر من مئتي حالة سوء معاملة للصحافيين ومنع للتغطية الإعلامية لجلسات محاكمات قيادات الإخوان والجماعات الأخرى، أمام القضاء العادي، بين عامي 2016 و2018. مع أنه تجدر الإشارة إلى أن التغطية الإعلامية ممنوعة من الأساس للقضايا المنظورة أمام المحاكم العسكرية ودوائر تجديد السجن في القضاء العادي ودوائر الإدراج على قائمة الإرهاب. ولا يُسمح لغير محامي المتهمين بحضور معظم القضايا المهمة لقيادات الإخوان، ومنها قضيتا التخابر واقتحام الحدود التي توفي في إحدى جلساتها الرئيس المنتخب المعزول محمد مرسي في يونيو/ حزيران 2019.