مجموعتا العشرين و"بريكس"... تنافس يتجاوز الاقتصاد

17 سبتمبر 2023
مودي خلال قمة العشرين في نيودلهي (موني شرما/فرانس برس)
+ الخط -

كان من الواضح أن قمة مجموعة العشرين التي استضافتها الهند يومَي التاسع والعاشر من شهر سبتمبر/أيلول الحالي مختلفة بعض الشيء، عن نظيراتها في الأعوام السابقة.

ويعود السبب إلى أنها جاءت بعد أقل من شهر على انعقاد قمة مجموعة "بريكس" في الثالث والعشرين من الشهر الماضي، في جوهانسبورغ بجنوب أفريقيا، والتي شهدت توسعة مهمة، حتى زادت دولها حصة المجموعة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى قرابة 37 في المائة.

وكانت قمة "بريكس"، التي تضم البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا، مترددة في اتخاذ موقف واضح وصريح في منافسة مجموعة العشرين، التي تضم 19 بلداً إلى جانب الاتحاد الأوروبي.

واستبعد العديد من الوزراء الذين شاركوا في أعمالها، أن تكون المجموعة قد أُنشئت لهذا الغرض. ونفى المدير العام لإدارة الشؤون الاقتصادية الدولية بوزارة الخارجية الصينية، لي كيكسين، هذا الأمر بشكل قاطع، قائلاً إن "مجموعة بريكس ليست معادية للغرب".

غياب الرئيسي الصيني عن مجموعة العشرين وتوسعة "بريكس"

غير أن غياب الرئيس الصيني شي جين بينغ عن أعمال قمة العشرين الأخيرة بقي محل سؤال، وكذلك الأمر بالنسبة إلى موقع الصين من مشاريع التعاون الاستراتيجي، التي أقرتها القمة، خصوصاً خط سكة الحديد، الذي يربط الهند وأوروبا، مروراً بالإمارات والسعودية وإسرائيل.

وأعلنت قمة "بريكس" الأخيرة، موافقتها على انضمام الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والسعودية والإمارات إلى المجموعة. ولم يعد في وسع مجموعة العشرين أن تتجاهل دور الاقتصادات الناشئة، ليس فقط لأن مجموعة "بريكس بلس" الجديدة، (التي تشمل المجموعة إلى جانب الدول التي ستنضم أو في طور الانضمام) باتت تمثل مجتمعة نحو 37 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بل لأن مجموعة العشرين، تضم ستة أعضاء من مجموعة "بريكس" (الصين، روسيا، الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا، السعودية)، وهو ما يدفع في اتجاه إيجاد توازن دقيق بين القوى الناشئة الحازمة نفسها، لتسريع الزخم نحو بناء نظام عالمي تمثيلي أفضل، إن لم يكن النظام العالمي المثالي العادل.

إن توسيع مجموعة "بريكس" لتشمل دولاً في آسيا وأميركا الجنوبية وأفريقيا، يدل على الزخم الجديد في العالم "غير الغربي"، لتعزيز آليات التعاون المتعددة الأطراف البديلة. كما يبرز كبعض دروسها، تعزيز أطروحة دور "دول الجنوب" في النظام الدولي، وضرورة العمل لنظام عالمي متعدد الأطراف، التي تشهره الصين وروسيا بقوة بوجه الولايات المتحدة.

دول مجموعة العشرين تشعر بالضغط

الصين والهند والسعودية وتركيا، تلتقي عند جملة من المواقف تتعلق بالدور السلبي، الذي تؤديه العقوبات الغربية والرسوم الجمركية كوسائل وأساليب لفرض الأجندات. وتنظر إلى منظمة التجارة العالمية على أنها قد هُمّشت من قِبل الغرب في ما يتعلق بقواعد المشاركة، وترغب في إعادتها كهيئة تشاركية بدلاً من هيئة منفردة. ومن هنا في وسع "بريكس" أن تُقدم على بعض الخطوات في هذا الإطار.

ويبدو بصورة واضحة أن المسؤولين في الضفة الأخرى قد لمسوا مبكراً هذا التوجه، وبدت التغطية الإعلامية السلبية المفرطة لتوسيع "بريكس"، نابعة من الشعور بالضغط بسبب تنامي حجم المجموعة بشكل كبير، وهو أمر تترتب عليه مخاوف تتجاوز الاقتصاد إلى الاستقطابات السياسية، التي تتزايد حدتها بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا.


نجح توسيع "بريكس" في إيقاظ المطالبة بحاجات واهتمامات الجنوب العالمي

نجح التوسيع، في إيقاظ المطالبة بحاجات واهتمامات الجنوب العالمي، وهو الأمر الذي استغلته الهند بفعالية في سعيها إلى إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب، ضمن مساعيها لتحتل مكانة عالمية متقدمة بين الكبار. وطرحته كبند أساسي على جدول أعمال قمة العشرين، مستغلة المخاوف الأميركية والأوروبية من عملية التوسعة.

وقد استهدف هذا التوجه مصداقية مجموعة العشرين ككتلة سياسية، تهيمن عليها أميركا وأوروبا، وهو ما يفسر تململ الصين وروسيا والهند في الأعوام الأخيرة، الذي أدى إلى ظهور خطاب سياسي مختلف بشكل فردي أو داخل "بريكس".

وقد أدى ذلك إلى رضوخ مجموعة العشرين بمنح أفريقيا صوتاً فيها لأول مرة، بعد قرار قمتها في نيودلهي ضمّ الاتحاد الأفريقي إلى المجموعة.

وقبلها مُنح الاتحاد الأوروبي العضوية في مجموعة العشرين، وعلى ذلك تم قياس وضع الاتحاد الأفريقي، البالغ عدد أعضائه 55 دولة، ويقارب الناتج المحلي الإجمالي لها قرابة ثلاثة تريليونات دولار.

