أعاد التحقيق الذي نشرته صحيفة "ذا غارديان" البريطانية الأربعاء الماضي، وكشف تفاصيل عن مجزرة ارتكبها النظام السوري جنوب دمشق، إلى الواجهة الإعلامية فظائع أجهزة النظام الأمنية وقواته في محيط العاصمة، لتفريغه من سكانه، وإعادة هندسته ديموغرافياً، بما يحقق خطط هذا النظام بالبقاء في السلطة.
وكان لتحقيق "ذا غارديان"، ومقطع الفيديو الذي يوثق مقتل 41 مدنياً بطرق وحشية في حي التضامن جنوب دمشق في العام 2013، وقع الصدمة على عموم السوريين، الذين استذكروا المجازر التي ارتُكبت على مدى نحو 10 سنوات ولم تصل العدالة إلى مرتكبيها.
وقال المدير السابق للمجلس المحلي في حي التضامن بريف دمشق عادل قطف، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "هذه المجزرة ليست الأولى التي ارتُكبت في حي نسرين وحي التضامن، جنوب العاصمة دمشق، فهناك العديد من المجازر التي ارتُكبت في المنطقة نفسها".
هدفت مجزرة داريا لدفع السكان إلى الهجرة أو النزوح
وكانت بلدات وأحياء قريبة من العاصمة مسرحاً لأكثر مجازر النظام وحشية منذ العام 2011، والتي وثقها بالأدلة ناشطون إعلاميون وحقوقيون، لكن المجتمع الدولي لم يتحرك حتى اللحظة لمحاسبة مرتكبيها.
مجزرة داريا
كانت مجزرة بلدة داريا، الملاصقة لدمشق من الجهة الجنوبية الغربية، من أولى المجازر التي ارتُكبت، وكان الهدف منها إحداث الصدمة في محيط العاصمة، ودفع السكان إلى الهجرة أو النزوح. كما كانت رسالة دامية لبقية المدن السورية الثائرة على النظام.
وذكر ناجون من هذه المجزرة، التي وقعت منتصف العام 2012، أن المئات من المدنيين قُتلوا على يد قوات النظام والأجهزة الأمنية والشبيحة "بدم بارد"، وعثر لاحقاً على جثث نساء وأطفال في منازل وأقبية البلدة وحولها، وفي المساجد، حيث جرى إعدام كثيرين منهم رمياً بالرصاص من مسافة قريبة جداً خلال مداهمات للمنازل.
وذكرت لجان التنسيق المحلية، في حينه، أن عدد القتلى في مجزرة داريا وصل إلى 440 قتيلاً، وهو أحد أعلى إحصاءات القتلى في يوم واحد منذ اندلاع الثورة في مارس/ آذار 2011. لكن المجلس المحلي للبلدة أكد أن عدد القتلى نحو 700 مدني، بينهم 522 موثقون بالاسم. وروى ناجون من هذه المجزرة فظائع ما جرى في البلدة، التي دُمّرت بعد ذلك بشكل شبه كامل وهُجر ما تبقّى من أهلها.
مجزرة جديدة الفضل
"حرقاً وذبحاً بالسكاكين" قُتل نحو 500 مدني في إبريل/نيسان من العام 2013، في بلدة جديدة الفضل التي يقطنها نازحون من الجولان السوري المحتل، وتقع إلى الغرب من دمشق.
ووفق ناجين، استمرت المذبحة، التي قامت بها أجهزة النظام الأمنية وقواته وشبيحته، عدة أيام، ما أدى إلى مقتل عدد كبير من المدنيين، جلّهم من الأطفال والنساء، بينما أكدت لجان التنسيق المحلية في حينه مقتل 566 شخصاً في جديدة الفضل بريف دمشق، معظمهم أطفال ونساء، قتلوا حرقاً أو ذبحاً بالسكاكين.
مجزرة الكيميائي في غوطة دمشق
فجر 21 أغسطس/آب 2013، ارتكب النظام واحدة من أكثر مجازره وحشية منذ بدء الثورة وحتى اللحظة، حيث قتل بالغازات السامة أكثر من 1400 شخص في بلدات غوطة دمشق الشرقية، التي كانت خارج سيطرة النظام ومحاصرة من كل الاتجاهات.
وقالت مصادر في "الجيش السوري الحر"، في حينه، إن القصف بصواريخ محمّلة برؤوس كيميائية، جاء من مقر اللواء (155) في منطقة القلمون في ريف دمشق، باتجاه الغوطتين الغربية والشرقية للعاصمة دمشق. وظن السوريون أن أيام بشار الأسد في السلطة باتت معدودة، لأنه تجاوز الخط الأحمر الذي وضعته له إدارة الرئيس الأميركي حينها باراك أوباما.
لكن روسيا سارعت إلى التحرك، وأبرمت بسرعة كبيرة صفقة مع واشنطن يسلّم بموجبها نظام الأسد كل سلاحه الكيميائي، مقابل تفادي الضربة المحتملة، لتطوى بذلك صفحة من أكثر المجازر وحشية في الشرق الأوسط.
ولم تكن مجزرة الكيميائي هي الوحيدة في الغوطة الشرقية لدمشق، إذ قُتل وأصيب آلاف المدنيين على مدى سنوات بقصف من طيران النظام، وصولاً إلى إبريل من العام 2018، حين ارتكب النظام مجزرة ثانية بغازات سامة في مدينة دوما، لإجبار أهالي المنطقة على النزوح إلى الشمال السوري.
ووفق مصادر محلية، قُتل نحو 70 مدنياً بقصف بغاز السارين، ما دفع فصائل المعارضة إلى توقيع اتفاق مع الجانب الروسي تهجر من خلاله عدد كبير من سكان المدينة. وسبقته اتفاقات مماثلة في بلدات أخرى في الغوطة. وبدا واضحاً أن النظام كان يهدف إلى تفريغ الغوطة من جل سكانها، وهو ما تحقق عبر الحصار والقصف المتواصل والمجازر.
"مجزرة علي الوحش"
في مطلع عام 2014، قتل وفُقد ما بين 1200 إلى 1500 سوري وفلسطيني، على أيدي جيش النظام السوري و"حزب الله" اللبناني ومليشيات عراقية، في مجزرة تُعرف باسم "حاجز علي الوحش" على الطريق الواصل بين بلدتي يلدا وحجيرة جنوب العاصمة دمشق.
وكانت أحياء جنوبية في دمشق تعرضت لحصار خانق في العام 2013، وهي الحجر الأسود، والتضامن، والعسالي، والقدم، إضافة إلى بلدات يلدا، وببيلا، وبيت سحم، ومخيم اليرموك الذي كان يضم لاجئين فلسطينيين.
قتل النظام 1400 شخص بالغازات السامة في أغسطس 2013
وفي مطلع عام 2014، أعطى "حزب الله" والمليشيات الأمان للعائلات للخروج من الحصار عبر معبر حاجز علي الوحش، وهو ما دفع الكثيرين للخروج، لكنهم فوجئوا بعناصر هذه المليشيات يفصلون الشباب عن المسنين، والنساء والأطفال.
وروى شاهد عيان، لـ"العربي الجديد"، أن عناصر من المليشيات قتلوا واعتقلوا عدداً من الشبان، وفعلت الشيء نفسه قوات النظام، مشيراً إلى أن نحو 1500 شخص قُتلوا واعتُقلوا في ذاك اليوم. وأضاف: من بين المفقودين ابني الذي كان عمره 15 عاماً. لم أعرف عنه شيئاً منذ ذلك اليوم. لدي أمل أنه لا يزال حياً في معتقل ما لدى النظام أو المليشيات.
مجازر النظام السوري بلا محاسبة
وفي السياق، وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 49 مجزرة "تحمل صبغة طائفية" قامت بها قوات النظام في عموم سورية منذ العام 2011 وحتى العام 2015، قُتل فيها 3074 شخصاً، منها 5 مجازر في ريف دمشق، قُتل فيها 686 شخصاً، بينهم 113 امرأة و120 طفلاً.
وقال مدير الشبكة فضل عبد الغني، في حديث مع "العربي الجديد"، إن النظام "ارتكب عشرات المجازر في ريف دمشق منذ عام 2011"، مشيراً إلى أن عدداً منها "يحمل صبغة طائفية، بما فيها المجزرة التي كُشف عنها الأربعاء (الماضي) في حي التضامن".
وأضاف: "هذه الجرائم تفضح حقيقة هذا النظام وبشاعته وانحطاطه، وممارساته التي تعود إلى العهود المظلمة، ومن ثم لا يوجد أي شكل من أشكال التعايش معه على الإطلاق".
وأشار إلى أن ملف الانتهاكات في سورية "قُدّم إلى المدعين العامين في فرنسا وهولندا وألمانيا"، مضيفاً: "التحقيق الذي نشرته صحيفة ذا غارديان يحمل كمّاً كبيراً من الأدلة، خصوصاً لجهة الكشف عن الجهاز الأمني المسؤول والأشخاص الذين قاموا بالمجزرة، ومن ثم يمكن قبوله في المحاكم الأوروبية".
لكن عبد الغني رأى أن "الحراك السياسي السريع من قبل المعارضة السورية يجب أن يركز على وحشية هذا النظام بقواته البربرية وأجهزته الأمنية المتوحشة. بشار الأسد أشد توحشاً من أجهزته".
من جهته، قال نقيب "المحامين السوريين الأحرار" غزوان قرنفل، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "السياق العام للأحداث لا يشي بتبدل المواقف الدولية وآليات التعاطي مع الملف السوري"، مضيفاً: "لا أعتقد أن مواقف جديدة ستتخذ باتجاه ملف المساءلة".
وتابع: بعد أسبوع فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا، صرح المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أنه بصدد فتح تحقيق دولي بجرائم الحرب المرتكبة في أوكرانيا. وأضاف: بينما في سورية، وعلى الرغم من أطنان الوثائق والتوثيقات المودعة لدى الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، وعلى الرغم من صور وشهادة قيصر، وعلى الرغم من شهادة حفار القبور، لم يُتخذ أي إجراء تجاه النظام، وتم الاكتفاء بالعقوبات الاقتصادية التي تخرقها أولاً هيئات الأمم المتحدة العاملة بدمشق.
ورأى قرنفل أنه "مطلوب من السوريين المعارضين، أشخاصاً وهيئات، إعلان موقف رافض لمسار تسوية يفضي لشراكة في الحكم مع سلطة أبدعت في التفنن بقتل السوريين وتدمير بلدهم وتهجيرهم".
وأضاف: "على من يريد إجبارنا على ذلك أن يتذكر أنه لم يقبل حلولاً مماثلة مع هتلر. على المعارضة أن تعلن على الملء رفضها كل هذا المسار التفاوضي العبثي وإنهاء مهزلة (اللجنة) الدستورية و(مسار) أستانة".