وهذه هي المرة الأولى التي يهتز فيها وضع مجموعة العشرين، بوصفها الطرف الذي يتحكم بآلية التجارة والتنمية العالمية، فيما بدا أن "بريكس" تهدد المسار القديم. وبات السؤال المطروح هو هل ستظل تتمتع الأخيرة بقيمة تنموية حقيقية، أم أنها ستنحدر إلى موجة من المشاحنات التجارية، التي ترتدي ملابس دبلوماسية؟

مخاوف دول مجموعة العشرين من تأثير "بريكس"

وهناك مخاوف غربية جادة لأول مرة، من التأثير الذي يمكن أن تلعبه مجموعة "بريكس"، وما يمكن أن تشكله من بديل لمجموعة العشرين، إلى حد أنه قد يصبح الغرب محاصراً في مجموعة السبع الكبار (الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا واليابان)، وانتقال مركز الثقل الاقتصادي والسياسي العالمي إلى "بريكس". وهذا أمر في ظاهره اقتصادي، لكنه في جوهره سياسي.

إن ما حدث في نيودلهي، اعتمد جزئياً على ما باتت تمثله "بريكس"، من تهديد لدفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى الاعتراف بالتزاماتهما في منظمة التجارة العالمية، والتخلي عن عقلية الفرض التعسفي للتعريفات والعقوبات، مع تجاوز أي مشاورات مع منظمة التجارة العالمية. لكن المعطيات أظهرت أن المسألة لن تقف هنا، وهي قابلة لأن تتطور أكثر في المدى المنظور.

وتشكل نزاعات الولايات المتحدة مع كل من الصين وروسيا أحد الأسباب التي فاقمت الوضع، وسرّعت من الانقسام الحاد، خصوصاً في ما يتعلق بروسيا وحربها في أوكرانيا.

وقد أيّد الرئيس الأميركي جو بايدن في 2022، دعوات "طرد روسيا من مجموعة العشرين"، فيما انسحب المسؤولون الأميركيون والكنديون والبريطانيون من اجتماعات مجموعة العشرين السابقة التي عُقدت في إندونيسيا في ذلك العام، حين كان المندوبون الروس يستعدون للتحدث.


مجموعة العشرين تنظر إلى "بريكس" على أنها خليط غير متجانس

رغم ما ظهر من مخاوف وإحساس بالتهديد من توسعة "بريكس"، يجري النظر من قبل مجموعة العشرين إلى الأخيرة على أنها خليط غير متجانس، يفتقر إلى التوافق والقواسم المشتركة الأساسية في الاقتصاد والسياسة، وأنها لن يكتب لها النجاح بسبب التنافس الكبير بين أعضائها كما هو الحال بين الصين والهند، وبين السعودية وإيران، وبين إثيوبيا ومصر، إلى جانب الحال ما بين روسيا والغرب وأوروبا.

الهند قوة في وجه الصين

ويبدو أن الولايات المتحدة تنظر باهتمام شديد، إلى بروز الهند كقوة في وجه الصين، خصوصاً أن الهند أظهرت في العقد الأخير قدرة هائلة على حرق المراحل والتقدم الاقتصادي، ولديها طموح كبير للمنافسة واحتلال دور يناسب حجم اقتصادها ومساحتها وسكانها. ويساعدها على ذلك النظام الديمقراطي الذي تتحلى به، وهذا ما يمنحها العديد من المزايا التفضيلية على عدد من دول المنطقة، خصوصاً الصين.

تحقيق تقارب بين كل من "بريكس" ومجموعة العشرين بعيد المنال، لكن الهند تحاول أن تلعب في الملعبين في ذات الوقت، بالاستفادة من التنافس. من جهة تنظر إلى مجموعة "بريكس" باعتبارها شريكاً ناشئاً قادراً على منحها دوراً مرئياً ومؤثراً عالمياً، وهو الموقف الذي من غير المرجح أن تتمكن من تحقيقه داخل مجموعة العشرين.

ومن ناحية أخرى، ففي ظل وجود الصين كأقوى منافس إقليمي للهند، وفي بعض المجالات يصل الأمر إلى التهديد، يريد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا دامودارداس مودي وضع بلاده كقوة أساسية في المنطقة، مع الحفاظ على حوار بنّاء مع الغرب. ويتناقض هذا النهج مع موقف الصين الأكثر حزماً ضد النظام الدولي القائم.

قمة مجموعة العشرين التي استضافتها إندونيسيا في مدينة بالي العام الماضي، طغت عليها مشاركة الرئيس الصيني في أول عودة إلى الساحة الدولية بعد وباء كورونا. وأثار امتناعه عن الحضور العام الحالي إلى قمة الهند الكثير من الأسئلة، والتخمينات حول موقفه من المجموعة ومن الهند، خصوصاً أنه شارك في قمة "بريكس" في جوهانسبورغ.

بقيت أسباب هذا الامتناع عن الحضور، غير واضحة، في ظل حديث عن صعوبات اقتصادية، وشائعات كثيرة يجري تداولها منذ أشهر، حول تطورات داخل الدولة في الصين والحزب الشيوعي الحاكم.

الأمر الذي يضعف موقف بكين، التي تتحضر لاجتياز مسار طويل من التنافس والمواجهات الاقتصادية والسياسية مع الولايات المتحدة. ويبدو من خلال جملة المشاريع التي تم إقرارها في قمة مجموعة العشرين أن الهند باتت طرفاً أساسياً في الاستراتيجية الأميركية البعيدة لعزل الصين، من خلال مشروع سكة الحديد الذي يبدأ من الهند إلى أوروبا، منافساً لمشروع "الحزام والطريق" الصيني.